يروي محسن مهدي، أحد الدارسين الكبار للتراث العربي الاسلامي: "ذات مرة رأيت في قاعة الاطلاع على المخطوطات بدار الكتب المصرية بباب الخلق بالقاهرة عالماً أزهرياً كفيفاً، وبصحبته شاب يقرأ له من مخطوط قديم ويمسك بيده قلماً جافاً ينسخ به المخطوط في كراسة. وكان الشاب يقرأ بصوت مرتفع وهو ينسخ المخطوط بينما كان العالم الكفيف ينصت، وأحياناً كان يبدي موافقته على ما يسمع، ولكنه كثيراً ما كان يأمر الشاب بألا ينسخ ما هو موجود في المخطوط وأن يكتب ما يتصوره تصويباً للنص. والأسوأ من ذلك انه يبدو كأنه اتفق مع هذا الشاب على أن يصحح الأخطاء في المخطوط نفسه بقلمه الجاف. ولم يجرؤ أمين المخطوطات في دار الكتب آنذاك، المرحوم فؤاد سيد، على مقاومة هذا الفعل، ربما لأن هذا العالم كان عالماً كبيراً أو من ذوي النفوذ". وعن الرواية: - يقرأ الأعمى بعين غيره، يحيل الكلام المكتوب أو المطبوع على ذاكرة، يدخله في حافظته القادرة التي يُروى أن العميان يتميزون بها عن المبصرين، والبرهان الدائم هم حفظة القرآن وقرّاؤه ممن فقدوا أبصارهم، وحكايات في التراث أشهرها عن المعرِّي رهين المحبسين وزائر بغداد حيث أدهش النخبة في عاصمة العباسيين. يقرأ بعين غيره ويحس أن كتابه الحقيقي حافظة لا حبر ولا ورق، بل انه يعدل بواسطة صاحب العين بعضاً من سياقات المخطوط، يطوّع ما على الورق ليتوافق مع ما في الحافظة، ولأن حافظة الأعمى زمنية وكلام المخطوط لا زمني، يحتاج المخطوط في كل فترة الى أعمى وصاحبه وتعديلات، وصولاً الى القول بلا لزوم المخطوط والكتاب ولا لزوم الخط والطبع، فتكون الأفكار محفوظات لا كتباً، ويتلون المحفوظ بمزاج حافظه وبعصره. - يعدّل الأعمى، بواسطة صاحبه، كلام المخطوط القديم ويكون التعديل كبيراً فلا يبقى من النص الأصلي إلاّ القليل الذي قد يحفز على تعديلات لاحقة، وربما يكون التعديل بديلاً من اتلاف المخطوط أو حرقه. ولم يروِ محسن مهدي لنا موضوع المخطوط موضع اهتمام الأعمى وصاحبه، ولا حتى جملة منه أو بضع جمل، فلا نعرف بالتالي دوافع الأعمى للتصويب أو التصحيح، هل تشبه دوافع اتلاف كتاب للمعري أو ربط كتاب "فصوص الحكم" لابن عربي في ذيل كلب؟ ما يعنينا أن ظاهرة إتلاف الكتب لا ترجع فقط الى الاعتراض على مضامينها وإنما الى شعور دفين بأن الكتب نافلة لا نحتاج إليها، إذ تكفينا حافظتنا نتناقلها خلفاً عن سلف الى أن يقضي الله تعالى أمراً كان مفعولاً. ومما ورد في "الكتاب في العالم الإسلامي" تحرير جورج عطية، عالم المعرفة، الكويت، تشرين الأول/ اكتوبر 2003: "طبيعي أن تلفت ظاهرة إتلاف المقتنيات القيِّمة مثل الكتب انتباه الفقهاء. وقد عبر ابن قيم الجوزية المتوفى 751 ه/ 1350م عن رأي الحنابلة في هذه الظاهرة، ولكن المذاهب الأخرى كان لها رأي آخر. فقد أفتى ابن القيِّم بإباحة إتلاف الكتب المضللة وعدم تعويض صاحبها عنها، مثلها في ذلك مثل إتلاف أي شيء يتصل بالخمر. والأساس الذي اعتمد عليه هو أبو بكر المروزي المتوفى 275 ه/ 888 م الذي استشار ابن حنبل المتوفى 241 ه/ 855 م في ما إذا كان بإمكانه إحراق أو تمزيق كتاب استعاره ووجد فيه أشياء منافية للدين، فأفتى ابن حنبل بجواز ذلك استناداً الى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذات مرة كتاباً في يد عمر، دوَّن فيه نصوصاً من التوراة أعجبته لأنها تتفق مع ما جاء في القرآن، فظهر الغضب في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فاندفع عمر الى فرن وألقى الكتاب فيه. ومضى ابن القيم قائلاً: بِمَ كان سيشعر النبي صلى الله عليه وسلم لو رأى كتباً تناقض القرآن والسنة كتلك التي ألفت فيما بعد؟ إن المسلمين لم يسمحوا بكتابة غير القرآن والسنة. هذا هو رأي ابن حنبل. وكانت كتب الرأي في العقيدة والفقه وغيرهما من فروع المعرفة ملعونة لأنها تؤدي الى ضلال. وكان ابن حنبل يرى أن الخطأ طبع في البشر، وان أكثر الناس عرضة للخطأ هم مؤلفو الكتب، ولهذا كان هو وأتباعه يقاومون الكتب التي تعارض القرآن والسنّة بصلابة. وفي ما عدا الكتاب والسنّة، كانت المؤلفات تصنّف من الناحية الفقهية الى: ضروري، ومستحب، وجائز. وهذا مثال جيد للمشكلة الأزلية، مشكلة الرقابة وحدودها، والى أي مدى يمكن الالتزام بتلك الحدود من دون إضرار بالحياة العقلية ووقف نموها؟ وشاعت ظاهرة إحراق المؤلفين كتبهم بأنفسهم، أو تكليف من يقوم بإتلافها نيابة عنهم. فمن الأدباء الذين فعلوا ذلك أبو حيان التوحيدي المتوفى بعد سنة 400 ه/ 1009م الذي أحرق كتبه في آخر أيامه لأنها لم تعد تحقق أي هدف، ولأنه لم يشأ أن يتركها بعد وفاته لقوم لا يقدرون قيمتها. وفي رسالة يدافع فيها عن فعلته نراه يقول: "ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه اني فقدت ولداً نجيباً وصديقاً حبيباً وصاحباً قريباً وتابعاً أديباً ورئيساً منيباً، فشقّ عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنِّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها". وواضح ان التوحيدي يتكلم عن كتبه التي ألفها وليس عن كتب ألفها آخرون ويقتنيها في مكتبته. وقد يبدو غريباً أن يحرق مؤلفاته بعد أن تداولها الناس لفترة طويلة. ولعله كان يقصد مخطوطات كتبه التي لم يذعها على الناس أو مسودات كتبه. وهذا يصدق أيضاً على علماء المسلمين الأوائل الذين اقتدى بهم في فعلته، وأقدمهم أبو عمرو بن العلاء الذي دفن كتبه، ومنهم داود الطائي المتوفى سنة 205ه/ 821 م الذي كان "من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة" كما يقول أبو حيان والذي ألقى كتبه في النهر، ويوسف بن أسباط الذي حمل كتبه الى غار في جبل وطرحها فيه وسدّ بابه، والصوفي أبو سليمان الداراني الذي ألقى كتبه في فرن وأضرم فيها النيران، وسفيان الثوري المتوفى سنة 161 ه/ 778 م الذي مزّق كتبه وطيرها في الريح". - يفضل الأعمى المحفوظ على المقروء، هذا طبيعي ومنطقي، لكن العمى في جانب منه انكفاء الجسد على نفسه ككتلة واكتفاؤه بالاتصال عبر الصوت واللمس والذوق والشم، اتصال بلا ضوء ولا ظلال. لذلك أهل الحفظ أقرب الى بعضهم البعض من أهل القراءة مهما تباعد الحفظ وتقاربت القراءات، ولعل التقارب يعود الى ان حسية الحفظ و"جسديته" أمران جامعان ملموسان، فيما تجريد القراءة يباعد من حيث هو تجريد. وقد لاحظنا في شرقنا المنكوب بحروب الملل والنحل انه كلما انتشرت عادة القراءة ازدادت الخلافات وتأججت بل ترسخت لأنها امتلكت كتبها المطبوعة وأعطتها قداسة مقتبسة من قداسة الزعيم القائد المؤلف. - أنا الأعمى ولي صاحب دليل يقرأ لي ويكتب ما أملي. انا الأعمى حين يكون المخطوط هو حياتي، مضت وتمضي من دون ان اراها بوضوح وأتملى من وقائعها. لا أرى وقائع حياتي فأطلب من صاحبي ان يقرأها على مسمعي وأن يعيد صياغة ما أراه غير مناسب فيها، فلا يبقى سوى روايتي، ولا أهمية لما جرى ويجري. كتاب حياتي هو ما أحفظ منها، حياة شفهية متحركة يتوارثها الاهل راوية عن راو بلا وثيقة ولا تدوين، حتى اذا حدث تدوين ما، يأتي اعمى من الابناء أو الاحفاد يتوسل من يقرأ له ويعدّل التدوين ليوافق الحافظة. او انه يتلف المخطوطة فيلغي الإشكال من أساسه.