تعرض حالياً على مسرح بيروت في لبنان، بالتعاون مع جمعية شمس، مسرحية "مااارش"، من إعداد عصام بوخالد وإخراجه، وهي الثالثة في رصيده كمخرج ومؤلف، إذ قدم مع "شمس" أيضاً، بعد مسرحيته الأولى "تريو"، مسرحية بعنوان "أرخبيل"، وعرضت في القاهرة وعمان وباريس، وحصلت على جوائز عدة. تبدأ المسرحية لحظة استلام المتفرج المنشورة التعريفية، وبمجرد اقتراب الجمهور من القاعة، ترتفع أصوات أقرب إلى أصوات جندٍ يتدربون في معسكر، اللغة غير معروفة، والديكور بلا ملامح واضحة، مجرد حائط يميل إلى كونه حائطاً اسمنتياً عازلاً، في عمق المسرح، يترك أمامه فضاءً فارغاً من الأدوات وقطع الديكور. ومع المشهد الأول، يجلس المتفرج منتظراً اكتمال نصاب الجمهور. أسماء الممثلين، كتبت تحت عنوان "مجموعة الهجوم"، والمخرج ومساعدته تحت عنوان "غرفة العمليات"، وكان هناك الفريق التقني وفريق الموسيقى. إضافةً إلى إشارة بأن الولاياتالمتحدة الأميركية، تتصدر لائحة الشرف الحربية الحديثة، بقصفها 22 بلداً، بعد الحرب العالمية الثانية. كل ذلك مكتوب في المنشورة التعريفية الخاصة بالمسرحية، التي توحي بمدخلٍ للعرض. علاوةً على كلمة روجيه عساف. عرض جسدي يقدمه تسعة جنود من "مجموعة الهجوم"، في اداء متناغم مع الموسيقى، يظهر وحشية هؤلاء الجنود، خصوصاً في تلك اللقطة التي يمثلون فيها بأفواههم دور الكلاب المسعورة، إضافة إلى الدقة التي يتمتعون بها، كجيشٍ منظم ومحترف في مهنة الحرب. يبرز في المسرحية بعد ذلك المشهد، دور التقنية، ف"اختلاف المسرح الجوهري مع السينما والتلفزيون"، حسبما كتب روجيه، لا يتعارض مع استخدام المسرح لتقنياتهما المتطورة. هناك توجه كبير في المسرح الحديث نحو هذا الأسلوب - استخدام التقنية الإلكترونية شاشات العرض، وكاميرات التصوير، والكومبيوتر... - وعلى رغم أن بعض المنظرين والمسرحيين يرفضون هذا المزج، ويصرون على أن المسرح يجب أن يحافظ على شكله التقليدي القديم، أي بعيداً عن بهرجة التقنية، إلا أن هناك الكثير ممَن يرفضون التقييد، ويبحثون عن كل ما هو جديد، مع مراعاة استغلاله في الشكل الملائم الذي يخدم العرض. أدت وسائط التقنية دوراً رئيساً في العرض. فالمشهد الأول الذي عرض سينمائياً، قدم فكرة عميقة، تتمثل في الإعلام الذي يلعب دوراً كبيراً في حياتنا اليومية. قدّمت الشاشة جنود المسرحية بين شعوب متعددة، من فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان... وانتهاءً بصورة تشع بالبراءة، للجنود مع طفل. المهم في هذا العرض السينمائي، هو احتفاء الشعوب بهؤلاء الجنود الغزاة. ويبدو أن المخرج وفِق، في النقلة التي قام بها، بين صور احتفاء الشعب بالجنود، ومشاهد الإجرام والوحشية والهمجية التي يؤديها الجنود أنفسهم، بعد المشهد المعروض. شكل المخرج تلك الحقيقة المخفية عن المتلقي، مصوراً الإعلام بأنه سلاح ذو حدين، يتأرجح بين الأهمية والخطورة، كاشفاً مدى خطورته للمتفرج. ويقول المشهد أن أي بلد قد يربح الحرب قبل أن يدخل فيها، وأن الإعلام قد يشوه حقيقة لا يحجبها ضوء الشمس. تعامل عصام بوخالد مع الموت في المسرحية بشكلٍ جميل، فالجنود قتلوا أكثر من مرة، وعادوا الى الحياة من جديد، في إشارة إلى أن الجيش لا يموت. لكن الأجمل إدخاله الجمهور في لعبة الموت، باستخدامه تقنية التصوير الحي، لأن الجمهور شاهد على جرائم الحرب، ويجب أن يموت لذلك السبب. يقول عصام بوخالد: "الحرب صارت لغة عالمية، مثلها مثل لغة الحب والموسيقى والشعور... فصوت الرصاصة في فلسطين مثل صوتها في فيتنام والعراق... ولون الدم أحمر في كل مكان، ويصرخ الناس بالطريقة نفسها، فمفهوم الحرب واحد. لكن الأغرب، أن تكون الحرب ضرورة. عقلية الجنرالات هي أن الحرب مبرر وجود، وهنا تتضح معالم الانفصام العجيب، في منطق الحياة والإنسان. يقولون أن الحرب ضرورة من أجل السلام، ويجب أن تفني شعوباً، حتى تحافظ على أرواح". وما لا شك فيه أن تكريس عصام بوخالد لخبراته في اتجاهات عدة، فهو بحد ذاته تحد للذات. فهو قام بالتمثيل إضافةً إلى الإخراج والتأليف، وقد يحتاج أي فنان إلى التفكير كثيراً قبل القيام بفعلٍ كهذا. ويبدو للوهلة الأولى، انه ربما كان هناك مأزق يواجه بوخالد في كتابة النص المسرحي، فالمسرحية بلا لغة مفهومة، ولذا قد يكون عصام، انشغل بهمّ البحث عن أطر للنص وملامح لأسسه التعبيرية. اعتمدت المسرحية المؤثرات الصوتية والأداء الجسدي في الدرجة الأولى، وبعض عبارات غامضة يرددها الجنود. وهنا يبرز الحل الإخراجي الذي يحاكي معطيات المعاصرة في التداخل ما بين التأليف والإخراج، والبحث عن خصائص تعبيرية ودلالية للمسرحية، إضافة إلى ماهية الأصوات الصادرة من الشخصيات، إذ يقوم الجنود بأدوار تمثيلية تتكئ على التعبير بالحركات والصرخات، بينما يتردد صوت رئيس الفرقة، موجهاً إياهم بالتعليمات العسكرية في معظم الأحيان. وفيما ينبعث هذا الصوت، تبرز حركة مذعورة وترتفع صرخات على المسرح يقوم بها الجنود خائفين، يطاردهم شبح الفزع من العصيان المؤدي إلى العقاب في الحياة العسكرية. ولأن أفق المسرح واسع ومتنوع، فإن الحديث عن حل إخراجي ثابت، ضرب من الخيال. ولكن ثمة ثوابت موضوعية، تتيح للمخرج والمشاهد أن يتحرك كل منهما على حدا، مفصحاً عن ذلك الحل. فلعل "مااارش" تذكرنا بالكاتبة الفرنسية جون ليتلورد، عندما تقول في أحد مقاطع مسرحيتها: "آه... كم كانت الحرب جميلة". ولو حذت "مااارش" حذو هذه الكاتبة، بإلباس الجنود في العمل، أزياء المهرجين أو ما شابه، كانت المسرحية بهذه الطريقة طرحت إمكانات "تغريبية" لا حدود لها. وبغض النظر عن تحويل عصام بوخالد في مسرحيته الملابس النسائية الداخلية إلى كمامات مضادة للغاز السام، وبتحويل الأسلحة الفتاكة إلى مظلات، فكان بإمكانه أن يكمل تلك اللعبة الجميلة، بعيداً عن الزي العسكري، الذي قد يعتبر مستهلكاً ومكرراً التعريف بكون الممثلين جنوداً. اصطلاح "التغريب" ابتدعه برخت، ويهدف مثلما يقول بروك إلى "ثقب فقاعات التمثيل البلاغي"، مستشهداً بالتضاد الذي يصيب الفرد، بين عاطفته الرقيقة والكوارث التي تصيبه. هذا التضاد تحقق في مسرحية "مااارش"، متمثلاً في إسقاط تلك الرومانسية التي لا يمكن السيطرة عليها. إذ هناك حب بين جندية وجندي في ظل معمعة الحرب، وفي وسط المعسكر. كسر العرض حاجز مسرح العلبة. وتبدّت بوضوح الإفادة من الإبهار ومن توظيف التقنية. فالمسرحية لم تكن غروتوفسكية أي من "المسرح الفقير"، على رغم الإبقاء على الخشبة بسيطة وخالية من الأدوات، لأن عصام بوخالد لم يهمل قيمة التقنية على غرار فروتوفسكي. فشاشة العرض السينمائية أخذت حيزاً كبيراً من المسرحية، وكان من الممكن التعامل معها بصورة أبسط من تلك الصورة العالية في التقنية. ثمة أضواء وخيالات وصخب وظلال. ثمة حروب وعمليات ونقاشات، وثمة من يتحكم بفتح ذلك الحائط وغلقه، بحسب الحاجة وتبعاً للأوامر. عمليات عبثية تتوالى من خلف الحائط وأمامه، وكل شيء يصب في نهاية المطاف في تناقض عجيب، بين تبيان وحشية هؤلاء الجنود وهمجيّتهم، وبين التعامل معهم كبشرٍ ذوي أحساسيس في بعض اللحظات إحدى الشخصيات تستاء من جثة تحملها وتبكي عليها. إلا أن الشخصيات الأخرى سرعان ما تعيدها الى طبيعتها الوحشية، والى سطوة الحرب، التي تجتاح حياة الجنود، وتزلزل أنفسهم وضمائرهم في بعض الأحيان، فتتحول إلى أشباح وكوابيس. يضاف إلى ذلك أن إلغاء النص المتعارف عليه مسرحياً شكل ثقلاً حقيقياً وعبئاً إضافياً على الممثل، في التعبير الجسدي وما يتطلبه من مهارات. وتبدو المسرحية بهذه التوليفة ذات تقنية عالية في إخراجها وتمثيلها. ولعل معاناة اللبنانيين في الحرب طوال خمسة وعشرين عاماً، يوضح ترابطاً بين المسرحية والمجتمع اللبناني، فالأغلب هو أن يتأثر المسرح بتراكمات المجتمع الذي يحتويه، فيتكيف كل عرضٍ مع المكان الذي ينشأ فيه. من هنا تأتي مسرحية "مااارش" لعصام بوخالد تعبير عن هواجس جيل متأثر بالحرب الأهلية التي مضت. إبراهيم بادي صحافي سعودي من "مدرسة الحياة".