هذا النص الجذاب الممتع، الذي كتبته سعاد العامري، المهندسة المعمارية الفلسطينية خلال احتلال الدبابات الاسرائيلية لرام الله في كانون الأول ديسمبر 2001، وعلى امتداد أشهر عدّة، يواجه العدو ب"يوميات حرب" تلتقط مشاهد وحالات نفسية وحوارات تشتمل على "مقاومة" بالكلمات الساخرة. كتبته بالانكليزية وصدرت ترجمته بالإيطالية أولاً ثم الفرنسية، وهو مرشح لأن يُستضاف في لغات أخرى. كان عنوانه الأصلي "شارون وحماتي"، لكن الترجمة الفرنسية خففت من لذعة العنوان واقترحت "كابوتشينو في رام الله". ومنذ صدوره بالفرنسية في كانون الثاني يناير 2004 لقي متابعة واهتماماً، ربما لأن النص، الى طرافته، يحمل البسمة الى القارئ الفرنسي المهموم بمشكلات الحجاب والخوف من صعود اليمين وقلَّة الاعتمادات المخصصة للتعليم والبحث العلمي... لا تزعم سعاد العامري انها كاتبة أو مبدعة لنص أدبي: "لم أكن أفكر في كتاب، كنت أكتب رسائل الكترونية حتى أظل محافظةً على انسانيتي تحت الاحتلال". إذاً، هذه اليوميات تخلقت من رسائل الكترونية كانت ترسلها الكاتبة الى صديقاتها وأصدقائها لتتغلب على الحصار وعلى عبء معايشة حماتها "أم سليم" طوال ما يزيد على الأربعين يوماً. ولأن السخرية وروح المداعبة ملتصقان بطبيعتها، فإنها لم تستطع أن تتخلى عنهما حتى في اللحظات الحرجة، وهذا ما أضفى على اليوميات نكهة النقد اللاّذع والتعبير المقتصد الكاشف لما هو أبعد من ظواهر الأمور. تنطلق سعاد العامري من الخاص، من الحميمي المتصل بحياتها اليومية وبزوجها وحماتها وصديقاتها، على رغم ان "المناسبة" هي احتلال رام الله حيث تسكن، ومحاصرة مقاطعة الرئيس عرفات حيث تسكن حماتها "أم سليم" مع مرافقتها زكية غير بعيد من "المقاطعة". لكن العنف الاسرائيلي يصلنا عبر البصمات والآثار المفجعة التي يتركها على حياة سكّان رام الله ونفسياتهم. منذ احتلال المدينة تغيّر كل شيء: أصبح الفلسطينيون كالفئران المحبوسة في الجحور، ينتظرون الساعات الثلاث التي يُرفع فيها حظر التجول ليتزودوا الأكل ويتبادلوا الزيارات الخاطفة قبل العودة الى البيوت لمتابعة مشاهد القتل والتدمير، عبر التلفزيون والمكالمات الهاتفية" يستحوذ على اهتمامهم الاستمرار في العيش ساعة بساعة، ويوماً بيوم. تختار سعاد العامري، ساردة اليوميات، زوايات ذات خصوصية لا تخلو من غرابةٍ منعشة. تحكي، في مطلع النص، عن مواجهةٍ بينها وبين شرطية مطار تل أَبيب، سنة 1995، بعد عودتها من لندن" فقد استغربت الشرطية كونها ولدت في دمشق ثم سألتها: "- ماذا كنت تفعلين في لندن؟ - ذهبت لأرقص، قلت وأنا أثبت نظرتي في عينيها، متعبة، مفرغة من الانفعال، وبنبرة أكثر وثوقاً من نبرتها. - هل تجدين غرابةً مُسلية في جوابك؟ - لا. وأنت هل يزعجك أنني أحب الرقص؟..." ص 18. قبل أن تصل الدبابات الاسرائيلية الى رام الله في 4 كانون الأول 2001، في عز رمضان، كان الحيّ الذي تسكنه سعاد وزوجها سليم تماري يضج بأصوات الأطفال وبصياح الأولاد المتقافزين حول الكرة، وبتعليقات النساء على علاقات الشبان... حركة لا تهدأ، والأخبار متداولة، وحكايات الخصومات العائلية تنقلها الشفاه... لكن عندما وصلت الشاحنات المحملة بجنود الاحتلال، لجأ سكان الحي الى بيوتهم يتابعون من وراء المصاريع المغلقة حركات "الجيران" الجدد الذين يكادون يكتمون أنفاسهم: "عندما استيقظنا في الغد، كان هناك صمت طويل، صمت من موتٍ ورعب أفهمنا أن الجيران الجدد كانوا أجانب... صوت واحد كان يعكّر ذلك الصمت ينبعث من مكبر صوتٍ ليعلن "ممنوع التجول حتى إشعار آخر!". دام حظر التجول أسابيع عدة قبل أن يسمح المحتلون ببضع ساعات يتنفس خلالها سكان رام الله" وأصبح التواصل الهاتفي صعباً، فتعاظم قلق "أم سليم" حماة سعاد البالغة 91 سنة والتي تعيش مع مرافقتها في منزل قريب من "المقاطعة". تعبّأَ الجميع لنقل أم سليم الى منزل سعاد لتهدئة قلقها. وبالفعل تمكنت سعاد من الوصول الى بيت حماتها وأخذت تستعجلها لتجمع ثيابها وما ستحتاج اليه في البيت الآخر، لكن أم سليم تتلكأ وهي تفكر في ما سترتديه قبل مغادرة منزلها: "هل أرتدي الفستان البنفسجي؟ نعم، إنه جميل... هل تظنين ان اللون الأصفر يتلاءم مع البنفسجي؟ - نعم، سيلائمة جيداً، وجميع الألوان تتوافق مع البنفسجي..." ص 45. تبدو أم سليم وكأنها تحتمي بعاداتها وطقوسها من سطوة هذا الاحتلال الذي يُذكّرها بترحيلها عن يافا عام 1948. انها خائفة، الا انها تُداري خوفها باللجوء الى نوع من فقدان ذاكرة الحاضر، لتتشبث بفساتينها، ومزهرياتها، ومُربَّى البرتقال الذي تحضِّره بنفسها... وعلى رغم العلاقة الطيبة بين سعاد وحماتها، فإن التعايش داخل منزل واحد، يجعل سعاد تستشعر وطأة أم سليم المشدودة الى تفاصيل حياتها وكأن منع التجول غير قائم. هذا ما جعلها تقول، ذات يوم، في محاضرة ألقتها أمام حضور اسرائيلي بعد حرب الخليج الأولى: "ربما سأغفر لكم ذات يوم أنكم فرضتم علينا حظر التجول طوال أربعين يوماً. لكنني لن أغفر لكم قط أنكم أرغمتموني على أن أتحمل حماتي خلال فترة بدت وكأنها أربعون عاماً"! لكن ما يميز هذا النص أيضاً، هو تلك الانفلاتات التي تتيح للساردة أن تسترجع لحظات من حياتها قبل مجيئها الى رام الله سنة 1981. في اشارات مكثفة، تحدثنا عن أمها السورية التي ترفض زيارة فلسطين تحت الاحتلال، وعن والدها الذي أوصاها قبل وفاته بزيارة بيتهم في يافا... ثم تستعيد لقاءها، عند محطة التاكسي الذاهب الى جامعة بير زيت، بسليم تماري الذي سيُصبح زوجها، ومن خلال عناوين الفصول: "ليس لي مزاج، الجيران، 34 يوماً من حظر التجول، الفستان البنفجسي، توقيت الشتاء وتوقيت الصيف، عصيان مدني...". تتنقل سعاد العامري بين الأمكنة وفضاءات الذاكرة وأحداث السياسة، لتقدم لنا عناصر يمكننا، من خلال توليفها وملء فراغاتها، أن نستكمل ملامح حكاية فلسطين المأخوذة في شرك الاحتلال والعنف ومنطق القوة. إن نص "كابوتشينو في رام الله"، على رغم بساطته وتلقائيته وغياب القصدية الأدبية عند كاتبته، يجعلنا نتوقف عند سمتين اثنتين توطدان قرابته بالكتابة الأدبية: 1 - عنصر السخرية الذي يذوِّب ثقل الموضوع وجهامته، ويكسب الكلمات دلالات ممتدة، مجاورة لسياقها. وهذا ما تلجأ اليه الكاتبة عند نقل حواراتها مع "أم سليم" أو في حوارها المتخيَّل مع الرئيس بوش: "- لعله من واجبكم ان تعلموا يا سيدي الرئيس، أنه لم يعد هناك شغل وأن البطالة بلغت مستوىً قياسياً، وأن الفلسطينيين جائعون، جائعون تماماً... - قولي لشعبك إذا أراد الالتحاق بالعالم الحر، إن على أفراده أن يكونوا شفافين؟ وعندما أقول شفافين فإنني أؤكد ذلك. هل تفهمين يا سيدتي؟ - أنت لا تقصد أن يكونوا شفافين نتيجةً للاقلاع عن الأكل يا سيدي الرئيس؟ إنَّ على السلطة الفلسطينية أن تكون شفافة، لا الناس!" ص 110. 2 - عنصر الإيحاء والتلميح الذي يحيل الى الوضع الكابوسي اليومي للمواطن الفلسطيني المحاصر بالاحتلال والخوف واهانات نقط التفتيش. والموت حاضر أيضاً من خلال موت المراهق "جاد" الذي أطلق عليه أحد الجنود الاسرائيليين رصاصة قاتلة. "لقد قتلوه يا أمي - يقول ماهر -، كان يرتدي كنزتي الخضراء وقميصي الأزرق اللذين أهديتهما إياه... إنه في معرض الجثث في المستشفى منذ ثلاثة عشر يوماً، ولم يأت أحد ليطلبه... لقد رأيته، وعندما قبَّلته لأودعه أحسست أنه كان مُثلجاً. كان يحمل كنزتي الخضراء والقميص الأزرق اللذين أهديتهما إياه...". تضعنا محكيات "كابوتشينو في رام الله"، أمام تجربة خاصة: فقد تولد النص من رحم رسائل الكترونية، ثم تدرَّج الى استطرادات سردية، سِير ذاتية، من دون أن تتخلى الكاتبة عن الاقتصاد في التعبير واعطاء الأسبقية ل"التبليغ" على شعرنة الكلمات. إلا أن السخرية ورهافة المشاعر أضفتا غلالة فنية تنضح بالمتعة على رغم المناخ المأسوي. ألسنا أمام كتابة الكترونية تفرض نفسها في مجال الإبداع؟ مهما يكن اختلافنا حول أدبية هذا النص، فقد نجح في رسم تفاصيل اليومي تحت وطأة الاحتلال، بعيداً من هوجة الخطابات الايديولوجية والإدانات الصارخة... ونجحت رائحة الكابوتشينو المضمخة بعطر الحياة، في أن تقنعنا بأن أهم شيء هو مقاومة "احتلال الروح".