«الجدارُ حوّل فلسطين إلى أكبر سجنٍ مفتوحٍ في العالم!» .. بانكسي يقول الفأر الحكيم ديسبيرو: «عندما نؤمن بالأملِ لا يمكن أن نكونَ سجناءَ لأحدٍ»، وقبله بقرون رأى الطغرائي ضيقَ العيش بلا فسحةٍ يصنعها لنا هذا الأمل! ولهذا لا يمكن أن يكونَ غريبًا ما نراه من استمساكٍ بهذه العروة مهما وهنت لدى الفلسطينيين - والسوريين منذ أربع سنواتٍ على الأقل - لأنه ليس هناك ما يمكن خسارته سوى... الحياة، حياتك كما يقول العنوان الجانبي لكتاب «مراد مراد» للكاتبة والمهندسة المعمارية الفلسطينية سعاد العامري الصادر عن دار بلومزبري في قطر عام 2011. برغم اعتماده على السردِ إلا أنه يصعبُ تصنيف الكتابِ في جنسٍ أدبيٍ محددٍ، فهو خليطٌ من الرواية والتحقيق الصحفي والسيرة الذاتية، ولأن الكاتبةَ تؤمن بمقولةِ ريزارد كابوشتينسكي: «إنه من الخطأ الكتابةُ عن أناسٍ دون أن تعيشَ جزءًا على الأقل من معاناتهم»، فقد قررتْ مرافقةَ العاملِ مراد في رحلته ورفاقه لاجتيازِ الجدارِ العازلِ للحصولِ على عملٍ في الجانب الإسرائيلي، بالرغم مما ينطوي عليه هذا العملُ من مغامرٍة لا تخسر فيها شيئًا سوى ... حياتك! تقول سعاد في مقدمةِ كتابها: «نعم لفلسطين َوجوهٌ وأسماءٌ.. وهذا هو الخطأ الكبير الذي ارتكبناه - الفلسطينيين والعرب - على حدٍ سواء، حيث جعلنا من فلسطين وشعبها رمزاً للبؤس والأسى والموت، وكأنه شعبٌ يريد الموت، بدلًا من أن نرويَ الحقيقة لشعبٍ أحبّ ويحبّ الحياة». تسجل سعادُ العامري تفاصيلَ رحلتها في يومٍ عاديٍ من حياة العمالِ الفلسطينيين، ولذا فهي تذكّر بليوبولد بلوم في رواية «أوليس» لجيمس جويس، إذ يظل الزمنُ محدودًا بيومٍ واحدٍ فقط - دامت رحلة الكاتبة ثماني عشرة ساعةً - لكن هذا اليوم كان كافيًا، لسعاد على الأقل، لتختبر أهوالًا يجعل منها المقابل العصري بنسخته المؤنثة لأوديسيوس بطلَ ملحمة الإلياذة، بالرغم من عدم وجودِ أي مظاهر لبطولةٍ مطلقةٍ سواءٌ أكان ذلك لدى سعاد أم لدى رفاقها في الرحلة الذين لم يعبر الجدارَ منهم سوى أربعة! صدرتِ الكثيرُ من السير الذاتية - إذا اتفقنا أن «مراد مراد» أحدها - لكتّابٍ فلسطينيين تقوم أساسًا على فكرة الرحلة، لعل أشهرها «رحلة جبلية - رحلة صعبة» و»الرحلة الأصعب» وكلاهما للشاعرة فدوى طوقان التي تتحدث في جزئها الثاني - الرحلة الأصعب - عن نضالِ الشعب الفلسطيني والمرأة الفلسطينية، ولا تنسى معاناتها في سبيل الحصولِ على تصريحٍ لدخول الأراضي الفلسطينية فتقول في قصيدةٍ لها بعنوان «آهات أمام شباك التصاريح»: «وقفتي بالجسر أستجدي العبور آه، أستجدي العبور اختناقي، نفسي المقطوع محمول على وهج الظهيرة سبع ساعات انتظار ما الذي قصّ جناح الوقت، من كسح أقدام الظهيرة؟ يجلد القيظ جبيني...» ومثل فدوى كان مريد البرغوثي قد نسج سيرته الذاتية - أو جزءًا منها - المعنونة «رأيت رام الله» من خلال مفهوم الرحلة أيضًا، حين يذكر أنه ظل واقفًا لساعاتٍ طويلةٍ من أجل الحصول على تصريحٍ يخوّله دخول رام الله، فيستحيل عبوره عبورًا نحو المكان ِوالزمانِ باستعادةِ ذكرياتٍ كان خلّفها مثلما خلّف بيت العائلة وبستانها، فيمضي وهو يعلم أنه بعبوره الجسر يكون قد ترك العالَم وراءه بينما كان عالمه في الأمام! ما يميّز مراد مراد عن هذه السير أنها لم تكن عن شخصيةٍ مشهورةٍ، لكنها اختارت واحدًا من عامة العمال لتسرد الرحلة الشاقة والأصعب الخاصة به - والتي يشترك فيها غيره كثيرون - محكومًا بأملٍ في الحصول على عمل يؤمن أجرُه حياتَه وحياة أسرته لأيامٍ عبر «التسلل» إلى الأراضي التي تسيطر عليها قوات الاحتلال، وهذا الأمل ذاته هو الذي يجعله ماهرًا في الهربِ من قبضة الجنود إلى الحدِ الذي جعل أحدهم يطلب منه أن يخبره كيف ينجح في العودةِ كل مرةٍ بسرعةٍ كبيرةٍ في مقابل ألا يلقي القبض عليه، وتحداه بعد أن نقله في سيارة الجيب أن يصل قبله إلى «بتاح تكفا»، والنتيجة كما هي العادة كانت لصالح مراد، وكان هذا السبب كفيلًا باقتناع الكاتبة بانتصار مراد في النهاية! يقول محمود درويش: «ليس الأمل مادةً ولا فكرةً، إنه موهبة»، ويبدو أن مرادًا يتمتع بقدرٍ كبيرٍ منها فيصاب قارئ سيرته بعدواها!