"يوميات بغداد" صرخة ضدّ الحرب، أيّاً كانت، ونقمة على مسببيها، أياً كانوا، وعطف على الضحايا الحقيقيين، الشعب البريء المسكين. ولعلنا في لبنان أكثر القراء تعاطفاً مع الكاتبة إذ تدوّن ما عشناه وشعرنا به نحن أيضاً خلال سبعة عشر عاماً. تبدأ الفنانة العراقية نهى الراضي هذه اليوميات بعد اندلاع حرب الخليج بثلاثة أيام، أي في 19 كانون الثاني يناير 1991. إلا انها لا تذكر تاريخ ما تدوّنه بعد ذلك، بل تعنون الفصول ب"اليوم الأول"، "اليوم الثاني"، إلخ. حتى اليوم الثاني والأربعين من الحرب، موحية بذلك أن أيام هذه الحرب كانت متشابهة الى حدّ أفقد الكاتبة وعي الزمن والتاريخ. أو لم تقل "مع بدء الحرب أصبحت النهارات والليالي نهاراً واحداً طويلاً"؟ ص8 ولا تعود الى التأريخ الا بعد انتهاء الحرب، أي بعد اثنين وأربعين يوماً. وفي سخرية مرّة تعنون القسم الأول من يومياتها "فندق السعادة أو أوتيل براديزيو" فندق الفردوس، فتصف في نيّف وخمسين صفحة الأيام والليالي "السعيدة" التي أمضتها مع أقاربها وأصدقائها في هذا "الفردوس"، بيتها في بغداد حيث الغارات لا تتوقف ليل نهار، والقصف يدمّر المنازل والجسور والمعامل والمصانع والبنى التحتية، حتى الآثار التاريخية الفريدة والملاجىء حيث قتل عشرات النساء والأطفال. وكم يعيد وصفها إلى أذهاننا، نحن البيروتيين، تلك التفاصيل من حياتها في الحرب والتي تشبه ما عشناه: انقطاع التيار الكهربائي والهاتف والماء والبنزين، ظهور المولدات الصغيرة، البحث عن آمن غرفة في البيت للاحتماء فيها من الغارات، أو الهجرة الى الضيع البعيدة عن خط النار، تجميع كميات غير معقولة من الطعام في أول الحرب، ثم التهامها حتى التخمة، أو إتلافها، حين انقطع التيار الكهربائي عن "الفريزرات". في فقرة مضحكة تصف لنا الكاتبة ما اضطرت "شيخة" الى رميه: "خروف بكامله، أربع وعشرين دجاجة، بضع أفخاذ حُملان، دزينتين من الكبّة، وثمان وستين فطيرة أرز، فضلاً عن أكياس بلاستيك ملأى بالخضار، ثلاث سمكات، قطع من لحم البقر وكيلوات من اللحمة المفرومة، أرغفة خبز، حلويات". ص 30 وتصف لنا الصفوف الطويلة أمام محطات البنزين، استخدامها الحديقة مرحاضاً لتوفير الماء وتسميد النباتات في الوقت نفسه، انكباب بعض النساء على شغل الصوف، ونوبات البكاء الهستيري، دفن الحلى في أماكن تُظنّ أمينة، كالحدائق، إذ انتشرت السرقات انتشاراً لم يسبق له مثيل: سرقة المولدات والدراجات والسكاير وقناديل الغاز والبطاريات والكبريت، فضلاً عن غشّ البنزين وخلطه بالماء. وكثيراً ما حال عنف الغارات دون دفن الموتى، وقد قيل لها ان خوف الناس من نقل جثث أقربائهم في كربلاء تركها طعاماً للكلاب والقطط تنهشها في الطريق. ويأسرنا وصف الكاتبة الحي والمشوّق لبعض هذه الأحداث. كانوا في المطبخ بعد العشاء "وفجأة سمعنا دوياً مرعباً ورأينا نوراً قوياً يقترب شيئاً فشيئاً، شمساً تخترقنا من خلال شبابيك المطبخ، ويضيئنا ضوء نهار أبيض خيالي. اهتزّت الأرض بشكل عنيف الى حد جعلنا نظن ان البيت سينهدم فوق رؤوسنا. تلبّدنا بالأرض، وفجأة، من غير أن نعرف كيف، انفتح الباب وأصبحنا جميعاً في الحديقة. وحامت فوق رؤوسنا كرة نارية كبيرة جداً، كرة نارية لاح لنا انها تحرق رؤوس أشجار النخيل. فجأة مال هذا العملاق الملتهب، وصعد زاعقاً فوق رؤوسنا في سماء الليلة المظلمة". ص 41 وفيما بعد يكتشف القارىء مع الكاتبة أنه كان صاروخ "سكاد". ولكن بمجرّد ان تتوقف الغارات يخرج الناس من ملاجئهم أو بيوتهم للتعاون على إزالة الركام من المنازل والدكاكين المصابة، وتذهب هي لتتفقد الأصحاب والأقارب، هذا ان استطاعت الوصول إليهم، إذ تقول الكاتبة ان من أكثر ما آلمها كان شعورها بعزلة لا تطاق: عزلة الناس عن بعضهم البعض، وقد تحوّلت بغداد الى مجموعة من القرى الصغيرة المفصولة عن بعضها ص 28. وإزاء هذه الحرب المدمّرة شعر الناس بعجزهم التام عن المقاومة، فاستسلموا لقدرهم استسلاماً دفعهم أحياناً كثيرة الى الاستهتار بالخطر، فيخرجون الى السوق على الرغم من الغارات، أو يرفضون الاختباء حين تطلق صفارات الإنذار. أما الكاتبة فظلت تدعو الى الغداء أو العشاء من استطاعت دعوتهم من الأصدقاء والمعارف، وتابعت الرسم في محترفها في أوائل أيام الحرب، الا ان استمرار الغارات منعها من التركيز بعد ذلك، ولم يعد بإمكانها أن تقرأ كتاباً. وليس مستغرباً ان يطالعنا حسّ الفنانة المرهف وإنسانيتها من صفحات هذه اليوميات كلها. إنها لا تتألم مع شعبها وحده، وانما مع "الكلاب التي تبكي من الخوف بكاءً مأساوياً مروّعاً"، ومع "العصافير التي ماتت في أقفاصها خوفاً أثناء القصف، فيما طارت العصافير الحرة منقلبة على ظهرها "تتشقلب" مجنونة. ان مئات العصافير، بل الآلاف، ماتت في الحديقة". ص 25 ولا يخلو يوم من اليوميات لا تأتي فيه على ذكر كلبها "سلفادور" وغيره من الكلاب، أو تصف العصافير التي تزقزق على عتبة نافذتها والفراشات والنحل في حديقتها. بعد انتهاء الحرب على العراق تغادر الكاتبة "فردوسها" الى لندن لمدة شهر بناء على اصرار قريبتها "سول" الا انها تعود لتعيش الحظر على وطنها، وهنا يبدأ القسم الثاني من يومياتها التي تمتدّ من تشرين الثاني نوفمبر 1994 الى حزيران يونيو 1995. من الطبيعي أن تدوّن الكاتبة في هذا القسم كل ما أصبح معلوماً لدينا، كانهيار العملة العراقية وما استتبع ذلك من أسعار جنونية للمآكل والمعدات والأدوية وكل ما يمكن أن يتصوّره العقل، هذا إن لم تختف كلياً من الأسواق. فتصف انتشار الفقر والجوع، وبالتالي الغش والسرقة، حتى سَرقة الآثار، وتفشي الأمراض، ولا سيما السرطان، بين الكبار والصغار، وانقطاع الأولاد عن المدارس لعجز أهلهم عن شراء الدفاتر والأقلام ص 65. هذا، بالإضافة الى التجنيد الإجباري في جيش عاجز عن إطعام جنوده، ووسائل الاحتيال التي ابتكرتها "مافيات" صدام حسين لسرقة أموال الناس ص 66. الا ان الكاتبة تزوّدنا بتفاصيل من الحياة اليومية لا يعرفها الا من عاش، مثلها، هذا الحظر القتّال. فوالدة صديقتها أجّرت بيتها مقابل دجاجة واحدة في السنة، غير ان المستأجرين عجزوا حتى عن دفع هذه الدجاجة!! ص 60 وبدأ يشيع خطف النساء واغتصابهن وتشويههنّ ثم إعادتهن الى ذويهم مقابل فدية ص 77. ويُغير اللصوص حتى على ولائم التعزية يسرقون منها المأكولات" كما لم تسلم المستشفيات من سرقة اللمبات والشراشف والحرامات والصحون ومسكات أبواب المراحيض، حتى بات على كل مريض أن يجلب معه الى المستشفى ما قد يحتاج إليه ص 85. وبعض الأهل يضربون أولادهم ضرباً مبرحاً كي يدخلوا المستشفى ويحصلوا على شيء من الطعام ص 111" فيما يدور أولاد في السادسة أو السابعة من عمرهم يبحثون عن عمل يؤمن لهم بعض المال ص 98. وتلاحظ الكاتبة ازدياد الأمراض الغريبة والموت بين المراهقين ص 88، والانهيارات العصبية التي تصيب النساء بالدرجة الأولى لأنهن يتحملن معظم نتائج الحظر وأعبائه ص 90، ثم ازدياد عدد الأطفال الذين يولدون موتى بسبب تأثير الأورانيوم والباريت وغيرهما من المواد التي كانت في القنابل التي قصفت العراق ص 120. فهذه وغيرها من المواد الفتّاكة ستبقى آثارها سنين، لتصيب العراقيين بالسرطان وسرطان الدم والماء الأزرق ومختلف أمراض العظام والمفاصل، كما تصيب الأشجار وسائر المزروعات ص 122. في خضمّ هذه المآسي كلها تعود الفنانة الى نحتها تعبّر به عما يعاني وطنها. فتنحت قطع سيارات وحديد في داخلها حجارة على هيئة أشخاص تحوطها القطع الحديدية كالحيات، وتسمّيها "فن الحظر" ص 105. وفي تفسير مدلول هذه المنحوتات الغريبة لصحافية أميركية تقول لها الكاتبة: "هذه الحيات ترمز الى الدكتاتورية. انها تبلع الناس. لا دكتاتوريتنا نحن وحدنا، وإنما كل الدكتاتوريات، بما فيها دكتاتوريتكم. في الواقع، ان دكتاتوريتكم أكبرها لأنها ابتلعت العالم بأسره". ص 130. ففي كل صفحات هذه "اليوميات" يمتزج النقد والإحساس الوطني بوصف ما يصيب بغداد. فحين تنقم على وحشية الغارات على العراق تقول: "انظروا الى أعمال روسيا في أفغانستان، او احتلال تركيا لقبرص، او احتلال اسرائيل لفلسطين ولبنان. لم تُشنّ عليهم غارات عمياء كالتي تشنّ علينا. بل أن احداً لم يعاقبهم". وتضيف بسخرية مرّة: "على الأقل، أصبح لبغداد وجود على الخريطة، ولن اضطرّ الى أن أفسّر من أين أنا". ص 5 وكثيراً ما تبدي قلقها وخوفها على جنود بلادها، وألمها حين لا تزال الطائرات الأميركية تقصفهم وهم عائدون من الكويت مشاة، حفاة، جائعين، عطشانين، مرهقين، بعد ان انتهت الحرب ص 46. كذلك تعتزّ بأن العراق وقف في وجه الولاياتالمتحدة وقال لها: كلا! ص 23 كما تعتزّ بأن بلدها أعاد بسرعة بناء ما كانت قد دمّرته الحرب: البنى التحتية، المصانع، المباني والجسور، كل ذلك من غير أية مساعدة خارجية. الا ان ذلك لا يعني انها لا تنتقد الحكومة العراقية. تتكلم، مثلاً، عن رمي الذين خطّطوا للانقلاب على صدام حسين لكلاب جائعة تمزّقهم، فيما رُبط قائدهم الى حصان جرّه حول ساحة الاستعراضات ص 81. وتقول إن الحكومة أخطأت حين لم تنسحب من الكويت في 15 كانون الثاني يناير، أو تقبل المفاوضة للسلام، فتوفّر على الشعب كل ما عانى من مآسٍ. كما تنتقد جوّ القمع ص 42 وكون صدام حسين بألف خير فيما يُقتل شعبه ص 44، ويتبجّح بأن حكومته "انتصرت" لأنها ظلت صامدة على الرغم من أن اثنتين وثلاثين دولة حاربتها ص 45. ومن مظاهر هذا التبجّح ان يحفر اسمه على آثار "هترا"، مثلاً، مشوّهاً حجارتها ورخامها الجميل ص 63. ويزداد انتقادها لصدام حسين في قسم "الحظر" حيث تهاجم سلطته المطلقة واستئثاره بخيرات البلد فيما يموت العراقيون من الجوع والأمراض ص 64. ولا تستطيع الكاتبة ان تكتم خيبتها بالعرب الذي تحالفوا مع أميركا في محاربة العراق ص 39. الا ان نقدها اللاذع موجه، بالدرجة الأولى، الى الولاياتالمتحدة ورئيسها "بوش" الذي "ربما يظن أنه أيضاً الله... لدينا الآن ثلاثة آلهة. ولكن من منهم سينتصر؟" ص 14 فكثيراً ما تبيّن نقمتها على بوش والأميركيين بسبب وحشية غاراتهم وادعائهم الكاذب انهم يقصفون اهدافاً عسكرية فيما يدمّرون في الحقيقة المنازل والجسور والمعامل والمصانع والمطاحن وحتى الملاجىء التي يقتل فيها عشرات النساء والأطفال. ف"بوش مجرم" ص 19 و"القتل هو نظام العالم الجديد" ص 32. وتعلل هذه الوحشية بقولها: "ربما يريدون تدميرنا كي يؤمّنوا وظائف جديدة لسكان الغرب. فإعادة البناء وتجهيزات عسكرية جديدة ستضمن استقرار اقتصادهم خلال سنين" ص 27. وتتساءل: لماذا لا تصرف هذه البلايين على إطعام جائعي العالم بدلاً من صرفها على صنع هذه الأسلحة الفتّاكة؟! ص 32. وتشمل نقمتها هيئة الأممالمتحدة أيضاً حين تبيّن ما يصيب العراقيين نتيجة الحظر. وتسخر من ادعائها الكاذب ان العراق عاد الى اختراع قنبلة ذرية على الرغم من المراقبة الشديدة: "فإما أننا عباقرة، أو أن بعثة هيئة الأمم تضمّ أفراداً متخلفين". ص 122. فالسخرية والفكاهة في هذه اليوميات تبعدان عنها المأساوية التي ننتظر ان ترافق وصفاً مفصلاً للحرب. سخريتها مرّة ناقدة، أحياناً، كسخريتها من العراقيين الذين أحرقوا دواليب كثيرة "كي نضلل العدو بدخانها، فيما يستخدم هو تكنولوجيا الكمبيوتر لتدميرنا" ص 25. وأثناء الحظر لاحظت ظاهرة غريبة، إذ ولد أطفال كثيرون بكماً. فتعلّق: "لعلّ هذا أفضل لهم. هكذا لن يجدوا مناسبة للاعتراض على شيء". ص 67. ولكنها تضحك أحياناً فقط لتضحك وتضحكنا. كضحكها من هذا الصديق الذي يرفض مغادرة بيته مع أنه في خط النار "خوف أن تفاجئه غارة وقد أنزل سرواله. ولذلك يفكر طويلاً قبل أن يدخل المرحاض" ص 16. أو تصف حيلة هؤلاء اللصوص الذين سرقوا بيت سفير قطر فأجبروه على سوق سيارته أمامهم كي تظن الشرطة ان نقل الأثاث كان بأمر منه ص 69. وتضحك من إصرار الحكومة على أن يطلب الناس إذناً لكل كبيرة أو صغيرة. فحين كثر عدد الموتى تكتب: "إذا طلبنا إذناً كي نموت ستقول لنا الحكومة: ارجعوا بعد اسبوع واجلبوا معكم كل أوراقكم. وعلينا أن ندفع ثمن الإذن، وبعد ذلك قد يرفضون طلبنا". ص 119 والأمثلة كثيرة على هذه الفكاهة التي تلذ وتخفف من وطأة الشعور بالمأساة. ولكن مأساة الكاتبة والعراقيين لم تقتصر على الحرب والحظر الذي ضرب على العراق. ففي القسم الثالث والأخير من يومياتها تصف الكاتبة مرارة المنفى إذ اضطر العديد من العراقيين الى مغادرة بلادهم بحثاً عن الأمن والسلام ولا سيما عن لقمة العيش. وتغادر الكاتبة بغداد الى عمان في حزيران 1995 كي تقيم معرضاً للوحاتها، أسوة بغيرها من الفنانين العراقيين. فأول من يقصده هؤلاء العراقيون هو عيادات الأطباء كي تشخَّص أمراضهم وتعالَج كما ينبغي. وقد اكتشفت الكاتبة أيضاً أنها تعاني من مشكلات في الدم ومُخ العظام. بعد الأطباء يقصد العراقيون السفارات محاولين الحصول على تأشيرات هجرة الى أي من بلاد العالم. ونهى الراضي تنتقل الى بيروت بعد انتهاء معرضها، وفي بيروت تصف من تقابل من عراقيين متعلمين في بحثهم عن العمل، أي عمل، وفي فقرهم وعذابهم ويأسهم وشعورهم بالغربة والحنين الى وطنهم. الا انها تنتقد أيضاً خلافاتهم السياسية التي تورث بينهم شجاراً دائماً. وحين تعود الى عمان لتنال إشارة دخول ثانٍ الى لبنان تصف ما لاقت في السفارة اللبنانية من إهانة وذل قبل أن تُمنح التأشيرة، وفقط بفضل وساطة خاصة. وتستغرب نهى ذلك من اللبنانيين الذين عانوا هم أيضاً الذل والإهانة في السفارات الأجنبية خلال حربهم الطويلة وبعدها. ولكن، على الرغم من ذلك كله، تنهي نهى الراضي يومياتها بما تكنّه للبنان من حب وإعجاب بسبب ما يقدّره كل إنسان مثقف فوق كل شيء آخر: الحرية. فعلى الرغم من الحرب الأهلية الطويلة تؤكد ان لبنان لا يزال يتمتع بشيء من حرية التعبير. "ولهذا كان لبنان البلد المفضل يلجأ إليه المنفيون السياسيون من كل العالم العربي - كان هذا صحيحاً بالنسبة لأجيال أجدادنا وآبائنا، كما لا يزال صحيحاً بالنسبة الى جيلنا. ومن المستحيل ان نطلب مكاناً أفضل نلجأ إليه". 147. - صدر الكتاب بالانكليزية عن دار الساقي لندن 1998