الآن وبعد أن مر نحو شهر ولم ينجل الغبار إثر إعلان زعيم حزب «النهضة» التونسي، راشد الغنوشي، إن حزبه أصبح من أنصار فصل العمل الديني الدعوي عن العمل السياسي، سنحاول أن نقترب، ولو في تحليل شبه انتقائي، أكثر من ما تعنيه تلك الخطوة بخاصة ولو أنَّ البعض اعتبر - محقاً - أن الموضوع لم يحسم بصورة قاطعة، وسأل: «النهضة» والإسلام السياسي: انفصلا أم لم ينفصلا؟» (مقال محمد الحداّد، «الحياة»، الأحد، 5 حزيران/ يونيو 2015، ص. 16). والواقع أن الغنوشي يبدو غير واضح تماماً وهو يتحدث عن «التمايز» لا «الفصل» بين الدين والسياسة، أو بين المجتمع والدولة. لذلك، فإنَّ السؤال عما إذا كانت حركة «النهضة» انفصلت عن الإسلام السياسي أم لم تنفصل في محله تماماً. كما لا نعرف إنْ كان الغنوشي قبل بالعلمانية المخففة أم لم يقبل. إلا أنه يقول في صحيفة «الشرق الأوسط» (1 حزيران/ يونيو 2016، ص. 11) إنَّ «النهضة» أصبحت تخصصية وليست علمانية، لكنه أكد في الوقت نفسه أن حزب «النهضة» حزب مدني وطني يمثل التعاون بين التيارين الدستوري والإسلامي ومتصالح مع الدولة والمجتمع اللذين تبنيا في دستور 2014 بوضوح أن الإسلام دين الدولة. ويزيد: «لا يوجد في تونس اليوم زعيم أو حزب سياسي مهم يصف نفسه بالعلمانية ويتبرأ من الهوية الإسلامية للبلاد وللشعب بما في ذلك رئيس الدولة...». الإشكال في كلام الغنوشي مثلث: فهو لا يستطيع، لأسباب تتعلق بالحفاظ على قاعدة «النهضة» الشعبية، التصريح الواضح بما يعني فيكتفي بالتلميح البعيد إذ يقول ب «التمايز» ولكنه يعني «تقسيم العمل الوظيفي» كما أنه - ثانياً - لا يرى تعارضاً بين الدستور والشريعة (التي لا يذكرها بصورة تكاد تكون مطلقة في تصريحاته الأخيرة). وقد وافق حزب «النهضة» على التعديلات التي كانت أُدخلت في عهد الرئيس بورقيبة على قانون الأحوال الشخصية بالنسبة الى الإرث والزواج، وهي تعديلات غير متفقة مع الشريعة. أما الإشكال الثالث المتعارض مع الثاني فيتعلق بجعله العلمانية غير متوافقة مع الهوية الدينية الإسلامية للدولة وللبلاد وللشعب. وهذا غير صحيح إذ إنّ هناك العديد من البلدان العلمانية في العالم التي لم تتخلَّ عن هويتها الدينية وأهمها الولاياتالمتحدة، وبريطانيا واليونان، وأيضاً روسيا في عهد بوتين، ولا ننسى حتى تركيا بعد تسلم حزب «العدالة والتنمية» مقاليد الحكم برئاسة أردوغان. ويبدو أن الغنوشي متوجسُّ من لفظة «العلمانية» بسبب ما علق بها في سياقها التاريخيّ الحزبيّ في العالم العربيّ أكثر مما هو متوجس من مضمونها الذي يقبل به في لغة تشدد على الثقافة الإسلامية للدولة كما المجتمع. والسؤال الرئيس هو ما هي نظرة الغنوشي العامة الى العلاقة بين الإسلام والدولة والمجتمع؟ بوطية في المجتمع ونصف علمانية في الدولة؟ كيف نتقدم لحلِّ هذه الأُُحجية؟ يمكن مقاربة الجواب من خلال ما قاله الغنوشي نفسه في محاضرة ومقال قدمهما في تاريخين متباعدين: في 1998، كتب رئيس حزب «النهضة»، مقالاً ذا عنوانٍ معبر: «حيرة الحركة الإسلامية بين الدولة والمجتمع». وعلى رغم أن الغنوشي يقول أشياء كثيرة متداخلة في هذا المقال، إلا أننا نختار تركيزه على دور الدين في المجتمع، إذ يشير إلى أنَّ من واجب الحركة الإسلامية أن تضخ في المجتمع خريجيها ممن يملكون ملكات في توجهات أخرى، ولا تحبسهم في صفوفها». فالحركة الإسلامية - بحسب هذا التصور - أشبه ما تكون بالمدرسة الحضارية التي تقوم بتخريج أجيال صالحة تنبت في سائر شرايين المجتمع وخلاياه لتقوم بمهمة النهوض الإسلامي... ولقد عبر عن هذه الفكرة بجلاء أحد أبرز العلماء المعاصرين هو (الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي قتل غيلة في سورية) في كتابه «الجهاد في الإسلام»، حيث انصبّ بنقد صارم لاذع للجماعات الإسلامية السياسية التي انصرفت عن الإصلاح الإسلامي المتمثل في دعوة التائهين والجانحين والفاسقين والواقعين في شباك الغزو الفكري، إلى نشاطات حركية خاصة بها، لا علاقة لها بالدعوة إلى الله، وإنما هي دعوة إلى نصرة حزب يسعى إلى سدّة الحكم فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بإصلاح القلوب وإقناع العقول وتهذيب النفوس... وكان الشيخ البوطي - باعتباره عضواً في (الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة في سورية) - قد عُرض عليه يوماً أن ينشئ ويترأس كتلة إسلامية داخل الجبهة فرفض رفضاً قاطعاً على اعتبار أن ذلك إقرار منه بأن الإسلام تقاسم مع أعضاء الجبهة النفوذ والسلطان في القطر، ومعنى ذلك أنه فاز بنصيب الخُمس أو السُدس وأن علاقة الإسلام مع بقية أعضاء الجبهة غدت علاقة تنافس سياسيّ، وهذا تقليص لسلطان الإسلام ثم تحجيم له بل سعي للقضاء عليه. بينما الأمر عندهم: (إن الإسلام في الواقع الملموس هو القدر المشترك الذي يجب أن يجمع بين أعضاء هذه الجبهة تماماً كالهوية المشتركة، فإذا كان الإسلام يؤلف بينهم جميعاً، كما يؤلف المِعصم الواحد بين الأصابع الخمس المتعددة فمن ذا الذي يرضى أن يرجِع ثم يرجع إلى الوراء، فيجعل من هذا المِعصم الجامع إصبعاً مجاورة أخرى). أما على مستوى الدولة فقد رأى زعيم «النهضة» في محاضرة له في 2012 أن «الإشكال الغربيّ تمحور حول كيفيّة تحرير الدولة من الدّين ما أدّى إلى ثورات كبيرة لنيل هذه الغاية، بينما وجه من وجوه الإشكالية عندنا هو كيف نحرِّر الدّين من الدولة ونمنعها من التسلُّط عليه وأن يظلَّ هذا الأخير شأناً مجتمعيّاً متاحاً لكل المسلمين بأن يقرأوا القرآن ويفهموا ما شاؤوا ولا بأس في التعدد الذي يفرض قدراً كبيراً من التسامح. أمّا إذا احتاج المسلمون إلى قانون فالآليّة الديموقراطيّة المعاصرة هي خير تجسيد لقيمة الشّورى في الإسلام فلا يكون الاجتهاد حينئذ فردياً بل جماعي من قبل ممثّلي الشّعب». (ولا نجد هنا إصراراً على جعل الشريعة سقفاً للقانون كما هو الأمر في إيران اليوم مثلاً). وهو يضيف: «الإسلام منذ نشأته وعبر امتداده التاريخيّ لم يعرف هذا الفصل بين الدين والدولة بمعنى إقصاء الدين عن الحياة. وظلّ المسلمون، منذ العهد النبوي وحتى يومنا هذا، متأثّرين قليلاً أو كثيراً بنظرتهم إلى أنفسهم على أنّهم مسلمون وينبغي أن يستلهموا من الإسلام وتعاليمه موجهات لحياتهم المدنيّة مع بقاء التمييز واضحاً. هذا التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسيّ واضح حتى عند الفقهاء، فالفقهاء ميّزوا بين نظام المعاملات ونظام العبادات فاعتبروا الأخير مجال التقيّد (الصلاة، الصوم، لماذا نصلّي 5 صلوات؟ لماذا بعضها فيه 3 ركعات، والبعض الآخر 4؟) هذا مجال الثوابت والتقيّد والعقل غير مؤهّل في هذا المجال، ففي مجال العقائد والعبادات العقل غير مؤهّل لأن يدرك الحقيقة. ولكن مجال المعاملات هو مجال البحث عن المصلحة، لأنّ الإسلام جاء لتحقيق مصالح العباد كما أقرَّ الفقهاء الكبار، من الشّاطبي إلى ابن عاشور، بأنّ المقصد الأسمى لنزول الرِّسالات هو تحقيق العدل ومصالح النّاس، هذه المصالح تتحقق من خلال إعمال العقل في ضوء موجِّهات، مقاصد، مبادئ وقيم الدّين. لذلك ظلّ هنالك مجال للمعاملات يعرف تطوّراً مستمراً ومنه نظام الدول وهذه تمثل المتغيّرات، بينما ما هو عقائدي وشعائري وما هو قيميّ أخلاقيّ يمثل الثوابت». هنا أيضاً يتحدث الغنوشي تارة عن «عدم فصل الدين عن الحياة» وطوراً عن «عدم فصله عن السياسة» ولكنه يفسر أن ذلك يعني الالتصاق بالدين في المجتمع والتأثر بالدين وثقافته واخلاقياته في السياسة من دون التزام واضح بالشريعة، بل بالقوانين الوضعية أو بخليط من الاثنين معاً. ويمكن استنتاج ذلك من قوله: «عبر التاريخ الإسلامي كانت الدولة متأثِّرة بالإسلام على نحو أو آخر في ممارساتها، والقانون يسنُّه البشر في ضوء القيم الإسلامية كما يفهمونها، ومع ذلك ظلّت الدول إسلاميّة لا بمعنى أنّ قوانينها ومسالكها وتراتيبها وحييّة، وإنّما هي إجتهاد بشري قد يوافقه إجتهاد ويخالِفُه آخر».