قدم الباحث د.عمر رياض ورقة بحثية عن إشكالية مفهوم الدولة وشكلها في فكر التيارات الإسلامية المختلفة تحت عنوان: (الشروط الغائبة.. حلم استعادة الخلافة يواجه معضلة الحداثة). وقد أشارت الورقة إلى أن التطورات المتلاحقة في الشارع السياسي الإسلامي والعربي، بعد الثورات العربية، تطرح أسئلة تشغل الباحثين في الشأن الإسلامي والسياسي عن مفهوم وشكل الدولة في ذهنية هذه التيارات الإسلامية التي بدأت تشكل جزءًا كبيرًا من السلطات السياسية في الدولة. وانطلقت الدراسة في محاولتها هذه من تحليل تاريخي لظاهرة الإسلامية أو الجامعة الإسلامية، التي بزغت في منتصف القرن التاسع عشر، خاصة أن الفكر الإسلامي قد تشتت في أطياف وألوان مختلفة على مر العقود الأخيرة. وأصبحت هذه الحركات الإسلامية نفسها لا تتفق على مفهوم الدولة الإسلامية، وما يتعلق بها من مسائل مثل تطبيق الشريعة، والحريات العامة، ومشاركة المرأة والأقليات، وما إلى ذلك من أمور تختلف حولها المصطلحات والمفردات الدينية التي يستخدمها كل طرف. يذكر الباحث أن المدقق في تاريخ الفكرة السلفية المعاصرة ودعوتها لبناء إسلامي متكامل لشكل الدولة، يستطيع بكل سهولة أن يستخلص أنها حركة بدأت نشأتها في منتصف القرن التاسع عشر كظاهرة "تقدمية إصلاحية"، تطمح إلى تحديث بعض المفاهيم الإسلامية بما يواجه تحديات تلك الفترة، والدعوة إلى بناء مجتمع إسلامي مثالي. ومهما اختلف جوهر هذه الأطروحات لدى هذه الجماعات لمفهوم الدولة، فكل منها يشير إلى نموذج تاريخي معين، قديمًا كان أو حديثًا، وإلى ما يراها قيمًا إسلامية قد اندثرت. فنجد منها من يشير إلى دولة المدينة النبوية الأولى وعصور الخلافة الرشيدة كفكرة نوستالجية تعيد الحنين للعصر الإسلامي الذهبي الأول، ومنها من يبحث عن نموذج أو تجربة جمعت بين نظام علماني - إسلامي معتدل، مشيرين إلى التجربة التركية الأخيرة، أو حتى الإشارة إلى النماذج الأوروبية للأحزاب الديمقراطية المسيحية، والتي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية كمنافس قوي في الشارع السياسي الأوروبي، خاصة بعد هزيمة النازية والفاشية. ويعيد الباحث التصورات الإسلامية عن الدولة في العصر الحديث إلى رواد الحركة الإسلامية الأولى، متمثلة في كل من الأفغاني وعبده ورشيد رضا، حيث رسم كل منهم تصورًا معينًا لنموذج الدولة الإسلامية في مواجهة التحدي الكبير المنوط بتدهور العالم الإسلامي وحضارته وفكره، والذي كان يرزح تحت وطأة الاستعمار، مما أدى إلى ضمور الوعي الإسلامي بتاريخه في تصورهم. وقد اختاروا طريقًا وسطا للإصلاح، بعد أن كان العالم الإسلامي يحار بين فريقين، الأول يدعو إلى الجمود وحرفية النص، والآخر يدعو إلى التغريب والتحلل من كل ما هو موروث. أما عن شكل الدولة فقد اختار الأفغاني طريق الإصلاح فيها من خلال السياسة، وإثارة المسلمين وتحريضهم على الثورة ضد الاستعمار والأمراء المسلمين الفاسدين، وركز الأفغاني في دعوته على محورين أساسيين، هما: أن ما يعوق التقدم في إنشاء مجتمع إسلامي رصين هو أن جهال المسلمين قد أضاعوا الإسلام الصحيح بجهلهم لجوهر الدين. ومع ظهور جمال الدين الأفغاني على الساحة المصرية، نجد الشيخ محمد عبده يتبنى أفكاره، لكن سرعان ما انشق الشيخ محمد عبده عن تلك الفكرة الثورية في إرساء دعائم الدولة، واللجوء إلى أفكار إصلاحية بديلة في مجال التربية، بعيدًا عن السياسة والثورة والدم، ويرفض الشيخ محمد عبده فكرة قيام سلطة دينية على أساس إسلامي في المجتمع معللًا ذلك بأنه "ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير من الشر، فالإسلام من وجهة نظره يدعو إلى إرساء حكم مدني، وذلك لأنه قد جاء ليقلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، وهذا الحس المدني للشيخ محمد عبده لم يكن بمعزل عن الشريعة؛ فالإسلام عنده "دين وشرع، فقد وضع حدودًا، ورسم حقوقًا، فلا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود". ومع هذا، فقد ظل فريق من المفكرين الإسلاميين -من أمثال راشد الغنوشي، ويوسف القرضاوي، ومحمد عمارة، وفهمي هويدي، وحسن الترابي، وغيرهم- ينظرون لفكرة الدولة الإسلامية على الخط نفسه الذي رسمه الأفغاني وعبده ورضا والبنا، منتقدين في بعض الأحيان النهج العنفوي. وتظل تؤكد تلك النظريات النخبوية في الحركة الإسلامية المعاصرة أن السلطة في الإسلام ضرورة اجتماعية، مستدلين بإجماع عمل الأمة على ذلك، وأن وثيقة المدينة هي اللبنة والنموذج الأول لبناء دستور إسلامي، يوفق بين حقوق وواجبات أطياف مجتمع المدينة الدينية، تحت مظلة الدين الجديد. ويصل البحث إلى سنوات ما قبل الثورات العربية حيث يلاحظ الباحث أن مسألة الخلافة وإعادة مفهوم الإمامة العامة تكاد تكون خافتة في أدبيات الإسلام السياسي، إلا في بعض الخطب الرنانة، أو الأحاديث العامة، بلا أي تنظير سياسي. وأصبحت تلك الحركات السياسية تصب اهتمامها الأكبر إلى تكوين مشروعات قطرية في كل بلد على حدة، مع إسقاط شبه تام للبعد الخارجي لتلك المسألة. ونجد أن خطابات قادة الإخوان، على وجه التحديد في سنوات ما قبل الثورات تمثل أطروحات حزبية بعيدة عن النظرة الشمولية التي انتهجتها الجماعة في بداية حياتها السياسية على الأقل، منخرطة أكثر في طرح مبادرات إصلاح سياسي مثلها مثل أي حزب من الأحزاب الوطنية المتعددة دون تطرق كبير لمفهوم الخلافة. وفي ختام بحثه يقسم الباحث التيارات الإسلامية بعد الثورات العربية والمنشغلة بالسياسة إلى ثلاثة تيارات رئيسية: هي: تيار الإخوان المسلمين والحركات القريبة من فكره، والذين يحاولون إعادة الخطاب والدعوة التي أرسى قواعدها البنا، ومن قبله الأفغاني وعبده ورضا. لكن يطرح تساؤلًا حول ما إذا كانت هذه التيارات ستدخل حيز الواقع السياسي، وتقبل الوقوف عند عتبة الدولة المدنية، والتوفيق بين مفاهيم تلك الدولة الحديثة، وما يتصل بها من المفاهيم الحزبية والتباري السياسي من جهة، وبين المفاهيم الإسلامية حول شكل الخلافة. ثاني هذه التيارات هو الذي يتبنى الخط الجهادي، وهو الخط الذي اختار الصدام مع السلطة في العقود الماضية، لكنه رغم الإشارة إلى خفوت صوته بعد الثورات العربية إلا أنه لا يزال يحتفظ بالموروث القطبي، وتأكيد استرجاع نموذج دولة الخلافة، أو تأسيس دولة الخلافة الثانية في الأزمنة الحديثة للحفاظ على حاكمية الله وشريعته. أما التيار الثالث: فهو السلفية التقليدية كطرف إسلامي منافس في الصراع على السلطة البرلمانية والتشريعية، بعد عقود طويلة من نبذ فكرة المشاركة الديمقراطية على أنها فكرة كفرية، ولقلة خبرة هذا التيار الأخير في مجال السياسة، نجده متخبطًا في إصدار قراراته. ويظل التحدي الأكبر لكل هذه التيارات في مسألة القدرة على التوافق أو عدم التوافق مع الأنظمة الحديثة، وكيف ستقوم هذه الحركات بين الجمع بين الإسلام والحداثة، وهي المشكلة نفسها التي واجهت السلفيين الأوائل، لكن في سياق استعماري آخر. والنتيجة المجهولة والمثالية التي يطمح إليها كل فريق هي إما "أسلمة تلك الحداثة"، أو "تحديث الإسلام".