حين أقدَم الناقد الإنكليزي ف. ر. ليفيس 5981 - 8791 على تأليف كتابه الهام"الأثَر الجليل"The Great Tradition 8491، اختار موضوعاً له خمسة روائيين بريطانيين هم: جين أوستن، وجورج إليوت، وهنري جيمس، وجوزيف كونراد، ود. ه. لورانس، باعتبارهم أصدق الروائيين تعبيراً عن التقاليد الأدبية والمُثُل الانكليزية المحضة في الرواية، على رغم ان جيمس من أصل أميركي، وكونراد من أصل بولندي. ولو أنني حذوتُ حذو ليفيس واخترت من تراثنا كله خير ما يمثّل الروح العربية الحقّة قبل أن يُفسدها التعصّب والعنف وضيق الأفق، لوقع اختياري للتو على"كتاب الأغاني"لأبي الفرج الأصبهاني، وهو الكتاب الذي وصفه ابن خلدون بأنه أعظم كتب التراث العربي على الإطلاق. لا أدري إذا كان هذا الوصف منه جاء متصلاً بعروبة الكتاب، أم بعظمته. والحقيقة انني ما أعيد قراءة"الأغاني"حتى يغمرني إحساس من الذهول والعجب إزاء سعة أفق صاحبه، وحسن تقبّله للحياة بمظاهرها وتناقضاتها كافة، وللاخلاقيات بكل تفاوتاتها ومستوياتها، وإزاء احجامه التام عن اصدار أحكام دينية جامدة، أو أخلاقية متزمّتة، على من يتحدث عنهم من الشعراء والمغنين والملحنين، وعن أن يسمح للمعتقدات بالتأثير في رأيه في انتاجهم الفني. ثم لا التزام لديه بغير الموضوعية والسماحة والمعايير الفنية، سواء كان الشخص موضوع الحديث فاسقاً داعراً، أو ورعاً قويم الخلق. أقربُ الناس اليه في موقفه هذا هو البريطاني ويليام شكسبير. ففي اعتقادي ان سر عظمة شكسبير يكمن في رفضه للتعميم السطحي، وعزوفه عن اتخاذ موقف اخلاقي مُبسَّط تجاه الشخصيات والأحداث. فالعالم الذي يصوّره مملوء بالمتناقضات، وهو مزيج من الخير والشر، من العهر والورع، من الأحزان والأفراح، من الإحباط وبلوغ القصد... وهو يكن الحب لمعظم شخصيات تمثيلياته، يمقت إدانة الأشرار، تاركاً أمرها للمتفرّج أو القارئ، ويحرص على أن يتيح للأوغاد من أمثال ياغو وشايلوك فرصة التعبير عن وجهات نظر منطقية ومقبولة الى حد، بل وبإمكان البعض أن يتعاطف معها... والحياة عنده - كما عند أبي الفرج في"الأغاني"- مزيج متلاحم من النور والظلمة، ومن الفضيلة والرذيلة، لا يمكن الفصل بين هذا وذاك، ولا بد من قبول عناصرها كافة... فإن نظرنا الى مسرحيته"هنري الرابع"وجدناه فيها يصوّر الحياة في القصور وفي الحانات، في زمن الحرب وزمن السلم، يصف التعطش الى المعارك والتعطش الى الخمر، وأخلاقيات الزوجة الفاضلة والبغيّ الطروب، والشجاعة والجبن، وعلوّ الهمّة وتقاعسها، والنظرة السوداوية والروح المتفائلة. كل هذا من دون ميل مسبق الى جانب دون جانب، ومن دون نزوع الى اصدار أحكام. أجل كان هنري الرابع مغتصباً للعرش، غير انه كان ملكاً حازماً كفوءاً... أجل كان هوتسبير فظاً في خصوماته، غير انه كان باسلاً مقداماً... أجل كان ولي العهد هنري ميّالاً الى اللهو العبث، غير انه أثبت بعد اعتلائه العرش ان لديه مقوّمات الملك العظيم... أجل كان فولتساف وغداً داعراً، غير أن صحبتك إياه كفيلة بإشاعة روح البهجة فيك... فالصوت عند شكسبير، وعند أبي الفرج الأصبهاني، هي للحياة ذاتها. كذا هي، وكذا ستظل دائماً... ولا واجب يقتضي من الكاتب غير أن يتفهم وجهات النظر جميعاً، والبواعث كافة، ثم يبسطها في حياد وموضوعية، تاركاً للقارئ حرية الاختيار على ضوء المعرفة الكاملة... وعندهما ان القدرة على الاختيار الحكيم الناضج لا تتسنى للعاجز عن أن يرى من الألوان غير الأسود والأبيض، وإنما تتسنى من الإحاطة بالألوان جميعاً، وبالظلال على كثرتها وتعددها. *** ثم أمضي فأعود بذاكرتي الى أيام صباي حين كان أبي - وهو الأزهري والأستاذ الجامعي في آن واحد - يسمح لي ولإخوتي بحضور مجالسه في بيتنا وفي لجنة التأليف والترجمة والنشر مع طائفة من الأزهريين والأساتذة الجامعيين من أمثاله، كطه حسين، ومصطفى عبدالرازق، وعلي الخفيف، وعبدالوهاب خلاّف، فأجدهم جميعاً أبعد ما يكونون عن التنطّع والفظاظة والجمود وضيق العَطَن، يستملحون النكات والمداعبة والحديث الهادئ العذب، لا يعجلون بإصدار أحكام، ولا يرون في الحياة ما هو أثمن من القبول الباسم لسُنّة الحياة، وهي التنوع والاختلاف، والامتزاج المحتوم لخيوط الشر والخير في نسج واحد. ثم يخطر بذهني أن هؤلاء جميعاً وغيرهم من مثقّفي جيلهم إنما نشأوا على قراءة واستيعاب مؤلفات أبي فرج الأصبهاني وأمثاله، كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي وأبي العلاء المعري، وغيرها من ثمرات"الأثر الجليل"، ونهلوا نهلاً من كتب التراث رفيعة المستوى، انسانية المضمون، وتأثروا بها أضعاف تأثرهم بكتب المتشددين المتنطحين. ويخطر بذهني أيضاً كيف ان أبناء الجيل الراهن زورّوا ازوراراً عن آثار القمم الشامخة في تراثهم الى كُتيّبات باتت تملأ أرصفة الشوارع عندنا، وتتحدث عن نَقْض استخدام صبغة اليود للوضوء، وما إذا كانت الصور الشمسية والشعر المستعار والجلوس على الكراسي حراماً أم حلالاً، وعن محظورات ما أنزل الله بها من سلطان، كالنهي عن دخول الحمام بالقدم اليمنى، أو تزيين المساكن بالصور، ومئات من أمثال تلك النواهي التي لا تدل الا عن استغراق متزايد في التفاهات. كان مدرس اللغة العربية في مدرستنا في أوائل الأربعينات من القرن الماضي يخصص حصة في الأسبوع يقرأ علينا خلالها من"كتاب الأغاني"، ويشرح لنا ما استغلق على أذهاننا فهمه... فما الذي يقرأونه اليوم على الصبية والشباب، وما هو يا تُرى مفهوم رجال التربية الآن عن كيفية إعداد جيل يتّسم بالصفات المطلوبة للتعامل مع احتياجات القرن الحادي والعشرين، وأولها بكل تأكيد ضمان سعة الأفق؟ قال صاحبي:"ما تفسيرك لهذه الظاهرة السائدة التي ما لمسناها قطّ في زمن أجدادنا أو آبائنا أو أوان صبانا؟ ما الذي أدخل في ديننا التشنةج والتنطع وضيق الصدر، وكنا لا نرى من آبائنا غير السماحة والتماس الأعذار؟ ثم ما الذي عساه أن يكون وراء خروج مسلمي هذا الزمان، يوماً بعد يوم، بالمزيد من دواعي الاستنكار، وحتى التكفير، لمسلك غيرهم من المسلمين، ونزوعهم الى التضييق على غيرهم وعلى أنفسهم ببيان المحظورات؟ "ثم قل لي بالله عليك: ما السبب في أن أصوات خطباء الجمعة هي دائماً غاضبة، تهدر كالموج الصاخب، تنذر وتتوعّد، تحذّر وتهدد، سواء كان موضوع الخطبة أهوال القيامة، أو موقعة بدر، أو شمائل الرسول والصحابة، أو الدعوة الى المغفرة والمعاملة بالحسنى، أو زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش؟ حتى إذا ما تناول الخطيب بالتسير آية مثل: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وردت كلمة"السلام"على لسانه وكأنما يستنزل بها اللعنات على هؤلاء الجاهلين، أو عبارة"الصفح والمغفرة"فكأنما يقصد بلهجته النارية ان أبوابهما قد أُغلقت الى الأبد؟ "قد تعجب لأمر هذا الخطيب أو ذاك ما أغضبه، وما عكّر صفو مزاجه وأتعبه، فتحسب أن المسكين لا بد يعاني قرحة في معدته، أو أن زوجته ربما غاضبته وأبت أن تعد له فطور الصباح، أو ان ابنه خرج عن حدود الأدب في مخاطبته إياه قبل أن يتوجه الى المسجد ليؤم الصلاة... غير أنك تمرّ بالمسجد تلو المسجد في القاهرة بل وفي سائر أنحاء القطر، وتسمع صوت الخطيب تلو الخطيب في مكبّر الصوت، فإذا الجميع غضبى، قد بُحّت أصواتهم من حدّة الصراخ وطول الزعيق، فتدرك أنه لا يمكن أن تكون القرحة أصابت معدات الجميع، ولا يُعقل أن تكون زوجاتهم جميعاً أبين إعداد الفطور... ويخامرك عندئذ الشك في انه ربما كان الخطاب الديني لا مجال فيه للصوت الهادئ، أو للنبرة الوقورة ومشاعر الحلم... وتتذكر لتوّك أداء الممثلين المصريين في المسلسلات الدينية التلفزيونية، فإذا هو الشيء ذاته، وكأنما كان من المتعذّر على أبي بكر أن يخاطب عمر بن الخطاب بحديث عادي هادئ كحديثك مع صديق في زمننا هذا. "هي اللهجة ذاتها يستخدمها خطيب المسجد في الكلام عن نعيم الجنة والكلام عن عذاب النار. غير انه عند الكلام عن عذاب النار تتفجّر مواهبه الكامنة إذ يجد فيه مجاله الطبيعي الموافق فيرتع فيه ويسبح كالسمكة في الماء. كذلك فإنه لا شك في أن مكبّرات الصوت في المساجد تناسب الحديث عن الزبانية والشياطين أكثر مما تناسب الحديث عن الملائكة وسكينة الروح. "لسان حالهم يشهد بأن المسلم كلما ازداد فظاظة وكراهة لمخالفيه في الدين، أو مخالفيه في الرأي، كان أقرب الى الله تعالى والى الإيمان الحق. وأغلب ظني أنهم حين يتلون من آيات الذكر الحكيم وجادلهم بالتي هي أحسن، أو ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، يودّون في أنفسهم أن القرآن لم يوردها، واكتفى بآيات مثل: فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم!". قلت: فأما عن سؤالك الأول فإنني بدوري أسألك: أي جانب من جوانب حياتنا المعاصرة تراه وقد سلم من التشنج وضيق الصدر؟ السياسة أم الفن أم السلوك الاجتماعي، أم العلاقات العائلية أو الوظيفية، أو صلات الجيرة؟ كنت يوماً ساءلت طبيباً هو صديق لي عن سبب تفشّي الجشع وفساد الذمّة لدى الأطباء والممرضين عندنا، فردّ يسألني عن أية فئة من فئات مجتمعنا اليوم برأت من الجشع وفساد الذمة، حتى أعجب لإصابة فئة الأطباء - وهي جزء من هذا المجتمع - بالآفة نفسها؟ كذلك فإنني الآن أسائلك عما يدعوك الى العجب لهذا التشنّج ونفاد الصبر السائدين الآن في أمور الدين وهما اللذان يسودان مظاهر سلوكنا كافة الآن؟ استمع الى تسجيلات لخطب قادتنا السياسيين منذ عهد عبدالناصر، وراقب الاشارات والحركات وتعابير الوجه مما يصاحب تلك الخطب... نحن نعلم أن كل خطبة تُلقى على الجماهير هي نوع من التمثيل وضرب من ضروب الحجيج... دائماً النغمة نفسها: تاتا تتتاتا... تاتا...تتا تاتتتا... يا للوقار! ويا لها من أداة رفيعة لتنوير الأذهان! تتا تا تاتتتا... تتا تا تتتا! وتسأل نفسك في انزعاج عما عساه أن يكون قد حدث فأغضب الرجل المسكين. لا شيء... الرجل المسكين في منتهى السعادة... انه مجرد الصوت فحسب. فالصوت عند استخدامه في مخاطبة الجماهير دائماً غاضب... دائماً مخيف... بوسعك أن تتحدث بهدوء الى صديق، أو الى زوجتك... أما الى ألف. فلسبب لا يعلمه إلا الله تظهر من حيث لا تدري نبرة جنائزية، نبوية، تتتا تاتا تاتتا... وتتأمل وجوه المستمعين الى الخطاب من حاضري الاحتفال، فإذا بأصحابها ينهلون من كلمات الزعيم نهلاً وقد وجدوا في خطبته تعبيراً عن حقدهم وسواد قلوبهم... حقد أينما ولّيت وجهك... حتى في لهوهم ومزاحهم. وأما عن سؤالك الثاني عن تضييق المسلمين الخناق على أنفسهم، فاعلم - حفظك الله - ان غالبية الطقوس والشعائر الدينية منذ أقدم الأزمنة كان مصدرها الرغبة في اتقاء شرور يراها مقدّمو القرابين وسيلة لاسترضاء الآلهة فتردها عنهم، أو الرغبة في خير لأنفسهم فيرون القرابين حيلة للتعجيل به. والملاحظ أنه كلما أحكمت الضائقة قبضتها على المرء فزادت من متاعبه، أكثر من فرض القيود على نفسه، وألزمها بالمزيد من التضحيات والواجبات الثقيلة مما نعدّه نحن من القرابين الوثنية العتيقة. فهو يرى أنه بإمعان في تعذيبه لنفسه وحرمانها من الراحة، يُرضي الآلهة فتحنو عليه وتنجيه... وفي ظني أن مثل هذا المنحى الذهني يتضمن إهانة رهيبة للإله، إذ ينطوي على الاعتقاد بأن الإله لا يقنع إلا بعذابنا، ولا يشملنا برحمته إلا ان افترضنا ان ذلك الإله المدبّر للكون كله يمكن أن تشغله أمور مثل دخولك الحمام بالقدم اليمنى، أو ان يرى في صبغة اليود ما ينقض وضوءئك. قد زادت متاعبنا في هذا الزمان فزاد التجاؤنا الى هذه الحيل الساذجة لاسترضاء الرب... غير أن الحياة في ظني أحفل بالمصاعب من ان نزيد منها بمثل هذا المسلك... كذلك فإن مثل هذا المسلك كفيل بأن يصرفنا بكل تأكيد عن محاولة بذل جهد حقيقي سليم من أجل التخفيف من هذه المصاعب. قال صاحبي: والحل؟ قلت: لا حل بعد هذا كله إلا في العودة الى الأثر الجليل، الى أبي فرج وكتابه"الأغاني"، الى التمسك بأهداب سماحة الإسلام، وبمبدأ الاحترام المتبادل القائم على حق الغير في المخالفة انطلاقاً من قناعاته وانسجاماً معها، وفي العمل على توفير المناخ الثقافي الذي يرفض العنف الجسدي والإرهاب الفكري، ويسمح بتطوير قراءة النص قراءة مواكبة لتطور المجتمع وظروف العصر. هل حدث وتأمّل المسلم في حكمة اختتام الصلاة بالالتفات الى الجالسين الى يمينه قائلاً:"السلام عليكم ورحمة الله"، ثم الالتفات الى الجالسين الى يساره قائلاً:"السلام عليكم ورحمة الله"، ثم مصافحة جاريه الى اليمين والى اليسار مع الدعاء للكافة بالاجماع في الحرم؟ هل حدث ورأى في هذه الخاتمة للصلاة تقبّلاً من المسلم لمن هم في الرأي عن يمينه أو عن يساره، وتذكرة بأن الأمة مهما بلغ اختلاف الآراء بين أفرادها تجتمع في الصلاة والصوم والحج وسائر العبادات، ودعاء الى الله أن يجنب هذه الأمة شرّ الفوضى، وأن يُبقي اختلاف الرأي بين أبنائها رحمة، ما تمسّكوا بالتسامح بينهم، وبحق صاحب الرأي المخالف لرأيهم في المخالفة، وتأكيداً لحقيقة أنه ليس لمسلم أن يتكلم باسم الاسلام، ظاناً انه وحده - أو هو وجماعته وحدهما - من يفهم النص على حقيقته، وأن غيره هو حتماً على خطأ، فيقيم نفسه بهذا الادعاء مقام الله ويقع في الشرك؟ كاتب مصري.