مع الكتب التي كان الناس يتداولونها من قرن الى قرن قبل اختراع الطباعة، كان الشائع أن يتناول النساخ نصها بالتغيير في ضوء تغير أذواق العصر، خصوصاً ان كانت تلك الاذواق قد طرأ عليها - بفضل التمدن والتحضر - تطور الى أحسن فمسها التهذيب. فملاحم الشمال الاوروبي مثلاً طرأت عليها التعديلات عقب اعتناق شعوب ذلك الشمال للمسيحية، كذلك فإن كتب العبرانيين الاوائل التي صنفوها وقت عبادتهم لآلهة شتى، تغير الكثير من نصوصها بعد ان أصبح يَهوَه هو ربهم الأوحد. وها نحن ودواوين الشعر الجاهلي بين أيدينا نجدها خالية من الاشارات الى الاوثان والمعتقدات الدينية لأهل ذلك الزمان، خلوّها من القصائد التي نظمها في هجاء الرسول عليه السلام شعراء اوردت كتب السيرة اسماءهم. وحتى بعد اختراع الطباعة واندثار صنعة النساخ واحتمال تدخلهم في النص بالتغيير او الحذف، نجد الفرق التمثيلية التي كانت تقدم مسرحيات شكسبير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تقدم على إدخال التغيير على النص وتتناول بعض عباراته بالحذف، حتى لا تصدم قيم القرنين السادس عشر والسابع عشر قيم معاصريهم وحساسياتهم. فإن نحن نظرنا إلى مَلْحمتَي هوميروس "الإلياذة" و"الأوديسة"، نجد أفلاطون يذكر في جمهوريته أن ثمة في الملحمتين فقرات هنا وهناك تصدم الحس الأخلاقي لدى معاصريه أي معاصري أفلاطون، وأن "علينا أن نناشد هوميروس ألا يغضب من قيامنا بحذف تلك الفقرات". وذكرت الكتب أن ناقدين كبيرين، هما زينودوتوس وأريستارخوس نهضا بهذه المهمة بعد زمن أفلاطون، والمؤكد أن غيرهما من النقاد والشعراء أقدموا على هذا الحذف من الملحمتين قبل أفلاطون، فأغفلوا منهما كل ما يخدش الحياء، وبذيء السباب، ونسبة الخوف إلى الآلهة والأبطال، أو البواعث الدنيئة إلى أخيل أو أغاممنون، أو ذكر قائمة بغراميات زيوس، وما شابه ذلك. كذلك امتدت يد الحذف من الإلياذة إلى رذائل بدائية معينة - كاللواط - كانت منتشرة في معظم أنحاء اليونان، وحوّل الناسخون الزواج في "الأوديسة" بين أخ وأخته إلى زواج بين عمّ وابنة أخيه. وإذ استفظع القوم بعد زمن هوميروس حديثه عن تعذيب هكتور قبل موته، فقد غيروه فأصبح تمثيلاً بجثته بعد مقتله. وكان ثمة اتجاه عموماً إما إلى حذف ذكر تقطيع الأوصال والتعذيب وفصل الرأس عن الجسد وكشف عورة القتيل، أو إلى تخفيف صراحة التعبير عند الحديث عن هذه الأمور. كذلك فإن استنكار الرأي العام في القرون التالية لاستخدام السهام المسمومة في الحروب، أو لتقديم القرابين البشرية إلى الإلهة، دفع النُّساخ إلى حذف الفقرات الخاصة بهما من نص هوميروس على رغم عدم استنكاره هو نفسه لهما، وهو حذف دافع عنه باوسانيوس بقوله: "إن إغفال ذكر مثل تلك الأفعال القاسية غير المشروعة هو إغفال مشروع". ومع ذلك فثمة حديث في الإلياذة لم يحذف عن اثنى عشر نبيلا من نبلاء طروادة قتلهم أخيل، وقدمهم قرابين الى الآلهة، انتقاما لمصرع خليله باتروكليس. فقد كانت القصة من الذيوع والانتشار بحيث لم يجرؤ النساخ على حذفها، وهم مع ذلك اختصروها فاقتصرت روايتها على بيت ونصف بيت بقيا في النص على استحياء. فإذا كان القليلون من المثقفين في زمننا هذا يعلمون قصة الحذف من ملحمتي هوميروس، فغالبيتهم بلا شك تعرف قصة الدكتور توماس بودلر 1754 - 1825، وأخته هنريتا 1754 - 1830 مع مسرحيات شكسبير 1564 - 1616، ذلك أنه في العام 1807 نشرت هنريتا وهي كاتبة ذائعة الصيت للمواعظ والقصائد والمقالات الدينية عشرين من تلك المسرحيات تحت عنوان "مسرحيات شكسبير للعائلات"، من دون أن تذكر اسمها على الغلاف، قامت فيها "بتطهير" المسرحيات من كل ما عساه أن يخدش الحياء ويمجه الحس الأخلاقي لدى قراء القرن التاسع عشر. وفي العام 1818 نهض أخوها توماس "بتطهير" المسرحيات السبع عشرة الباقية، ونُشرت المسرحيات كاملة في عشرة مجلدات، والتزم بودلر في تحريره لها بالمبدأ التالي: وهو أنه "إذا وردت أية كلمة أو عبارة من شأنها أن تثير انطباعا بالفُحش، فإنه من الواجب ألا تتناولها الألسنة باللفظ، وألا تكتب أو تُطبع، فإن طُبعت وجب طَمسها ومحوها". ونُشر كتاب "مسرحيات شكسبير للعائلات" وعلى غلافه العبارة التالية: "مسرحيات لم تضف كلمة واحدة إلى نصها الأصلي، بيد أنه حُذفت منها تلك الكلمات والتعابير التي لا يمكن التفوه بها عند تلاوتها جهراً في محيط الأسرة من دون خدش للحياء"، كذلك قام توماس بودلر بنشر تاريخ إدوارد غيبون الشهير "تدهور الامبراطورية الرومانية وسقوطها"، ذاكراً في مقدمته أنه "أعد الكتاب لاستخدام العائلات والشباب، معتمداً على النص الأصلي، مع الإقدام بعناية شديدة على اسقاط الفقرات كافة التي تنطوي على ميل إلى إلحاد، أو منافاة للأخلاق". كان توماس بودلر الذي صيغ من اسمه فِعْلُ تورده المعاجم الآن بمعنى "تناول النصوص بالحذف والتغيير لأغراض دينية أو أخلاقية أو تربوية"، شديد الإعجاب بشكسبير والحب له. غير أنه كان يعتقد أنه "ليس ثمة أي مبرر أو عذر مقبول لما أورده في مسرحياته من عبارات تنطوي على تجديف أو فحش. فلو أننا حذفنا تلك العبارات كافة لبدت شمس عبقرية شكسبير ساطعة من دون كَلَف". فأما التجديف فلم يشكل لدى بودلر صعوبة ضخمة، ولا هو أغفل من النص غير فقرات قليلة رآها تنطوي عليه، مستخدما كلمة "السماء" بدلا من "الله" في التعابير الحشوية. غير أنه يعترف بأنه جابه مشقة كبيرة إزاء تعابير الفحش الوافرة المنتشرة في المسرحيات كافة. وكانت وسيلته - كما سبق القول - هي الاستئصال لا استبدال التعابير المهذبة بالمحذوف، ومن دون أن يضيف من عنده غير حروف الجر أو العطف. غير أن القدر الذي حذفه من النص كان رهيبا: فمن حيث جولييت عن شوقها إلى روميو حذف بودلر خمسة عشر بيتاً من ثلاثين في حين أغفل معظم تعليقات مربيتها على ذلك الحديث. ومن أحد أحاديث الملك لير بعد أن فقد عقله حذف خمسة عشر بيتاً من اثنين وعشرين. أما مسرحية "هنري الرابع" بجزئيها فوجدها بودلر أقل مسرحيات شكسبير مناسبة لأن تُتْلَى في محيط الأسرة. ورغم أنه أقدم على حذف شخصية "دُول تيرشيت" حذفا كاملا، وإغفال عشرات وعشرات من الأبيات. فهو يعتذر للقارئ إذ أنه "رغم كثرة ما تجاهله من البذاءات والفحش، لم يتمكن من تنقية تلك المسرحية من الشوائب كافة التي تسيء إلى رفاهة الحس الأخلاقي". أما مسرحية "دقة بدقة"، فوجدها من الامتلاء بالفحش بحيث صدره بكلمة تحذير، وهو ما فعله أيضاً مع مسرحية "عطيل" التي "لا تصلح للأسف لأن تقرأ في محيط العائلة، ولذا أوصى بنقلها من رف الكتب في غرفة الجلوس إلى صوان مفتاحه مع رب الدار"! يقول أحمد أمين في سيرته الذاتية "حياتي": "كان لنا جدة - هي أم أمنا - طيبة القلب، شديدة التدين، تزورنا من حين لآخر، وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها. وكانت تعرف من القصص الشعبية الشيء الكثير الذي لا يفرغ. فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها حتى يغلبنا النوم. وأحياناً كان أخي الكبير يقرأ لنا في "ألف ليلة وليلة"، فإذا أتى إلى جمل ماجنة متهتكة تلعثم فيها وخجل واضطرب وحاول أن يتخطاها. وأحياناً يزل لسانه فيقرؤها، فيضحك بعض من حضر، وتخجل أمي وجدتي فيهرب أخي من هذا الموقف المربك، وتقف القراءة". فكتاب "ألف ليلة" - على رغم أنه ليس أكثر كتب التراث العربي احتواء على العبارات الجنسية الصريحة - هو أشهر ما امتدت إليه من كتب ذلك التراث أيدي التهذيب والتنقيح والحذف، بدءاً بالشيخ محمد قطة العدوي الذي كُلف إعداد الطبعة الثانية 1863 من طبعة بولاق الأولى 1835، ومروراً بطبعة المطبعة الأدبية في بيروت 1881 - 1883 التي "هذبت عبارات الكتاب"، وأحالها محررها خليل سركيس إلى كتاب مسيحي خال حتى من عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" التي تتصدر الأصل، وانتهاء بعشرات الطبعات العربية في القرن العشرين مما لم يكن من الممكن أن تتسبب جملة واحدة فيها في إثارة ارتباك شقيق أحمد أمين، أو خجل أمه وجدته! غير أن الجنس، على أي الأحوال - لم يكن الشاغل الأول لنُساخ كتب التراث العربي شأنه مع توماس بودلر وأخته وهما بصدد شكسبير. فقد كان العرب دائماً، حتى مطلع العصر الحديث، أكثر صراحة في الحديث عن العلاقات الجنسية من الأوروبيين، بحيث كنا نجد أنطوان غالان الفرنسي في أوائل القرن الثامن عشر، وإدوارد لين البريطاني في النصف الأول من القرن التاسع عشر، يغفلان التعابير الجنسية كافة من ترجمتيهما لألف ليلة وليلة. ولو أن الفن السينمائي كان معروفاًَ لدى العرب في العصور الوسطى لاحتوت أفلامهم من المشاهد الجنسية ما هو كفيل بإزعاج الأوروبيين حتى في يومنا هذا، ولاستخدموا حيالها مقص الرقيب الذي يفرط العرب اليوم في استخدامه حيال الأفلام الأجنبية. أما ما كانت أيدي النُّساخ العرب تمتد إليه بالحذف أو التغيير أو الاختصار فهو، بصفة رئيسية، ثلاثة أمور: الأول، الزندقة والإلحاد: ونضرب مثالا على ذلك كتب ابن الرَّوَنْدي "التاج"، و"التعديل والتجوير"، و"الزمرد"، و"الإمامة"، وغير ذلك من كتبه التي اندثر أثرها فلم تصل الى ايدينا، ولم يتبق منها غير حفنة من الجمل والفقرات أوردتها كتب الذين تولوا الرد عليه، كالخياط المعتزلي في "كتاب الانتصار والرد على ابن الروندي الملحد وما قصد به من الكذب على المسلمين والطعن عليهم". وقد وصف الخياط المعتزلي ابن الروندي هذا في مقدمته بأنه "ماجن سفيه، حنق على أهل الدين، شديد الغيظ على المسلمين، يحكي عنهم ما ليس من قولهم، ويرميهم بما ليس من مذهبهم، جرأة منه على الكذب والبُهتان، وتهاونا بركوب الإثم والعدوان. وقد ألف عدة كتب في تثبيت الإلحاد، وإبطال التوحيد، وجحد الرسالة، وشتم النبيين عليهم السلام والأئمة الهادين. وزعم أن العالم قديم لا صانع له ولا مدبر، وأن من أمرض عبيده وأسقمهم وأفقرهم وابتلاهم فليس برحيم بهم، وأنه ليس بحكيم من أمر بطاعته مَن يعلم أنه لا يطيعه، وأنه من خلد من كفر به وعصاه في النار طول الأبد غير حكيم ولا عالم بمقادير العقاب على الذنوب، وطعن في آيات الانبياء وزعم أنها مخاريق، وأن الذين جاءوا بها سحرة، وأن بالقرآن تناقضا وخطأ وكلاما يستحيل..." إلى آخره. والثاني: ما كتب من ثناء على خلفاء أو ولاة أو سلاطين أو دول أو مفكرين أو أعلام صوفية ممن استقر الرأي بعد زمنهم على شجبهم، أو إنكار حقهم في تولي مقاليد الحكم، أو الطعن في دينهم، أو استنكار سياساتهم، أو استفظاع أقوال لهم، كخلفاء بني أمية عدا عمر بن عبدالعزيز في زمن العباسيين، والخليفة الأمين في عهد المأمون، وزياد بن أبيه ويزيد بن معاوية في معظم العصور، والحلاج بعد صلبه والفاطميين في دولة بني أيوب، وصلاح الدين الأيوبي في أقطار الأتابكة. فإن شئنا أقرب مثال إلى الذهن ذكرنا الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يعتبره المؤرخون من غير المسلمين من بين أعظم عشرة إداريين في تاريخ البشرية، ظهر في عصر شاعت فيه الفوضى السياسية وتلاحقت الفتن، بحيث لم يكن بوسع أي حاكم أو والٍ حازم يتصدى لعلاج تلك الأوضاع إلا أن يمزج حزمه بشيء من القسوة، وسياسته بقدر من العنف لا هوادة فيه، حتى يتم استئصال شأفة العصاة الثائرين المهددين لوحدة الدولة وسلامتها وأمنها. وكان الى جانب هذا نقي السيرة، لا تأخذه في الحق لومة لائم، فما أخمد الفتن حتى كان همه الأول أن يضمد الجراح التي أصابت الأقطار ورخاءها من جراء حروب دامت عشرين عاما، فإذا هو وقد بات شغله الشاغل بناء المدن، والنهوض بالزراعة، وحفر القنوات الجديدة، وتطهير القنوات القديمة، وتعديل نظام الضرائب والنقد والمقاييس، واستحداث النظم الإدارية الكفيلة بإرساء دعائم العدل والاستقرار. ومع هذا وغيره تبنى المؤرخون والمؤلفون العرب منه موقفا ساذجا مفعما بالاستهجان والكراهية، ورسموا له صورة حاكم ظالم سفاك للدماء، ثقيل الوطأة على رعاياه، لمجرد أن الكتب التاريخية الإسلامية كافة التي وصلت إلينا إنما كُتبت بعد انهيار الدولة الأموية، وفي ظل أعدائها، وأن روايات أهل الشام المناصرين للأمويين والمعجبين بالحجاج أغفل معظمها من تلك الكتب، بحيث كانت الكلمة الأخيرة والحكم النهائي فيها لاعدائهم الذين طمسوا معالم الصورة الحقيقية عن عمد وسوء نية، مضخمين لنقائص صولتهم ورجالها، ومقللين من شأن إنجازاتها، بحيث أضحى من الصعب الوصول الى حقيقة الحجاج إلا من خلال النزر القليل الذي بقي لنا من الروايات الشامية، وكتب التاريخ النصرانية، خصوصاً كتاب الصلة لتاريخ ايزيدور، التي احتفظت بالمأثور من تلك الروايات، وروايات قليلة في بعض كتب المؤرخين الأكثر إنصافاً، كتاريخ الإسلام للذهبي الذي وصف الحجاج بأنه "كان أرحم الناس بأهل البلاد الوادعين"، وغيره ممن اعترف بأنه كثيراً ما كان الإقرار بالذنب في حضرته، أو حتى الرد البليغ، أو الشجاعة، أو الملحة الطريفة، كافياً لتهدئة سورة غضبه، ولعفوه عن الجناة المارقين. والثالث: التصوير الواقعي الموضوعي لأبطال الإسلام وللشخصيات الحبيبة القريبة الى قلوب أهله، مما قد لا يستسيغه المعجبون في كل زمان، أو أذواق أهل عصور لاحقة تغيرت فيها القيم والمفاهيم. فنحن نعلم مثلا أن السيرة النبوية التي كتبها ابن اسحاق وهي أقدم السير الجامعة واصحها ضاعت، ولم يبق منها غير المختصر الذي أعده لها عبد الملك بن هشام، والذي فضله الناس في ما بعد على أصل ابن اسحاق فأهملوه، غير أننا نجد ابن هشام في مقدمة مختصره هذا يقول إنه "تارك بعض ما يذكره ابن اسحاق مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يُقرّ لنا البكائي بروايته". كذلك صرنا نجد كُتّاب السيرة النبوية في عصرنا هذا - وعلى رأسهم محمد حسين هيكل - يغفلون من دون أي مبرر معقول غير تغير الأذواق في زمنهم، ما أوردته كتب ككتاب "الطبقات الكبرى" لابن سعد من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: أنه "كان يعمل عمل البيت وأكثر ما يعمل الخياطة" الطبقات - طبعة دار صادر، بيروت 1960، المجلد الأول ص 366، وأنه كان بعد الأكل "يلعق أصابعه الثلاث التي يأكل بها قبل أن يمسحها ص 381. و"إذا أتى الغائط لم يرفع ثيابه حتى يدنو من المكان الذي يريد" ص 384، "فإذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد" ص 411، وأنه بعد أن امتلأ جسمه في السنوات الأخيرة من حياته صار يقول لأصحابه: "إني قد بدنت فلا تُبادروني بالقيام في الصلاة والركوع والسجود" ص 420، وأنه كان يضفر شعر رأسه أربع ضفائر ص 429، ويخضبه بالحناء فإذا هو أحمر اللون ص 437، أما لحيته فكان يصفرها ص 438، وكان ينهى عن خضاب السواد ص 441، وأنه كانت له مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين ص 484. أما عن الواقدي صاحب كتاب "المغازي" فنحن نعلم أن وصف البعض له بأنه كان يتشيع قد يرجع إلى ما أورده أثناء حديثه عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان من عبارات رأى السنيون أنها لا تضعهما في مكانتهما المرموقة. ففي إحدى مخطوطات كتابه قائمة باسماء من فرّ عن النبي ص يوم أحد تبدأ بهذه الكلمات: "وكان ممن ولى فلان، والحارث بن حاطب، وسواد بن غزيه، وخارجة بن عامر"، بينما نجد النص في "شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد: "عمر وعثمان" بدلاً من "فلان"، وفي "أنساب الأشراف" للبلاذري: "عثمان" من دون ذكر لعمر. ومن هذا يبدو أن النص في تلك المخطوطة كان يذكر عثمان وعمر، أو عمر وحده، أو عثمان وحده، ممن ولوا الأدبار يوم أحد، لكن النساخ لم يقبلوا هذا في حق عمر أو عثمان، فأبدلوا اسميهما أو اسم أحدهما بقولهم "فلان". والغالب أن نص الواقدي الأصلي هو أساس الاعتقاد بأنه كان شيعياً. كان المؤرخون المسلمون الأوائل يلتزمون إلى حد كبير بالمعايير العلمية الدقيقة، ومنهج البحث التاريخي وسبله. غير أنه بمضي القرون أفلح الفقهاء في فرض رقابتهم ووجهة نظرهم في شأن أحداث الماضي وشخصياته، فأضحى الهدف من الكتابات التاريخية والسير والتراجم هو غرس القيم الدينية والمبادئ الأخلاقية الرفيعة، والمثل العليا، لا تسجيل الحقائق بأكبر قدر مستطاع من الدقة بعد تمحيص ما تجمع منها لدى المؤرخ. ومن هنا بدأت تتكون نظرة المسلمين الرومانسية إلى ماضيهم، وامتدت أيدي نساخ الكتب القديمة بالحذف والطمس والتغيير، بل وبالإضافة، ووجد القراء في الصور المثالية ما يرضي حاستهم الجمالية إرضاء لا توفره فوضى الواقعية. كانوا في حاجة ماسة إلى أن يعثروا في تاريخهم على أيام تليدة مجيدة سبقت التدهور الذي يعانون منه، وعلى شخصيات تاريخية تحيطها هالة ساطعة من البطولة والقدسية والصلاح سبقت الخلف الطالح الذي يعايشهم. فأصبح المؤرخون، وأصبح كُتاب التراجم، وأصبح النساخ، واصبح القراء، كمن يدخل مغارة مظلمة وفي يده بطارية جيب، يسلطها على هذا الركن من المغارة أو ذاك، وهذه الحيطان أو تلك، متجاهلاً ما عداها عامداً متعمدا، ظانا أنه بوصفه لبنية المغارة بعد خروجه قد اسقط الى الأبد نواحيها التي أغفلها واختار ألا يسلط الضوء عليها. غير أن هذه النواحي، للأسف، تظل قائمة رغما عنه، وعدم إنارتها لا يعني إزالتها. * كاتب مصري. من المحرر: سبق ان نشرنا في 4 آذار مارس الجاري مقالة بالعنوان نفسه اعلاه، لكنها تضمنت مطلع هذه فقط، ثم القسم الأكبر من مقالة اخرى لحسين أحمد امين عنوانها "عن بعض أخطار التقدم التكنولوجي في القرن الحادي والعشرين"، سقط مطلعها واستبدل. في ما يلي نثبت المطلع الساقط من مقالة "عن بعض اخطار التقدم التكنولوجي...". ويستطيع القارئ العودة الى عدد 4 آذار الجاري ليقرأها هذه المرة كاملة، وإن تحت عنوان آخر هو "عن تأثير تغير الأذواق..." وصولاً الى "وقد علّمنا التاريخ ان القدرات المكتسبة". وهنا المطلع الذي سقط: ذهب دارون - كما ذهب غيره من قبله - الى أن أشكال الحياة كافة تطورت عبر سلسلة طويلة من الصور المتعاقبة. ويعني هذا أن تطور الحياة مستمر وسيستمر، وأن ما نحسبه ثباتاً في صورة أي كائن حي ما هو إلا وهم ناجم عن اختلاف في المقاييس الزمنية. فإن كان الإنسان تطور من نوع من الكائنات سابق عليه، فلنا أن نتوقع تطوره هو نفسه الى نوع لاحق له. وها هم علماء البيولوجيا يذهبون الىوم الى أن بعض التغيرات سيطرأ على الطبيعة البشرية في زمن ليس بالبعيد. ذلك أن توصل الانسان الى تحقيق انفطار الذرة قد يؤثر في جيناته عن غير قصد منه. غير أن مثل هذا التأثير قد يُقدم الانسان عليه عامداً متعمداً فيُحدث بذلك نقلة ضخمة في عملية التطور، وتكون هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها كائن حي من تطوير نوع جديد من الكائنات الحية عن قصد، وعن تخطيط واعٍ. مثل هذه القدرة على توجيه تطورنا والتحكم فيه سيكون له من الآثار على مستقبل البشرية ما يفوق آثار أي من قدراتنا الراهنة...".