قد يكون المنطلق الطبيعي لهذا المقال محاولة الإجابة عن هذا السؤال: ما مدى الانصاف في عملية إسقاط عمل أدبي أو أعمال أدبية ترجع الى عصر ماض على وقائع معينة في العصر الحاضر؟ المقصود بالإنصاف هنا المدى الذي يمكن أن نخرج فيه ذلك العمل من سياقه التاريخي ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وادخاله في سياق آخر من دون أن نصيبه بعطب نقدي قرائي يؤدي الى سوء الفهم. تبدو هذه المقارنة متعارضة مع مفهوم التاريخانية الجديدة التي تسعى الى قراءة النص الأدبي في إطار التاريخي والثقافي، حيث تؤثر الايديولوجيا وصراع القوى الاجتماعية في تشكيل النص. لكني أعود وأشير الى أحد محاور هذا الاتجاه النقدي الذي يقول ان القارئ كالمؤلف معرض للمؤثرات الايديولوجية في عصره، ومن هنا لا إمكان لتفسير أو تقويم موضوعية للنص الأدبي، بل ان ما يحدث هو ان القارئ اما أن يطبع النص في حال اتفاق ايديولوجيته كقارئ مع ايديولوجية الكاتب فيمنح خصائص النص الموضوعية والفنية صفة العالمية والديمومة، أو ان يستعيد النص في حال اختلافه مع الكاتب بإسقاط فرضياته على ذلك النص. قلت إن مقاربتي "تبدو" متعارضة مع التاريخانية الجديدة لكنها في الواقع لا تتبنى فرضياتها ولا تنطلق من فرضيات مناقضة، ذلك أن الإسقاط هنا إسقاط غير ايديولوجي وإنما هو إسقاط فني يقترب من المدى الأسطوري، ينطلق من ديمومة الصراع بين الخير والشر ممثلاً في الصراع بين الانسان والشيطان. العمل الأدبي الذي أريد اسقاطه على واقعنا السياسي في صراعنا مع الدولة اليهودية هو ملحمة "الفردوس المفقود" وهي ملحمة الشاعر الانكليزي الشهير جون ملتون 1608-1674 الذي كان أشهر شعراء وكتّاب حزب المتطهرين الذي أعدم الملك تشارل الأول وألغى الملكية وأعلن انكلترا جمهورية. وأريد أن أركز على شخصية ملكوم كما يسميه محمد عناني في ترجمته، أو الملك وهي تسمية قريبة في نطقها من الكلمة الانكليزية Moloch التي نجدها في شعر ملتون. ما أريد فعله هنا هو اسقاط شخصية ملكوم على شخصية شارون رئيس وزراء دولة اليهود وسفاح الأطفال الفلسطينيين، ولكن، قبل أن أخوض في الفردوس المفقود أود أن أعطي فكرة مبسطة عن هذه الشخصية كما تظهر عند ملتون. ملكوم هذا شخصية شيطانية. فهو من كبار أتباع ابليس الذين طردوا من الجنة بعد اقترافهم أكبر الذنوب، وهو الكبر الذي أدى بهم الى الجرأة على الخالق العظيم واعتقادهم بمقدورهم على مضاهاة قدرته. وبعد طردهم ونزولهم الى الأرض انتشروا فيها يعيثون فساداً ويغوون بني البشر على تعظيمهم بل عبادتهم، ونجحوا في ذلك حيث بنيت لهم المعابد ونحتت التماثيل، فترك الناس دين الفطرة وعكفوا على هذه الأوثان يعبدونها ويضحون لها بأغلى ما عندهم الى أن ترضى كما يتصورون. كان لهذا الشيطان وثن يعبد في فلسطين وتضحي الأمهات بأطفالهن للتقرب اليه، وحتى لا يسمعن صراخ أطفالهن حين يقدمون قرابين له كانت الطبول تدق بعنف أثناء ذبح الأطفال ليغطي صوتها أصوات الأطفال حتى لا تجفل أمهاتهم فيرجعن بأطفالهن عن إتمام تلك الشعيرة الشيطانية. يظهر ملكوم هذا عند ملتون أول ما يظهر في انشودته عن ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وهي من أوائل شعره. تصور الأنشودة الفزع والاضطراب الذي يصيب تلك الآلهة الوثنية يوم ميلاد المسيح فترتعد ولا تقوى على تحمل النبأ فتهرب من معابدها، تاركة الكهنة تناجي جدراناً خاوية وتبتهل في معابد ليس من حياة فيها سوى عزف الرياح وهدير الرعود. ملكوم هذا الإله الذي تميز بالغلظة والقتامة والكآبة لا يستطيع هو أيضاً تحمل هذا الحدث فيهرب مع الهاربين. تقول الأنشودة في محاولة مني لترجمتها: لقد فر ملكوم الغاضب النكد / تاركاً صنمه المحترق مجللاً بالسواد / تحيط به الظلال المخفية / وعباده من دون جدوى يدقون / الصنوج داعين الملك الرهيب للعودة / وهم يطوفون في رقصة كئيبة/ حول الأتون المشتعل وهي إشارة واضحة الى جبنه وخوره في معركة الحق والقوة، على رغم ادعائه المقدرة والشدة. هذا النص يتحدث عن ملكوم لكننا لا نراه ولا نسمعه، وهو بمثابة تقدمة سريعة عن طبيعة هذا الشيطان - الإله المزيف، متحركاً في زمرة آلهة أخرى مختلفين عنه في الطبيعة والمزاج. حتى إذا رأيناه وسمعناه يخطب هادراً متوعداً، تتكامل في مخيلتنا أبعاد شخصيته. يحدث هذا عندما يقف ملكوم موقف الخطيب الديماغوجي الذي يناشد غرائز الجماهير وعواطفها الرخيصة في أوائل الكتاب الثاني من ملحمة ملتون الأسطر 51 - 105: ففي أول هذا الكتاب يطلب إبليس من أعوانه المقربين أن يشيروا عليه بما يرون انه أفضل السبل لاستعادة فردوسهم المفقود، وذلك في قاعة العرش الكبرى التي بنيت له في قعر الجحيم والتي يسميها ملتون بانديمو نيام. وكان ملكوم هذا أول المتحدثين إذ يندفع بغضب الى المنصة. لنستمع كيف يقدمه ملتون بعد أن انتهى إبليس من حديثه: ومن بعده هب ملكوم ذلك الملك ذو الصولجان فانتصب قائماً. كان أعتى وأشرس جني قاتل في الجنة، والآن زاده اليأس شراسة. كان يثق في مساواته للسمرمدي وتكافؤهما في القوة، وكان يؤثر العدم على أن يكون أقل قوة منه. أما وقد تلاشت تلك الثقة فقد تلاشى كل خوف لديه ولم يعد يعمل حساباً لله أو للجحيم أو لما هو أدهى 43-49. وحيث ان إبليس خسر أعوانه بين طريقين، إما الخديعة وإما الحرب، فإن ملكوم، ومن دون مقدمات، يشير بالحرب، فهذا ما يفهمه ويقدره: رأيي هو الحرب السافرة، / أما المكائد فلست بها خبيراً ولا بها فخوراً. ألا / فليديرها من يحتاجها، أو حين يحتاجها / أما الآن فلا 51-53. لا نستغرب هذا الموقف من ملكوم بعد أن قدمه لنا ملتون كأعتى ما تكون الشراسة النابعة من اليأس. والملاحظ أن ملكوم لا يتجه بخطابه الى منصة الرئيس أو الى زملائه، كما هو المألوف في المداولات البرلمانية، وكما يستخدمها إبليس نفسه في خطابه لأعوانه. هذه كلها شكليات لا قيمة لها عنده، وانما يعطي رأيه القاطع في الجملة الأولى: "رأيي هو الحرب السافرة". في هذا السياق، تقول ناقدة اميركية متخصصة في شعر ملتون، واصفة ما يمكن أن تكون عليه هيئته وهو يخطب: "لو كانت هناك منضدة موضوعة أمامه في قاعة البرلمان تلك فأنا على يقين من أنه كان يدق عليها بعنف بقبضة يده طوال القاء خطابه". الحل بالنسبة اليه بسيط جداً: فإما الانتصار في الصراع أو العدم، وهو في رأيه مصير أفضل بكثير من البقاء في الجحيم مكللاً بعار الهزيمة والعذاب. إنه يذكر زملاءه بأن الصعود مرة أخرى الى الفردوس أمر طبيعي بالنسبة الى الملائكة فهم في رأي ملتون، كانوا ملائكة قبل تمردهم على الذات الإلهية: ولربما استطعنا أن نعود الى طبيعة حركتنا / الصاعدة فنبلغ / موطننا الأول: إن الهبوط والسقوط / ضد طبيعتنا...75-77 أعتقد انه من السهل الآن اسقاط شخصية ملكوم على السفاح شارون: فهل من قبيل المصادفة وجود هذا التماثل شبه الكلي بين ما يفعله شارون للأطفال الفلسطينيين من اغتيال وقتل وتنكيل متعمد وما كان يضحى به من أطفال لذلك الصنم الشيطاني، وفي أرض فلسطين بالذات؟ إن الطبول التي كانت تدق أثناء ذبح الأطفال لصنم ملكوم هي ما تقوم به الدعاية الاسرائيلية اليوم من تبرير لتلك المذابح يكاد يرقى في اقتناعها به الى الشعيرة المقدسة: فها نحن نسمع ونرى من يدعي، من الاسرائيليين وغيرهم من حلفائهم المخدوعين، ان الأمهات الفلسطينيات يقدمن اطفالهن قرباناً لهذه الانتفاضة أو بالأحرى لآلة الحرب الاسرائيلية. لا أحد من العرب ومن غير العرب، بطبيعة الحال، يستغرب هذا العمل غير الانساني من شارون، بطل مذابح صبرا وشاتيلا، وهي ليست بعيدة جغرافياً من فلسطين التاريخية. وهل من قبيل المصادفة أن ترتكب هذه المذابح في أرض فلسطين، أرض المسيح عليه السلام ورسول السلام؟ إذا كان شارون وزمرته يعتقدون، كما يدعون، ان مرجعيتهم في ادعاءاتهم دينية، فأظن انهم بلا شك يخافون من خروج المخلص. ولذلك نراهم يراهنون بحركة التفافية على تلك المرجعية في جانب الثمن التاريخي الذي ينبغي عليهم دفعه، وكأن الحقائق على الأرض يمكن أن تغير الحقائق المطلقة. وإلا كيف نفسر اعتقادهم بأنهم سيرتقون قريباً الى بناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، الفردوس الأرضي، الذي طردوا من حوله أكثر من مرة؟ أما شارون الخطيب الديماغوجي، الذي لا يفهم سوى لغة الحرب، فأعتقد انه الصورة المعاصرة لشخصية ملكوم في ملحمة ملتون وفي ذلك المؤتمر الجهنمي المعقود في قاعة عرس ابليس التي من السهل تشبيهها بالكنيست، انه لا يفهم لغة بيريز مثلاً، الذي يمكن تشبيهه بشيطان آخر من كبار زمرة ابليس، وهو بلعال، الذي يعطيك من طرف اللسان حلاوة. وهكذا يقدمه لنا ملتون: لم تفقد الجنة أجمل منه. على محياه / رباطة جأش وسيماء عزة وجليل فاعل، / لكنه زائف أجوف، على رغم ان لسانه ذلق / يقطر منا، ويجعل أفسد الحجج تبدو / عين الحجى والرشاد، حتى تختلط وتنهار / أحكم الآراء... 110 - 115. لا يفهم شارون مثل هذه اللغة ولا يقدرها، وتكفي نظرة واحدة على حركاته وهو يخطب في ذلك المحفل الشيطاني، كما تصوره عدسة التلفزيون، لنرى كيف يدق بقبضة يده وهو يزمجر ويتوعد. وهذه نبوءة لم تكن تتوقع تحقيقها في عصرنا الحاضر تلك الناقدة الاميركية التي رسمت هذه الصورة. ولرُبَّ قائل ان هذا الاسقاط مبالغ فيه، فأجيب بأن رأي ملتون ومعاصريه في اليهود عموماً لم يكن أفضل من رأينا نحن فيهم، ويكفي ان أشير الى شخصيتي شايلوك في مسرحية شكسبير المسماة تاجر البندقية، براباس في مسرحية يهودي مالطة لمؤلفها مارلو، المعاصر لشكسبير، وهما شخصيتان تصمان اليهود بصفات مثل الدناوة والحقد والاستغلال وكره الانسانية، وبالذات كره اتباع الأديان الأخرى مثل الاسلام والمسيحية، يكفي لندرك كيف كان ينظر المسيحيون الأوروبيون الى اليهود، لا سيما أتباع المذاهب الدينية المتطرفة مثل مذهب المتطهرين الذي، كما ذكرت في البداية، كان ملتون ينتمي اليه. أقول هنا وأنا أدرك أن كثيراً من النقاد اليهود المعاصرين حاولوا ويحاولون جاهدين تأويل شخصية شايلوك تأويلاً يخرجها من سياقها حيث تخف، بل ربما تمحي حملة شكسبير عليهم. ومن المعروف ان اليهود لم يحصلوا، في انكلترا مثلاً، على حقوق المواطنة الكاملة إلا في القرن التاسع عشر، أي بعد نحو مئة عام من زمن ملتون، وثلاثمئة عام من زمن شكسبير ومعاصريه، وكلنا يذكر كيف صور تشارلز ديكنز، الروائي الانكليزي الذي عاش في منتصف القرن التاسع عشر، اليهودي في شخصية فيغن، ذلك المرابي الذي يعلم صبية المسيحيين السرقة. واذا عرفنا أيضاً ان انكلترا، ومنذ عهد الملك هنري الثامن أوائل القرن السادس عشر الذي ثار على البابا وحرر بلاده من سلطة الكنيسة الكاثوليكية، وأصبحت انكلترا انغليكانية، منذ ذلك العهد، وحتى القرن التاسع عشر أيضاً، والانكليز لا يثقون في مواطنيهم الكاثوليك، بل ان بعضهم يصورون بأنهم ألد أعداء انكلترا دينياً وثقافياً وسياسياً. لذا يرى معظم نقاد ملتون ان تصويره قصر إبليس في قعر الجحيم انما هو تصوير للفاتيكان. إذا عرفنا هذا، لا نستغرب أن ينظر ملتون الى يهودي متطرف مثل شارون كما ننظر اليه نحن، ذلك اليهودي الذي يمثل صالب المسيح، كما كان يعتقد المسيحيون طوال تاريخهم، الى ان برأتهم الكنيسة الكاثوليكية في زماننا هذا بضغوط سياسية معروفة. وأخيراً، هل من المصادفة ايضاً ان شارون، في الأساطير اليونانية والرومانية هو "ابن الليل والظلمات وملاح العالم السفلي... وهو عجوز رث الهيئة قاسي الملامح بخيل جشع عنيد، ولذا توضع بعض النقود في أفواه الموتى أتاوة له. أما الأحياء والأموات الذين دفنوا من غير شعائر جنائزية فيستحيل نقلهم في زورقه إلا لقاء رشوة كبيرة أو إرهاب شديد كما فعل معه هرقل...". وكما هو معروف لدى نقاد ملتون ان الأدب الكلاسيكي اليوناني والروماني هو العمود الثاني، بعد الكتاب المقدس، الذي تقوم عليه ملحمة ملتون. وقد أسقط ملتون نفسه عدداً من الشخصيات في الكتاب المقدس وفي الأدب الكلاسيكي على شخصيات معاصرة له، فما أفعله هنا ليس بدعاً على أدب ملتون وأدب معاصريه. * أكاديمي سعودي.