تتصف روايات ج. م . كويتزي ب"المهارة في التركيب والتحليل... وهو لا يرحم في انتقاده للنزعة العقلانية القاسية، والأخلاق المزيفة للحضارة الغربية"، هذا الكلام الذي جاء في حيثيات قرار منحه نوبل الآداب 2003 ينطبق إلى حد بعيد على روايته "في انتظار البرابرة" المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت ط 2 - 2004 التي استمد عنوانها من قصيدة شهيرة بهذا العنوان لكفافي، وهذه الرواية التي نشرها العام 1980 وضعت اسمه على قائمة أبرز الروائيين في بلاده جنوب أفريقيا، وفي العالم. في بلدة مجهولة نائية على تخوم حدود الإمبراطورية الشاسعة، يعيش الراوي منذ ثلاثين عاماً قاضياً مدنياً، حكيماً، عادلاً يتقاسم مع أهلها الماء والهواء، يجمع الضرائب، ويدير الأراضي المشاع، ويتابع بانتظام إمدادات الحامية، ويشرف على الموظفين الأدنى رتبة، ويراقب التجار، ويترأس المحكمة الصغرى مرتين في الأسبوع. هوايته "جمع الآثار، ورسم الخرائط"، وحلمه المتكرر: طفلة ذات قبعة ملونة تبني قصراً من ثلج، "وما عدا ذلك أراقب الشمس في شروقها وغروبها". يعيش مع أهل البلدة في هدوء تام، فهو "لا يطلب أكثر من حياة هادئة في زمن هادئ"، لا يعكر صفو هذه الألفة إلا مجيء العقيد جول من المكتب الثالث أهم فصائل الحرس الوطني في العاصمة بحثاً عن الأعداء الوهميين والقضاء عليهم بغية تكريس هيبة الإمبراطورية، ليجبر القاضي ومعه أهل البلدة على الانتظار، انتظار الشر الذي يتربص بهم من قبل البرابرة. تعم الهستيريا أو فوبيا الخوف من البرابرة، يحاول القاضي العادل، وبأساليب ترقى إلى المنطق الفلسفي، إقناع العقيد ومن أرسله، بعدم وجود أي خطر، فهو خبر المكان طويلاً ويعلم ان هذه المزاعم إن هي إلا ذرائع واهية غير دقيقة، يقول له: "أنا وأنت غرباء" كدلالة على اغتصابهم للأرض التي يزمعون تطهيرها من البرابرة السكان الأصليين الذين لا يليق بإمبراطورية النور التهاون معهم، فهم يتصفون "بخمول ذهني، قذارة تامة، تسامح تجاه المرض والموت"، فكيف سيسمح لهم بالعيش في إمبراطورية تسعى إلى نقاء الحياة، ولو تطلب ذلك تسلق أهرام من الجثث. منذ البدء يتكشف الصراع الذي تنقله الرواية، صراع بين أناس مسالمين يعيشون في مهن بسيطة كالزراعة والصيد ويناصرهم الراوي، وبين العقيد جول الذي يمثل الرأي الرسمي للإمبراطورية. تفتح أحداث الرواية أبواب البراءة والهدوء أمام الرعب المقبل من العاصمة. انه "أوان ازدهار الوردة السوداء للحضارة"، فهذه الواحة الهادئة التي تحتفظ بلقى أثرية تخلد ثقافة ولغة السكان الأصليين، والتي يدأب القاضي على جمعها والعناية بها تتعرض لخطر العقيد جول وجنوده الذين يغيّرون إيقاع البلدة، ويروجون لخطر مقبل، محتفظين بسيوفهم لامعة، في انتظار البرابرة "الكسالى، الفاسدين، القذرين" بحسب الاعتقاد الذي يلائم مجد الإمبراطورية. تبدأ الحملات التأديبية الشبيهة ب"الضربات الوقائية" - بلغة الزمن الراهن - لمنع تسلل البرابرة الذين يقيمون بصورة موقتة، في كل عام، مخيماتهم خارج البلدة ويقايضون الصوف، واللباد، والجلود ببضائع قطنية أو شاي أو سكر أو فاصولياء أو طحين. الحملات تجلب المعتقلين إلى البلدة من وسط الصحراء خلف الحدود. هؤلاء هم البرابرة الذين يعذبون ويهانون من دون أي ذنب، تنتزع الاعترافات منهم بالضرب المبرح. "التقاط نغمة الحقيقة في الصوت لا يتم إلا بالتعذيب... فالألم حقيقة وكل ما سواه يخضع للشك". أناس بسطاء يحلمون، كما كان الحال دوماً، بمكان آمن ظليل على ضفة البحيرة، وبوفرة من المراعي. ليس في وجوههم، كما يلمح الراوي، أي ملمح للحقد أو الضغينة، لا ظهير لهم سوى سحنات وجوههم الغارقة في تراب هذي الأرض كدليل على حقهم في التشبث بها، والقاضي الذي يفترض فيه انه يمثل السلطة الرسمية لكنه يتمرد ويحاول الدفاع وحيداً عن القيم التي يؤمن بها. يستضيف في محل إقامته إحدى الفتيات من البرابرة ذات عينين بلون الكهرمان، تعرضت لتعذيب وحشي. ندوب على جسمها، وكسور في عظامها، يهتم بها القاضي ويرعاها، ويعيدها إلى قومها البرابرة، الأمر الذي تعتبره السلطة الرسمية خرقاً للقوانين فهو ذهب إلى حيث البرابرة واتصل بهم وتفاوض معهم. أي خيانة ارتكبها هذا الرجل؟ يتعرض للاعتقال والتحقيق ويلقى مصير المعتقلين الذين دافع عنهم، يصبح مشرداً متسولاً في بلدة غادرها معظم أهلها نتيجة الدعايات التي راح يروجها العقيد جول وجنوده، "وشيئاً فشيئاً أفرغت الأعمال العدوانية المدينة من قواها الحية. مدينة نهبها الجنود، قاحلة، وتنتظر بهلع هجوم البرابرة الأخير". ليس في الرواية التي ترجمتها ابتسام عبدالله، ما يشير إلى مكان محدد أو زمان معين، لا تسميات ولا تواريخ، لكن الاستنتاج المنطقي يقود القارئ إلى ان ما يعرضه كويتزي هو جانب من جوانب تاريخ القارة السمراء وتحديداً جنوب أفريقيا بلد الروائي التي عانت من نظام الفصل العنصري "الابارتيد" لسنوات طويلة، هي استحضار لمرحلة الاستعمار الكولونيالي بكل أطماعه، وشروره، ونكرانه للإرث المتأصل في ذاكرة الشعوب المستعمرة. صراع بين ثقافتين هي الثقافة الحضرية المتمدنة التي يحملها ممثلو الإمبراطورية الرسميين، وبين ثقافة السكان الأصليين البذيئة، والمتخلفة يعيد إلى الأذهان ما جرى للهنود الحمر إبان اكتشاف الأوروبيين لأميركا وغزوها، وما جرى في مواقع أخرى في العالم على امتداد التاريخ "غزاة يحتكرون الحقيقة" ويتطلب ذلك تسفيه قيم الآخر وثقافته، لكن كويتزي لا يقف هنا على الحياد بل هو يظهر بصورة واضحة ان الآية معكوسة، وان من يمثل القيم الأصيلة هم السكان الاصليون، فيما الغزاة هم من يمثلون قوى الشر ويحاولون القضاء على تراث المكان وأصالته بدعاوى الديموقراطية والتحديث. على رغم تلك اللغة البارعة التي يستخدمها كويتزي، ومحاولاته الإيغال عميقاً في النفس البشرية، وهواجسها، ومحنها، وعلى رغم حواراته "المونولوغ، والديالوغ" الذكية، التي تفصح عن مخاوف، وآمال ومعتقدات شخصياته الروائية مغفلة الاسم، لكن المواربة لا تظهر أبداً في إيضاح الفارق بين "الحق، والباطل" فهو في هذه الثنائية لا يبدو راغباً في التفلسف. إنه يظهر الحق إلى جانب الباطل مدافعاً عن الحق إذ يضع بطله أمام هذا الامتحان، ويلقنه هذا الدرس، وما عدا ذلك يترك له مساحات واسعة من الأحلام، والرغبات، والأفكار الناضجة. ينجح كويتزي إلى حد بعيد في توريط القارئ للدفاع عن الأفكار التي يسعى هو للدفاع عنها، من دون أن يلجأ إلى استمالة القارئ من طريق تزويده بمعطيات واقعية أو عناصر تاريخية أو جغرافية، فهو في هذا التجريد لا يطمح إلى الفوز بقارئ معين "أفريقي، أو فلسطيني، أو أميركي..." أو أي شعب - قارئ آخر تتشابه ظروفه مع ما يسرده الراوي. انه يحلق خارج فضاء المكان والزمان لكنه يحط في النهاية على الموضع الذي يريده هو، والملائم لكل القراء الذين يطلقون صيحة التقدير: "تأخرت كثيراً يا طائر الشطآن" عنوان رواية آلان باتون التي تتحدث عن العنصرية في جنوب أفريقيا، على نحو مباشر. لغته خافتة لكنها غنية، وهي بعيدة عن الخطابة والتقرير، ولا تثقلها الأيديولوجيا، لكنه يعرف كيف يسبك وينسج خيوط العمل الذي لا يمكن ان يضل الطريق إلى القارئ عبر تقنية "المونولوغ السردي"، التي يصنعها صوت واحد مستمر من دون انقطاع هو صوت البطل - السارد الذي يقدم الحكاية على نحو معقّد، ومتشابك، ومكثف. يهتم بالتفاصيل، ويضفي على ما تقع عليه عيناه شيئاً من حكمته ورؤيته الذاتية، لا يضع شيئاً نافلاً أو بالأحرى لا يقول شيئاً بصورة مبسطة ومبتذلة. فكويتزي، الأستاذ الجامعي الذي يدرّس علوم الأسلوب والنقد ما بعد البنيوي، يحسن إسناد خطاب خاصّ رفيع المستوى يضفي على شخصية البطل ميزة لا يمكن إغفالها: شخص منهمك في بناء عمارته الروائية الشاهقة، على رغم ضجيج العالم من حوله. عن تلك النزعات الاستعمارية التي تحاول تأديب السكان الأصليين، وتسعى إلى التوسع، والتملك، تتحدث الرواية، ومهمة القاضي الراوي هو توضيح الحقيقة. الدفاع عن الأصل، والجذور في مقابل الطارئ والوافد الذي يسعى إلى قتل البراءة في رحاب الصحراء. هي إعادة إنتاج لتلك الصورة الخاطئة عن أناس يهددون أمن البلاد فتهب الإمبراطورية ورجالاتها للدفاع عن هيبتها لكي تجمّل الصورة التي تبنيها بذاتها عن ذاتها، ولكي تفلح في ترحيل الشرّ إلى جهات أخرى خارج فردوس الإمبراطورية!