وكأن الرجال قد خلت منهم الساحة فجاء دور النساء... وليس الحديث عن دور النساء هنا حديثاً يتسم بنظرة دونية أو سلبية، فقد قدمت المرأة الفلسطينية الكثير من التضحيات من اجل هذه القضية التي تداخلت فيها العاطفة بالعقل والطموح السياسي، وهنا يكمن الإشكال. ولقد شهدت الفترة المنصرمة دخول بعضهن على الخط بطريقة درامية يستهجنها العاقل والعقل السياسي معاً، فبالأمس القريب صرخت السيدة سهى عرفات في وجه الفضائيات العربية، بأن البعض يريد أن يرث عرفات قبل موته، وقيل وقتها أن التبرير واضح، فامرأة تكاد تفجع بزوجها ضعفت الى درجة أنها لم تتبين ما تقول في ساعة الأزمة. واليوم تأتي زوجة المناضل الفلسطيني مروان ألبرغوثي السيدة فدوى لتعلن أن لديها تفويضاً منه بخوض انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية، حتى قبل أن تبدأ الأقلام العاقلة بتثمين موقف ألبرغوثي المعلن قبل أيام قليلة من ذلك التصريح الأخير المفاجئ ، بأنه يدعم محمود عباس أبو مازن كي تتضافر الجهود في دفع مسار القضية الى الإمام. كان الإعلان الثاني صدمة لكثيرين، لأنه ببساطة بني على حسابات خاطئة كثيرة، ربما أهمها شوق امرأة وأم مصدومة بإمكان خروج زوجها من سجنه القسري في حال فوزه في الانتخابات الفلسطينية. وكما كانت حسابات السيدة سهى عرفات غير دقيقة، كذلك هي حسابات السيدة البرغوثي غير دقيقة أيضاً، بل قد تكون مضرّة بالقضية الفلسطينية كمثل الضرر الذي يقدمه أعداء الشعب الفلسطيني ولكن بحسن نية. رغم التحولات الكبيرة التي يمر بها عصرنا، لا نزال كأننا نعيش في العصر العباسي، عندما كانت بعض النساء والجواري يعيّنَ الوزراء ويصنعن السياسة في عصر شيمته الفرقة والتناحر. قضية مصيرية بحجم القضية الفلسطينية لا تترك للأهواء والمراهنات، لقد كان خبر ترشيح مروان البرغوثي لسدة الرئاسة الفلسطينية وما تلاه من تصريحات للسيدة البرغوثي، هو الذي سيطر لأيام على وسائل الإعلام المرئية و المكتوبة، ليس لدى المتابعين العرب فقط، بل على مساحة العالم، لأن العامل الجديد مثير وغامض. يبدو أن الدافع هو سرعة تخليص البرغوثي من سجنه غير العادل كما أسلفنا، بأن يصبح رئيساً للشعب الفلسطيني وهو في السجن، ويبدو أن النظرية تذهب لتتوقع إما أن تطلق إسرائيل سراح البرغوثي، فيعود الى عائلته سالماً والى مواطنيه رئيساً، أو أن تتحمل إسرائيل مسؤوليتها الدولية تجاه وضع رئيس منتخب في السجن! تلك النظرية قريبة الى السذاجة إن لم تكن قريبة الى تدمير القضية برمتها، وكأن العالم سوف يتفرغ للدفاع والمطالبة بإطلاق سراح البرغوثي تعويضاً عن التفرغ لحلحلة معضلة ليس لها مثيل في عصرنا الذي نعيش، وهي قضية الشعب الفلسطيني وطموحه في بناء دولته المستقلة، فعندما يتغير مسار العمل السياسي الفلسطيني من العمل على انجاز تحريره ورفع الحيف عن الأم الثكلى والأب المريض والطفل المحروم من المدرسة والمواطن منزوع الهوية في هذا العالم العادل، يتحول الجهد لحصره بإطلاق الرئيس الفلسطيني من سجنه يكون ذلك بمثابة خيانة للقضية وتغيير مسارها عمداً في الاتجاه الخطأ. مخطئ من يعتقد بهذه النظرية، خصوصاً بعدما قررت مؤسسات"فتح"ترشيح محمود عباس، فالقضية هنا لا تحتمل انشقاقاً يضيف عبئاً على القضية الأم، فالبرغوثي ليس عضواً في منظمة بعيدة عن عباس، بل ينتمي الى نفس الفصيل وربما نفس التوجه السياسي، بل قد حصل البرغوثي قبل أيام على ما لم يحصل عليه مناضل أو يقدمه قائد، وهو ضرورة"استشارته وهو في السجن في الموضوعات الحاكمة"كما نقل عن مصادر الرئيس المرشح محمود عباس. الاستبشار الأول الذي لقيته خطوات انتقال السلطة بعد وفاة الرئيس عرفات، والذي بدا طبيعياً وسهلاً ومرناً وشاهداً علة عقلية سياسية استبشر بها خيراً وأثار إعجاب كثير من المراقبين، ما لبث أن تبدل الى تشاؤم لدى إعلان زوجة البرغوثي ترشيحه للانتخابات، وأصبح الحديث عن الانشقاقات والتجاذبات على كل لسان، وأصبح القول إن ريمة عادت الى عادتها القديمة، هو الأكثر شيوعاً وسيطرة على الفضاء الفلسطيني. لا يعرف أحد ما سوف تسفر عنه هذه التجاذبات والصراعات، ولا يعرف احد أين تكمن المصالح الشخصية من المصالح العامة، ولا يتصور احد أن يترشح شخصان أو أكثر من نفس"الحزب"لخوض انتخابات بمثل هذه الحساسية، ولو كان السيد البرغوثي من فصيل آخر ربما كان تبرير السيدة زوجته مقبول سياسياً، من أن الانتخابات التعددية مطلوبة ومرحب بها، أو كان طليقاً فاعلاً على الأرض لربما وجد له التبرير. أما أن ترتهن القضية الفلسطينية، التي هي مسمار رحى منطقة بأكملها بشعوبها وقدراتها ويوصد عليها الباب مع رجل في السجن، وضد شخصية تحضى بقبول دولي، ويفترض أن ذلك ينفع القضية، فذلك من الأحاجي الفلسطينية المستحيل فك رموزها. لعل ظاهرة أخرى مصاحبة للخطاب الفلسطيني السياسي التي من الواجب الإشارة إليها في هذا المقام، وهي ربط ما يحدث في فلسطين بما يحدث في العراق، وهو أمر يلاحظه المتابع لدى بعض الفصائل الفلسطينية حتى يومنا، ولا بد من التنبيه أن هذا الربط خطأ في حق القضية الفلسطينية قبل أي شيء آخر. فالتوصيف المناسب للقضية العراقية في أسوء أحوالها، أنها تماثل الاستعمار القديم في ثوب جديد، أكثر ما يمكن أن تستحقه هو أن تخوض حالة تحرر وطني، قد تطول مدته وقد تقصر، وقد يأخذ الشكل الصراعي له أدوات مختلفة، وقد يأخذ التوافق السياسي طريقه،كما حدث في بلدان كثيرة، أما الحالة الفلسطينية فهي حالة استيطان قاسي ومرير ومتغير، فنصف الشعب الفلسطيني مشرد، ونصفه الآخر مهان في أرضه ومهدد بالاقتلاع والموت والحبس في"غيتو"مقلق بعد ولادة جدار الفصل العنصري، فالقضية تحتاج الى كل جهود أبنائها، كما تحتاج الى دعم أقلمي ودولي لا يشتت هدفها، هو هدف سياسي يتجاوز الحالة العاطفية التي تجر القضية الفلسطينية الى الوراء... * كاتب كويتي.