كانت نصيحة امي الدائمة:"تزوجي! لا تفرضي على نفسك الوحدة!". لم أكن أشعر فعلياً بالوحدة. صحيح انني قاربت الثلاثين من العمر لكن حياتي مزدحمة بالأفكار والمشاريع والمشاعر. بعد توقف قسري عن الدراسة بسبب ظروف الحرب، عدت الى الجامعة بحماسة من يملك الوعي لأهمية العلم والشهادة في زمن ينبذ بقسوة كل من لا يملك مفاتيح المعرفة. وكنت دائماً من المتفوقين. وفي نهاية السنة الجامعية الخامسة، كنت أتقدم على منصة التخرج لأتسلّم باعتزاز من رئيس الجامعة ديبلوماً في هندسة الكومبيوتر. ولأن الحاجة ماسة لاختصاصيين في هذا المجال، حصلت على عمل جيد بعد شهر واحد من تخرجي. ظروف حياتي تتباين كلياً مع ظروف كثير من الأصدقاء والصديقات. في حين يشتكي الجميع، أشعر بأنني ادير حياتي في شكل جيد. فبعد ثلاث سنوات على بدء حياتي المهنية اشعر بأنني حققت إنجازات مهمة. فأنا احصل على معاش محترم ساعدني على امتلاك سيارة وتقسيط شقة خاصة بي اضافة الى انني اتردد الى ناد رياضي، استطيع من خلال النشاطات التي امارسها فيه الحفاظ على لياقتي وعلى مزاجي المرح. يشكل النادي فرصة للقاء وجوه جديدة وتكوين صداقات وبالتالي إطلاق مشاريع رحلات في ايام الإجازات وأحياناً مشاريع سفر. أشعر بأن حياتي مكتنزة لا أعرف خلالها لحظة فراغ. لدي النجاح المهني والأصدقاء الذين يملأون علي حياتي ووقتي... بصراحة لم أكن افكر بالزواج. لم يكن حاجة بالنسبة إلي ولا قضية. في فترة المراهقة، عشت تجربة حب، عندما تخطفني الذكرى إليها اضحك وأسخر من نفسي. وحينما اتذكر معاناتي خلالها أستنتج ان الحب يشبه الحمى، إذا كان من الممكن تفادي عوارضه فلماذا اسعى إليه؟ سعادتي لا يشوبها سوى صدى صوت امي يردد على مسامعي"تزوجي لأن الناس في مجتمعنا لا يرحمون! انهم لن يفهموا قرارك بالرغبة بعدم الارتباط... كلمة عانس ستطاردك حتى لو حصلت على أرفع الشهادات وتبوأت اعلى المراكز!" بدأت هذه الكلمات تفعل فعلها في رأسي حينما تسلمت مفاتيح الشقة التي حلمت دائماً بامتلاكها. كانت امي لا تزال على قيد الحياة فأطلعتها على مشرعي هذا وكنت أمنّي النفس أن ألجها وهي برفقتي تمنحني انسها وحنانها، أنا آخر العنقود في الأسرة بعدما تزوج جميع اخوتي وأخواتي وتوفي والدي وبقينا معاً في المنزل العائلي الذي انتهى الى اخي البكر. لكن المرض المفاجئ استوطن قلبها وخطفها ذات ليلة شتائية ماطرة. بكيتها بحرقة ولا يمضي يوم إلا ويزورني طيفها وتتردد في مسامعي نصيحتها وكأنها تعبير عن قلقها على مستقبلي وخوفها علي من ان أنتهي وحيدة. "سأتزوج!"قلتها لنفسي حاسمة الصراع الطويل الذي تفاعل في داخلي. ولمَ لا! إن العمر يتقدم بي سريعاً. لا اريد ان أندم ذات يوم... وبالتالي ان قلبي يخفق بقوة عندما ارى طفلاً... اكتشفت فجأة انني احب أن أكون اماً مثل شقيقاتي وصديقاتي... لكن ما لم استطع ان احدده هو: من أتزوج؟ جميع زملاء العمل متزوجون وكذلك روّاد النادي الذي يشبهونني سناً ومكانة. وحدي انا لست مرتبطة لا بخطيب ولا بزوج! هذا الاستنتاج جعلني اخوض تجربة الخوف من الوحدة! امي على حق، يجب أن أتزوج وفي أسرع ما يمكن قبل فوات الأوان! انا املك كل المؤهلات التي تساعدني على الارتباط بشاب مناسب وبناء اسرة. إذا كانت الأوضاع المادية هي العائق، لدي ما يسد هذه الثغرة: المنزل، الوظيفة الجيدة، السمعة الطيبة والشكل الحسن... أنا لست ملكة جمال! لكن المرآة تعكس امامي وجهاً لطيفاً وقامة رشيقة. لمَ لا أكون عروساً تخطر بالثوب الأبيض؟ ما كان لفترة قصيرة امراً مستبعداً بات هاجساً يلح علي بإصرار. من يصلح ان يكون لي زوجاً؟ لم اكن أدري ان تحقيق هذا الهدف امر في غاية الصعوبة. إن المواصفات التي ترضي فتاة في مستواي ليست متوافرة في معظم الذين اصادفهم... بعض التنازلات تبدو ضرورية... بل الكثير منها! حتى وجدت نفسي اتخذ القرار المجنون بالارتباط بشاب لا أعرف عنه سوى انه يعمل سائقاً لأحد الفنادق، وسيم المظهر، يتقن فن الحديث... وفن الكذب ايضاً! قررت انه يملك الشكل وأنا المضمون! لكن بعد اربعة اشهر زواج عشتها في جحيم التناقض بين اسلوبي حياة واتجاهي احلام واختلاف جذري في الرؤية والنشأة والمفاهيم والمبادئ والمستوى الفكري والاجتماعي... بعد اربعة اشهر زواج شعرت بأنني أتحطم وأخسر كل شيء حتى نفسي... حتى قدرتي على التركيز خلال عملي. وتملكني الفزع حتى تصورت انني سأمضي العمر كله في هذا الجحيم! لما اتخذت قراري المجنون بالزواج السريع اتخذت قرار الطلاق بأسرع منه. لكن الحصول عليه لم يكن بالسهولة عينها التي تم فيها زواجي. لقد خضت معارك قانونية شرسة وعانيت من النظرات المشفقة ومن الصمت المريب يحل حين اصل الى مكتبي او الى منزل اسرتي. عندما اصدر القاضي حكمه النهائي بالطلاق تمنيت لو أن أمي الى جانبي لأرتمي بين ذراعيها وأناقشها. أقول لها:"إنني افضل ألف مرة لقب"عانس"وأنا متصالحة مع نفسي، سعيدة بحريتي، على لقب متزوجة ومطلقة ترزح تحت وجع جرح تجربة ما كانت لتكون لو ان المجتمع يترك الفتاة بحالها ويعترف لها بحقها ان تختار شكل الحياة التي تريد". خربطت هذه التجربة مسار حياتي وأتاحت لأشباح الوحدة ان تحوم فعلياً في فضاء ايامي!