الكتاب: الإمامة والسياسة والخطاب التاريخي في علم العقائد. المؤلف: علي مبروك الناشر: مركز الإنماء الحضاري - حلب. الطبعة الأولى 2004 . في الوقت الذي يعمد فيه بعض الكتبة الليبراليين الى درس النص الديني المؤسس للاجتماع الإسلامي تثبيتاً لتاريخية انتاجه، المؤدية الى الغاء فاعليته، وتكريس انقسام المجال العام، يقوم المؤلف في هذا الكتاب بدرس التراث الإسلامي المنتج انسانياً تبياناً للاتاريخيته المفضية الى حرية الفعل في عالم اليوم، كما ويأتي هذا الكتاب بحثاً في تداخل مجالي السياسة والاعتقاد، ذلك التداخل الشائك الذي ترتهن ساحات من النظر والفعل بمدى تحرير مسائله وكشف حدود تفاعل حقوله وتواصلها. يفتتح مبروك فصل كتابه الأول بإثبات أزمة الخطاب العربي المعاصر المتمثلة في لا تاريخيته عبر اعادة انتاج ذاته وتكرار قضاياه من دون أن يحقق أي تقدم ذي بال في أي منها، ويبرز الكاتب هذه الأزمة البنيوية للخطاب العربي من وجوه عدة، منها استهلاكه الايديولوجي لمفرداته، من دون سعي الى انتاجها في سياقه الثقافي الخاص، ولأن الخطاب لم يتجه الى أفق معرفي مغاير يسمح لمقولات النهضة مثلاً بالتفتح والتجدد، وعجز هذا الخطاب جعلت نتاجاته هشة هائمة فوق الواقع، وعاجزة عن النفاذ اليه أو التأثير فيه، وأما استهلاك هذا الخطاب لمفاهيم الحداثة فيصفه مبروك باستهلاك للزركشة، وعمل قائم على مجرد الترديد اللفظي من دون القدرة على ادماجها في واقعه على نحو منتج، ولذلك قام باستعارة مفاهيم حداثية من سياقاتها وبقيت علاقته بهذه المقولات علاقة ترديد واستهلاك ايديولوجي للآخر سواء كان غرباً أو كان سلفاً في موطن آخر، فلا هو أحيا تراثاً، ولا هو استنبت حداثة. في الفصل الثاني الموسوم ب"مسار التفضيل في مصنفات الأشعرية" يدرس المؤلف بنية الخطاب التاريخي الأشعري، وتحديداً في علم العقائد ضمن "مسألة التفضيل"، التي بدأت في الأصول السياسية الإمامة، ثم استحالت الى بنية متعالية تمارَس في انفصال تام عن قواعد انتاجها، ويدرس مسألة تفضيل المتقدم من العلماء على المتأخر، والسابق على اللاحق، وحصر الفضل فيهم دون غيرهم، وتفضيل العصور عصر الصحابة أفضل من عصر التابعين... الخ، وتصنيف الرجال على طبقات وأفضلهم من تقدم، والأمر نفسه في ترتيب أئمة أهل السنّة والجماعة في العمل، وفي الحديث والإسناد، وتفضيل الأنبياء والأولياء في ما بينهم. ويقول مبروك في حكم تعوزه الدقة والبرهان ويتصف بكثير من المبالغة: ان هذا التفضيل أو الترتيب هو بفعل فرقة السلطة التي رتبت للناس قواعد العقائد، ومبادئ السلوك والعمل وطرق الرواية، ليصبح الخروج على هذا التفضيل والترتيب ضرباً من الانحراف والهرطقة الموصل الى الكفر، وهو أمر لم يصل الى المستوى السياسي للخطاب فقط، بل تكرس في نظم الخطاب قولاً وعملاً. ولبيان ذلك في الفصل الثالث يفصل الكاتب قضايا التفضيل السياسي لإمامة أبي بكر رضي الله عنه، الذي يظنه قد تم بسبيل القبيلة قريش، وليس الفضيلة كما يذهب علماء الأصول. ثم يتناول مسألة ترتيب الخلفاء في الفضل ليصل الى نتيجة مفادها أن الإمام في الخطاب الأشعري لا يكون إماماً لأنه الأفضل، بل إنه يغدو الأفضل لمجرد كونه الإمام، وتحول التاريخ الى دورة انهيار وتدهور حول لحظة النبوة والخلافة، بصفتها لحظة فضل ومثال، والى صيرورة تدهور مشروطة، لا بقوانينها الخاصة، بل بنموذج متحقق سلفاً. في الفصل الرابع يطالعنا مبروك بالبحث في الأسس المعرفية للخطاب التاريخي الأشعري ليؤكد أن تصور التاريخ كما تقدم - وهو مسكوت عنه بالطبع - قد مارس فاعليته في بنية الخطاب ذاته، وعند تحليله جملة الأنساق النظرية لثقافة هذا الخطاب، يبحث في ترتيب العلاقة بين مقولات الله - العالم - الإنسان في الخطاب الأشعري، ليصل الى أن هذه العلاقة هي علاقة انقسام وتباعد تعمل - على مستوى الممارسة - على تكريس نظام التسلط، حيث ان النظام ينطوي على ما هو أعلى وأكثر جوهرية في مقابل الأدنى والأقل جوهرية، وبذلك يغيب التسامح الذي يتحقق بوحدة هذه المقولات وائتلافها، وهذا الانقسام في المقولات الثلاث المؤسس لنظم البنية المهيمنة في النسق الأشعري يستحيل - بحسب الكاتب - الى انقسام للتاريخ بين لحظة للفضل ولحظات من التدهور اللاحق تتلوها، وتحدد المقولات في النسق عبر نفي الواحدة منها للأخرى، وتستحيل في التاريخ الى ضرب من النبذ من اللحظة الأفضل للأقل فضلاً منها. ينتقل المؤلف في الفصل الخامس من دراسة الإمامة وأثرها في تصور الأشاعرة للتاريخ، الى درس تصور هذه المسألة لدى الشيعة، ليقول ان الإمامة عندهم تنبني على الأولوية المطلقة للممكن باعتباره الأفضل، في مقابل مقالة الأشاعرة: من أن المتحقق هو الأفضل، إلا أن الكاتب يعتبر المقالة الشيعية هي تجاوز صوري للمقالة الأشعرية، لأنهما أديتا الى نفي الانسان وتهميش فاعليته التاريخية. وينتقل في الفصل ذاته الى حديث تبجيلي ايديولوجي سماه "التجاوز الخلاق لدى المعتزلة" في جمعهم للمتحقق والممكن معاً في نظرتهم الى مسألة الإمامة، وبجعلهم التاريخ الذي غيبه الآخرون مرتبطاً بالإنسان، غير متعال عليه، عبر أصلهم الخامس المتمثل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتفصيلاً لهذا الخطاب المعتزلي يبين الكاتب في الفصل السادس الأسس المعرفية له، التي ترتكز على الموازنة والتطور التاريخي، واستيعاب التاريخ. إن اتخاذ مسألة التفضيل مدخلاً مركزياً في الإمامة لقراءة الوعي بالتاريخ لدى الأشاعرة والشيعة والمعتزلة يتسم بشيء من الغلو والاختزال المخل عند إزاحته مداخل أخرى كثيرة. كما أن النص الأشعري المنتج في التاريخ لا بد من قراءته لا في سياق تشكلاته التاريخية ورهاناته الايديولوجية فحسب، بل أيضاً في ضوء مرجعياته الأصلية قرآنية أو حديثية لدرس مدى مشروعية هذا الانتاج معرفياً وتاريخياً. * باحث فلسطيني.