في كتابه «الخطاب الأشعري مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي» (منتدى المعارف، بيروت، 2010) قدم سعيد بنسعيد العلوي دراسة توثيقية لمكوِّنات الخطاب الأشعري إبان العصر الكلاسيكي، عبر الكشف عن آلياته المعرفية، الكلامية، الأصولية، والسياسية. وبناءً على هذه الرباعية رصد العلوي تجليات المعاقلة الأشعرية التي حققت انتصارها التاريخي على المعتزلة، أهل العدل والتوحيد، بدءاً من إشكالية مجال المنقول وحدود المعقول، مروراً بالاجتهاد والتعليل، وصولاً ألى التشريع والتدبير. محاور متشابكة يتحرى عنها الكاتب، وبين نظرية أهل الحق أو ما يسمى الفرقة الناجية وبين النظر في النبوة والبيان والتبيين، فيصل واحد يتحكم بها، كيفية نظر العقل اليها ومدى إلتزامها في العمل المذهبي. وقبل خوضه في غمار التجربة الفكرية، التي كُتب عنها الكثير، وقبل كشفه عن قواعد علم الكلام عند الأشاعرة، يستهل جهده بالتعريف الدلالي لمفاهيم النظر والاستدلال، مستنداً الى الجويني والبغدادي وأبو بكر الباقلاني والغزالي صاحب «الاقتصاد في الاعتقاد»، وعلى هذا يقيم حجته في قراءة علم الكلام الأشعري، انطلاقاً من نظرية الفرقة الناجية، فيعمد الى تفصيل تخريجات الفقه الشيعي في ما يتعلق بالإمامة، أسّ الاعتقاد الشيعي، منتقداً الأسس الكلامية القائمة عليها، تحت تساؤل أساسي: «هل إعلان الأشاعرة التزامهم بما قرره الإمام أحمد بن حنبل يعود الى تعاظم الخطر الباطني الذي يتطلب وحدة الصف السُنّي؟ بصرف النظر عن مستوى الحضور الأيديولوجي في السؤال المطروح، يؤرخ الكاتب للسياقات التاريخية التي دفعت الأشاعرة إلى تبني طروحات الإمام بن حنبل؛ وما إن ينهي العلوي تفنيده للشروط التي تأسس عليها علم الكلام الأشعري، حتى يدخل في صلب موضوعه «النظام المعرفي الأشعري» في العصر الوسيط، مع العلم بأن هذا النظام قسَّم المسلمين الى خاصة وعامة، فريق لديه الحق في دراسة بواطن الدين، وآخر عليه التسليم «لأهل الفطن»، وفي هذا الإطار يستشهد الكاتب بأطروحة الغزالي «إلجام العوام عن علم الكلام» من دون أن ينحاز الى موقفه، ولكن الإشكاليات التي يمكن طرحها هي: الى أي مدى يمكن تطبيق هذا التقسيم المعرفي الطبقي إذا جاز التعبير، على إسلام العصر الذي يبدو أنه أشد انفتاحاً على العلوم الاجتماعية من علم الأديان المقارن على الانثروبولوجيا؟ فعلم الألسنيات، وأهل الاختصاص من غير رجال الدين في هذه المجالات وغيرها كُثر. وبعد، لماذا تمّ عزل النص المقدس عن العامة بهذه الصورة التي دشنها الغزالي وسواه والتي وصلت الى حدود الزجر والتقريع؟ بعد صولاته وجولاته في رسم حدود المنقول والمعقول عند الأشاعرة، يصل العلوي الى نتيجتين: أولاهما، أن العقل يملك النظر في النقل، لكن نظره يكون بهدف الإدراك والفهم متى أبيح له النظر، فالعقل لا يجول في كل شيء بل يقف في أشياء وينفذ في أشياء؛ الثانية، أن النقل مُقدم ومتبوع، والعقل متأخر وتابع. «الفرقة الناجية: أهل الحق»، عنوان فصل رصد فيه الكاتب معنى النجاة عند الفرقة الأشعرية، ويستند على كتابين، الأول لأبي الحسن الأشعري «الإبانة في أصول الديانة»؛ والثاني لعبدالقاهر البغدادي «الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منها». الأشعري الذي اعتبر المعتزلة من الزائفين عن الدين، حدد جملة من الأسباب لدعم رأيه: القول بتأويل القرآن عبر أدوات غريبة، نفيهم رؤية الله بالأبصار يوم القيامة، إنكارهم شفاعة النبي، قولهم إن القرآن مخلوق، تعطيلهم للصفات الإلهية، ما يعني تعارض عقائدهم مع أهل السُنّة والجماعة. منهجية البغدادي في تعريف الفرق الضالة اختلفت الى حد ما عن الأشعري فوصلت الى مطلب التكفير حين قال: «مطلب المتكلم هو الإبانة عن الأسباب التي تحمل على الحكم بتخطئة الخصم أولاً ثم القول بتكفيره ثانياً». ووجد البغدادي في الباطنية ألد أعداء الإسلام، وأخطرهم عليه من النصارى واليهود والمجوس؛ التحول الذي صاغه صاحب «الفرق بين الفرق» يتجلى في البحث عن معطيات الضلال والكفر وليس التنظير الفقهي لسبل النجاة كما فعل الأشعري، وجاء دور الغزالي ليكمل الرد على الباطنية تحديداً في ما يتعلق بالإمامة والمعصوم، لهذا سعى كما يلفت الكاتب، الى إيجاد السند الشرعي للحكم بتكفيرهم، وقد اتضح سنده في كتبه الثلاثة «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، «القسطاس المستقيم»، «فضائح الباطنية». وعلى هذا أسس الغزالي لمعايير الكفر والإيمان، وفساد القول بالتعليم والمعلم والمعصوم، وعلى قاعدة الشيء بالشيء يذكر، لم يدرك الغزالي وتلامذته، أن من يسميهم الباطنية، دشنوا لحقل دلالي فقهي أغنى الإسلام التاريخي ولم يكبله، والباطنية بما تحويه من فرق شيعية وغير شيعية، هم بهذا المعنى، عقل نقدي واعتراضي غير موجه ضد الدين بل ضد السلطة التي أخرجت من أسماهم هشام جعيط ب «مجال علي» من الحكم ولم يعودوا اليه إلّا بفترات زمنية متقطعة، وهم أيضاً عقل مستقل وليس عقلاً مستقيلاً كما قال محمد عابد الجابري. وإذا كانت الخلافة أسست عدتها الفقهية على النص، فإن الإمامة حولت التاريخ الى نص مقدس، وكلاهما أغنى الاسلام. لكن الخطورة تكمن في تكفير الخصوم ما أدى الى عرقلة المصالحة التاريخية بين ابناء الدين الواحد. «النظر في الذات الإلهية» شكّل أشرس المعارك الكلامية التي خاضها المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة، وقامت على ثلاث ركائز أساسية: الربوبية، الوحدانية والصفات الإلهية. الاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة تمظهر بالنسبة للوحدانية في مسألتين أساسييتن: مسألة التأويل، تأويل ما تشابه من الآيات أو أشكل منها في معنى التنزيه، ومسألة الرؤية، رؤية الله بالأبصار يوم القيامة. أربعة أركان استند عليها الأشاعرة في علم القياس: الأصل، الفرع، الحكم، العلة. وعلى رغم ان هذه الأركان قواعد مشتركة بينهم وبين المناطقة، ومنهم المعتزلة، إلا أن ثمة اختلافاً بيّن بينهما؛ فالعلة على سبيل المثال عقلية عند الأولين، وشرعية عند الآخرين. في الفصل الأخير من الكتاب «التشريع والتدبير»، يتطرق الكاتب الى السياق النظري لمسألة الخلافة في المنظومة الأشعرية، بحيث تشكل أطروحة الماوردي «الأحكام السلطانية» صلب موضوعه، سواء لجهة تعريف الإمامة، وشروطها، أم لجهة كيفية اختيار الإمام من قبل الأمة تحت مسمى «العقد» باعتباره فعلاً فقهياً اعتيادياً يدخل في أبواب المعاملات. والعقد له شروطه، ومن بينها «أن لا يكون عن اقتراع» فالقرعة لا مدخل لها في العقود، كما خلص إليه الماوردي. فأين رأي جمهور المسلمين من تنصيب الإمام؟ وما معنى أن تتحول الخلافات المتعاقبة على ديار الإسلام الى مُلك عضوض؟ ولماذا عمد الماوردي الى تغييب الجماعة عن اختيار الإمام وحصرها برجل واحد من أهل الحل والعقد؟ لا يغامر العلوي في الرد على أسئلتنا، ولا يعمد الى تفكيك خلاصات الماوردي بأسلوب علمي، فهو يكتفي بالعرض والتوثيق، من دون أن يقدم قراءة نقدية للمنظومة الأشعرية، وهو لو قارن بين الأشاعرة والمعتزلة في أهم المفاصل الكلامية التي طرحوها، ولو حاول الابتعاد من الموقف الأيديولوجي المسبق الذي كبّل عمله، ولو أقر بأهمية الحِراك الفقهي التاريخي الذي شهده ويشهده الإسلام في العصر الوسيط وما بعده، ولو أنه شرح الأسباب التاريخية التي أدت إلى انتصار الأشعرية وانكفاء المعتزلة، لجاء كتابه أدق من الناحية المنهجية، لكن تلك الملاحظات لا تنفي الجهد الذي بذله للإحاطة بمكوّنات الخطاب الأشعري، الذي أصبح منذ لحظة انكسار مشروع المعتزلة، الإطار الفقهي المعتمد لدى الإسلام الرسمي، ولكن هذا النصر لا يمنع وجود علماء معاصرين، كرسوا جهدهم المعرفي في دراسة النصوص التأسيسية، دراسة علمية، أكدت مجدداً عدم التعارض بين الإسلام والعقل، بالمعنى الإصلاحي الفلسفي الذي صاغه كانط .