على رغم"السيناريو الوردي"الذي طرحه كل من صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والمصارف المركزية الاوروبية، تجاوز سعر النفط الخام الاميركي حاجز ال50 دولاراً للبرميل يوم الجمعة الماضي، في قفزة ضاعفت من حجم الهواجس والضغوط حيال الدول المغاربية، مستوردين ومصدّرين للنفط على السواء، كل وفق اوضاعه الاقتصادية والاجتماعية. في نهاية شهر آب اغسطس الماضي، توقع وزير الطاقة والمناجم الجزائري شكيب خليل في لقاء مصغر عقده مع عدد من الصحافيين الاقتصاديين في العاصمة الفرنسية ان"اسعار النفط ستبقى مرتفعة حتى بداية سنة 2005". وجاء ثبات الاسعار عند المستويات العالية التي شهدناها حتى بداية الشهر الجاري، لتؤكد أن توقعاته في مكانها، وعززت التقديرات الصادرة اخيراً عن مصارف الاعمال الغربية مثل"مورغان ستانلي"، التي توقعت أن يصل سعر البرميل الى 60 دولاراً قبل نهاية السنة الجارية، حتى لو لجأت الدول المنتجة داخل منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك الى ضخ كميات اضافية متجاوزة بذلك حصصها الانتاجية التي حددتها المنظمة. باختصار يبدو ان منظمة الطاقة الدولية وغالبية الخبراء اخطأوا في حساباتهم لناحية تنامي الطلب على النفط. فإذا كانت الانعكاسات السلبية لارتفاع أسعار النفط على الدول الاوروبية اقل من غيرها من الدول الغربية، نظراً الى ضعف سعر صرف الدولار مقابل اليورو، إلا أن هذا الوضع لا ينطبق على البلدان المغاربية وتحديداً تونس والمغرب، فاقتصادات دول اتحاد المغرب العربي الخمس، المستوردة والمصدرة للنفط ، تلقت في الشهور الماضية تأثيرات هبّة الاسعار، كما ستواجه مع بداية السنة المقبلة نتائج متابعة الارتفاع وفق وتيرة تصاعدية منتظمة، ما سيدفع بالمسؤولين الماليين في هذه البلدان الى اعادة النظر في تقديراتهم المتفائلة لمعدلات التنمية. كذلك، العمل على احداث تباطؤ البرامج الاستثمارية، وايضاً التشكيك بإمكان حدوث انطلاقة اقتصادية، كما سبق وروجوا لها، خلال سنة 2005. ومما لا شك فيه أن الهاجس النفطي بدأ يلقي بثقله على القرارات المالية التي ستتخذها حكومات الدول المغاربية، ذلك في الوقت الذي تستعد فيه هذه الاخيرة لعرض موازناتها على برلماناتها للمناقشة في الاسابيع المقبلة. فالمؤكد والحال هذه ان الارباك هو اليوم سيد الموقف، خصوصاً ان التجاوزات التضخيمية للأسعار قد سيطرت على العقول والتصرفات. فاذا كان التضخم خارج اطار الطاقة والمواد الاولية الغذائية لا يزال تحت السيطرة نسبياً، إلا أنه ليس بالامكان التكهن فيما اذا كان هذا الوضع سيدوم. هذا هو رأي محمد بنيني، مدير وكالة ترويج التجارة الخارجية للجزائر، الذي وصف ارتفاع الاسعار ب"النعمة ذات الحدّين"، بمعنى آخر، اذا كانت هذه الظاهرة التصاعدية للاسعار ستجذب سيولة اضافية لبلاده العائدات مقدرة بنحو 34 بليون دولار في نهاية 2004، الا انها ستنعكس على شكل اعباء من خلال الزيادة التي ستطرأ على اثمان صادرات الدول الصناعية للبلدان المغاربية. ضمن هذه الفئة، يبقى المغرب في طليعة الدول التي ستتحمل اكثر المساوئ من هذا الارتفاع الثابت، الذي لا يبدو انه سيتراجع بحدة كي يعود الى ال35 دولاراً للبرميل قبل نهاية السنة الجارية. كما وتفسر الارقام التي نشرها البنك المركزي المغربي أن الواردات من النفط قد زادت كمّاً بنسبة 82.7 في المئة، وقيمة بنحو 102 في المئة في الشهور السبعة الأولى من هذه السنة، ما يمثل 7.9 بليون درهم 720 مليون يورو/ 892 مليون دولار. ويفيد عدد من الخبراء الماليين المغاربة ان هذا الضغط على الفاتورة النفطية قد لوى ذراع الحكومة التي لم تجد خياراً آخر سوى رفع اسعار الوقود والمازوت بدءاً من شهر آب الماضي. ذلك، على رغم الضمانات التي سبق واعطاها وزير الطاقة محمد بوطالب، التي اكد من خلالها أن"اسعار المحروقات ستبقى جامدة في مكانها". في التصور نفسه، تجدر الاشارة الى ان الواردات قد زادت بنسبة 14.5 في المئة مقتربة من حاجز ال90 بليون درهم اليورو 11.4 درهم. من ناحية اخرى فإن المشتريات غير النفطية ساهمت هي الاخرى بزيادة النفقات بالعملات الاجنبية كونها ارتفعت بنحو 10 في المئة خلال الشهور السبعة الأخيرة. في المقابل، لم تتجاوز الزيادة في الصادرات اكثر من أربعة في المئة، الامر الذي ادى الى تعاظم العجز في الميزان التجاري الى 31.7 في المئة وتراجع معدل التغطية بنحو 5.7 في المئة. من جهة اخرى، يؤكد الخبراء الاقتصاديون ان كسر حواجز عدة على مستوى الاسعار ظاهرة يبدو أنها ليست في وارد الانكفاء في الشهور المقبلة نتيجة لتدني الاحتياطات التجارية من النفط في الولاياتالمتحدة الاميركية، اولاً، وثانياً، بسبب التوقف الجزئي للمنتج الروسي الاول"يوكوس"عن تسليم شحناته للصين، والتي يمكن ان تؤثر سلباً في غالبية موازين الاقتصاد المغربي. لذلك، يتحتم على حكومة ادريس جطو ان تتدخل لتمتص الصدمة الحاصلة عبر ايجاد الادوات الملائمة لتغطية الاختلالات التي طرأت، علماً أن الدعم الحكومي السنوي الوسطي لفاتورة الطاقة هو الآن في حدود ستة بلايين درهم. في السياق نفسه، أشارت مذكرة صادرة عن المجلس الاعلى للتخطيط ان تدخل الدولة، سواء عبر زيادة نفقات تغطية العجز او عبر العمل على خفض الرسوم المفروضة على المنتجات النفطية، لا بد وان يترجم بحدة من خلال زيادة العجز في الموازنة من 0.3 الى 0.4 نقطة، مقابل ناتج الدخل القومي. ويرى وزير المال المغربي، فتح الله ولعلو، بأنه طالما تدخلت الدولة للتخفيف من الصدمة فان الخسائر تبقى محدودة. ومن الانعكاسات السلبية الاخرى لارتفاع اسعار النفط الزيادة في ثمن الكلفة الانتاجية في جميع المجالات، كذلك التدهور في ميزان المدفوعات بنحو 0.44 نقطة. ويبقى السؤال الآن: كيف ستتمكن الحكومة المغربية التي اعلنت اخيراً عن زيادات في الرسوم والضرائب من تمويل العجز المتفاقم في ظل اوضاع اقتصادية واجتماعية ضاغطة؟ فإذا كان المغرب قد زاد من اسعار المواد النفطية مرة واحدة، فإن تونس، من جهتها، عمدت لرفعها مرتين متتاليتين منذ بداية هذه السنة. المرة الاخيرة كانت في شهر آب بحدود خمسة في المئة، لكن هذا الارتفاع صاحبته وبسرعة زيادة بنسبة ثلاثة في المئة للحد الأدنى للأجور بهدف تغطية الفارق الحاصل في القوة الشرائية لنحو 280 ألف موظف وعامل. وإذا كانت تونس تنتج حالياً النفط والغاز، وتعتبرها بعض الشركات العالمية العاملة على ارضها بمثابة بلد واعد في هذا المجال، إلا أنها لا تزال تشتري جزءاً كبيراً من حاجاتها الداخلية من الاسواق العالمية، فهي تستورد عملياً 53 في المئة من متطلباتها من الوقود 227 ألف طن و68 في المئة من المازوت الغازويل ما يوازي مليوناً و20 ألف طن، و350 ألف طن من الغاز. فمن اجل سد هذا العجز، كذلك مواجهة تذبذب الاسعار، قامت السلطات التونسية المختصة بخطوات تركزت على بذل الجهود الاستثنائية في ميدان استكشاف آبار جديدة. ذلك، بالتعاون مع عمالقة مثل شركة"رويال/داتش شل". ودفعت هذه التبعية للطاقة التزام تطوير عدد من المشاريع المرتبطة بالسيطرة على استهلاكها، وصولاً الى استخدام الطاقات المتجددة. في هذا الاطار، اصدرت الدولة قانوناً في الثاني من آب الماضي يقضي بالتقشف باستخدام الطاقة في كبريات المؤسسات المستهلكة لها. كما جعلت من المراقبة حالة اجبارية ودورية. فأياً تكن الاجراءات المتخذة للتخفيف من انعكاسات ارتفاع اسعار الطاقة المستوردة، فإنها ستستمر بالضغط على الموازنة التونسية. من هنا يطرح التساؤل التالي حول كيفية تعاطي الحكومة التونسية مع المستجدات في حال تمركز سعر البرميل فوق حاجز ال50 دولاراً بانتظام؟ فالزيادة الاخيرة للاسعار كما اعتمدتها محطات توزيع الوقود لم تُغطّ سوى 15 في المئة من هامش الارتفاع المسجل في السوق، اي عندما كان سعر البرميل في حدود ال42 دولاراً. لكن هذا المستوى قد تبدّل، كما ان الارتفاع الحاصل ليس محصوراً فقط بدولار واحد. يتعلق الأمر بشكل خاص بهذين البلدين الغنيين بالنفط والغاز ومشتقاتهما، ما حدا ببعض الخبراء للتأكيد بانهما لن يتأثرا بشدة من جراء القفزات الاخيرة في الاسعار. ذلك، لان جزءاً من العائدات الاستثنائية المسجلة كافية لتغطية الثغرات، وايضاً لاستيعاب الصدمات التي يمكن ان تحدث اختلالات في مؤشرات الاقتصاد الكلي مع المحافظة على توازنات في اهم الموازين الاقتصادية والمالية. فبمجرد تجاوز مداخيل الجزائر عتبة ال30 بليون دولار سنة 2004 واحتياطاتها من العملات قد جاوزت ال40 بليون دولار يعني أن اقتصاداتها بمنأى عن اي هزّات مهما كان نوعها او مصدرها، وبأن هذه العائدات من شأنها ان تخفف من حدة جميع الضغوطات على موازنة سنة 2005، خصوصاً ان حدوث انخفاض حاد ومفاجئ في اسعار النفط غير وارد في هذه المرحلة. ويرى وزير الطاقة والمناجم الجزائري، المقرّب جداً من شركات النفط والغاز الاميركية، أن"العناصر الجغراسياسية، كذلك مكونات السوق التي تشد الاسعار الى اعلى المستويات لم تفقد مبررات وجودها في المدى القريب". بنتيجة ذلك، يستبعد هذا الاخير ادخال أي زيادات على اسعار الوقود وفاتورة الكهرباء. بالنسبة الى الشق الاول فإن الهوامش ستزيد بالنسبة الى شركة التوزيع العامة"نافتال"، من دون المساس بسرع بيع الليتر الواحد. لذلك ستتحرك الحكومة على جبهة الرسوم الاضافية بحيث تنخفض عن مستوى توزيع المنتجات النفطية من دون ان تتأثر واردات الخزانة. ويضيف خليل أن منظمة التجارة الدولية لم تطلب من الجزائر ضبط اسعارها الداخلية على ايقاع الاسعار في الاسواق الدولية، بل طلبت فقط التخلي عن سياسات الدعم في هذا القطاع". يستنتج من وراء ذلك ان الاقتصاد الجزائري لن يتأثر جدياً بموجة الارتفاع حتى لو زادت وارداتها سنة 2005، ما يعزز هذه الوضعية اعتماد الجزائر على 30 دولاراً للبرميل كمرجع في حساب موازنتها المقبلة. فإذا كانت الجزائر تنشر دورياً قيمة عائداتها من الهيدوركربورات فإن ليبيا، على العكس من ذلك تتحفظ حتى الآن عن اعطاء ارقام تقديرية، في هذا الاطار. ويشير بعض المراجع المقربة من المؤسسات المالية العالمية الى ان عائدات الجماهيرية الليبية يمكن ان تصل الى 23 بليون دولار بنهاية هذه السنة، وذلك من دون حساب المداخيل من قطاع البتروكيماويات. فمع عدد سكان يبلغ 5.5 مليون نسمة مقابل 36 مليوناً للجزائر، فإن العائدات الليبية يمكنها ان تمتص بسهولة أي قفزات في الاسعار، ناهيك عن ان طرابلس الغرب اعلنت مراراً في الفترة الاخيرة انها ستزيد من انتاجها، في مبادرة شجعتها الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي بعد رفع الحظر الكلي عن ليبيا في منتصف شهر ايلول سبتمبر الماضي. أما بالنسبة الى واردات هذا البلد، فتبقى محدودة خلافاً للجزائر، مقارنة صادرات الهيدروكربورات وعدد المستهلكين. ما جعل الموازنات منذ عام 1997 تشكل فوائض لا يستهان بحجمها. لكل هذه الاسباب يمكن القول ان هذين البلدين المغاربيين قادران على امتصاص الصدمات النفطية، والالتفاف من دون صعوبات على هبّات الاسعار، حتى ولو تجاوز سعر برميل النفط حاجز ال60 دولاراً للبرميل. * اقتصادي لبناني.