في الفترة الممتدة من سنة 1919 الى 1921 كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية الرسمية في جنين بشمال فلسطين. في هذه الفترة تناوب على تعليمنا قواعد اللغة العربية ثلاثة معلمين. كان الأول شيخاً أزهرياً اسمه الشيخ مصطفى لا أذكر اسم عائلته، لعله لم يذكر أمامنا. دخل علينا الشيخ وفي يده كتاب أصفر معتدل الحجم وطلب منا أن ننقل ما يمليه علينا. كتبنا وفي نهاية الحصة قال "احفظوا هذا عن ظهر قلب" أي غيباً. حفظته وفي الحصة التالية طلب من كل منا أن يسمع جزءاً والذي لم يحفظ عوقب. ولما انتهينا من التسميع أملى علينا جزءاً آخر. وهكذا استمر تعليمنا قواعد اللغة العربية. أنا لم أفهم شيئاً مما حسب انه علمنا إياه. لم تطل اقامة الشيخ بيننا، فقد نقل الى قريته ليتولى فتح مدرسة هناك. وجاءنا المعلم الثاني -جراسيموس خوري. دخل وفي يده كتاب أصفر. وقد يكون الكتاب نفسه الذي كان الشيخ مصطفى يحمله. وفعل معنا مثل الذي فعله الشيخ، لكن مع بعض التفسير بين الحين والحين. وأنا أذكر من الخوري أو من الشيخ لا أذكر تماماً: "ضرب زيد عمراً"، كمثل على الفعل والفاعل والمفعول. ولما سألت المعلم أين ذهبت واو عمرو بعد أن ضرب، فقال رجعت الى "داوود" إذ سرقها عمرو من هناك. لا أذكر لماذا تخلى عنا المعلم جراسيموس. فجاءنا معلم لطيف الشكل والمظهر، اسمه مصطفى السعد. لم يكن يحمل كتاباً أصفر لما دخل الغرفة. كان يحمل في يده كتاباً صغيراً. قال سأقرأ عليكم أبياتاً من قصيدة. أذكر الى الآن البيتين الأولين وهما: شبحا أرى أم ذاك طيف خيالي أم ذي فتاة في العراء حيالي أمست بمدرجة الخطوب فما لها راع هناك وما لها من والي عرفت في ما بعد أن الابيات كانت من قصيدة لحافظ ابراهيم عنوانها "أم اليتيم". قرأ الأبيات متمهلاً، موضحاً لنا الكلمات الصعبة، وهو يجرب أن يتأكد، هنا وهناك، اننا نتابع قراءته ونفهم الأبيات. ولما انتهى قال "أظن أنكم تحبون أن تقرأوا الشعر على هذا النحو!". وقبل أن يسمع اجابتنا أو اجابة بعضنا - وكان عدد التلاميذ 12 فقط قال لذلك يجب أن نتعلم بعض القواعد في اللغة العربية التي تساعدكم. لم يحمل مصطفى السعد كتاباً في قواعد اللغة العربية. كان يلجأ الى كتاب القراءة الذي كان بين أيدينا واسمه القراءة الرشيدة تأليف علي عمر بك ونسيت اسم المؤلف الثاني. كان يلجأ الى جمل منه لتوضيح الأصول البسيطة. وكم تعلمت منه. أذكر انه دخل يوماً غرفة التعليم وطلب منا أن نفتح الكتاب في صفحة كذا. كان موضوع ذلك الفصل في الكتاب "الأرز". كانت الكلمات الأولى: الأرزُ حَبٌ صغيرٌ أبيضُ. من هذه الكلمات الأربع فسّر لنا: المبتدأ والخبر والصفة والممنوع من الصرف. وأذكر انني خرجت من الغرفة وقد فهمت هذه الأشياء على قدر الحال طبعاً. 2 بين سنتي 1921 و1924 كنت طالباً في دار المعلمين في القدس. في السنة الأولى كان مدرّس القواعد والقراءة الشيخ محمود أحمد الوصيف من ميت غمر بالدقهلية. كان الشيخ خريج مدرسة القضاء الشرعي القاهرة. وقع الشيخ على كتاب "مبادئ اللغة العربية" تأليف المعلم رشيد الشرتوني. وضعه بين أيدينا. كان هذا الدرجة الدنيا من سلسلة كتب وضعها المؤلف وكانت على أسلوب الحوار أي السؤال والجواب. وكان شيخنا ظريفاً لطيفاً فكان يضيف من عنده أمثلة لتوضيح النصوص والقواعد. ويطلب منا أن نقدم أمثلة مشابهة ليتأكد من أننا فهمنا المقصود. غادرنا الشيخ بعد السنة الأولى، وتلاه في السنة التالية جورج خميس الذي تابع الخطة مستعملاً الجزء الأول من الكتاب نفسه. كنا نستعمل "كليلة ودمنة" كتاب قراءة، فكانت الأمثلة تستخرج منه، لتطبيق القواعد. معلم السنة الثالثة كان حبيب خوري الذي ارتأى اننا لا نحتاج الى كتاب قواعد. كان يحب الشعر الجاهلي. شغلنا - ولحسن حظي - بالمعلقات وطلب منا أن نحفظ مختارات منها. وكانت أبيات من المعلقات تستعمل بين أسبوع وآخر لتذكيرنا - كما كان يقول - بالقواعد الأساسية للغة العربية. ولما انتهينا من المعلقات قرأ معنا، أو قرأنا معه، قصائد للمعري والمتنبي. 3 خرجت من دار المعلمين وعندي بضاعة في قواعد اللغة العربية هي نتف ألجأ اليها عندما أقرأ نصاً - قديماً أو حديثاً. لكنني كان يتوجب عليّ أن أتقدم الى امتحان مهني للمعلمين للترقية وكان المطلوب فيه أكثر مما أعرف. وقع في يدي وقتها كتاب عن قواعد اللغة العربية تأليف حفني ناصيف اذا لم تخني الذاكرة كان حفني ناصيف يدرس في مدرسة لم تكن أصبحت كلية بعد دار العلوم بالقاهرة. أفدت من الكتاب. ثم لجأت الى رشيد الشرتوني. فوضعت على مقربة مني "الجزء الرابع" وهو الأخير من السلسلة. وكان أيضاً على أسلوب حواري: أسئلة وأجوبة. لكنه كان حريصاً على أن يطبع الأصل بخط كبير، أما الشواذات أو الاستثناءات فكانت مطبوعة بحرف صغير. هذا الكتاب ظل الى جانبي الى الآن - وإن كنت نادراً ما أعود إليه. في هذه الفترة، وأظن حوالى سنة 1930، أعاني صديق اسمه الخوري الياس قرداحي، كان مديراً للمدرسة الكاثوليكية في حيفا وكنت أعلّم أيامها في عكا كتاب "بحث المطالب" مشيراً عليّ بالاعتماد عليه. كان مجلداً كبيراً، لكن المهم انه كانت فيه أمور تفصيلية ما كنت أحسب انني أحتاج اليها. فأنا لم أُدرّس اللغة العربية إلا سنة واحدة ولصف ابتدائي. لذلك تركت هذا الكتاب وشأنه. كنت أدرس التاريخ والجغرافية وإذا لم تكف حصص الموضوعين فهناك صف في اللغة الانكليزية وحتى في الهندسة والحساب. المهم ان نعلم 35 حصة في الأسبوع. لكنني كنت حريصاً، وأنا أعد المذكرات في التاريخ القديم وتاريخ العرب، إذ لم تكن بين أيدينا كتب مدرسية، أن تكون لغتي صحيحة. وعندما كان يطلب مني أن ألقي محاضرة في عكا أو حيفا أو يافا كنت أبذل جهدي في أن أحترم قواعد اللغة التي أحب بل أعشق. وقد وجدت، بهذه المناسبة أن قراءة النصوص الأدبية القديمة - بقدر ما كان يتاح لي من الوقت بعد الأعمال المدرسية التي قد تكون مرهقة - أمر نافع جداً. تقدمت اليكم بهذه الكلمات، لأقول لكم ان الذي سأتحدث عنه اليوم لم يكن نتيجة تقص للموضوع، ولكنه جاء نتيجة اهتمام بهذا الكتاب الذي اسمه "بحث المطالب". 4 احتفظت ذاكرتي باسم "بحث المطالب"، وعنيت بالبحث عن صاحبه، الذي ذكر على الغلاف انه كان مطران حلب للطائفة المارونية. والذي توصلت اليه هو الذي أحدثكم عنه في هذه المناسبة. مؤلف الكتاب هو جبريل بن فرحات المولود في حلب سنة 1670. وقد ترهب سنة 1694 في دير القديس أليشع، التابع للرهبنة الأنطونية، والمشيد في سفح الوادي المقدس بلبنان في جهات طرابلس. في سنة 1725 سِيم مطراناً للطائفة المارونية في حلب واتخذ اسم جرمانوس. وتوفي سنة 1732. أما الكتاب فقد أتم له تأليفه سنة 1708 وهو في الدير المذكور. وقال المؤلف الآتي: "قال مؤلفه جبريل بن فرحات الراهب الحلبي الماروني فرغت من بياض هذا التأليف في أول يوم من شهر كانون الثاني يناير سنة ألف وسبعمائة وثمان مسيحية في دير القديس اليشع... المشيد في سفح الوادي المقدس من جبل لبنان المبارك في جهات طرابلس: سورية. ولا تنسوا المؤلف من الرحمة والغفران" الطبعة الأولى للكتاب سنة 1882، مطبعة المرسلين اليسوعيين ببيروت، ص 356. ويقول المؤلف في سبب وضعه "بحث المطالب" الآتي: "أما بعد فيقول المفتقر الى ربه... جبرائيل بن فرحات القس الراهب الحلبي الماروني الحقير... لما رأيت اقبال المستفيدين من المسيحيين منصباً نحو معرفة القواعد العربية والأصول النحوية، لكن يدهم تقصر عن الوصول الى غايتها... جذبتني عند ذلك يد الغيرة الأخوية... الى إحالة الحال المعجم، وإزالة الأمر المبهم، فانقدت طائعاً... فابتدرت كاشفاً عن محيا العربية ذاك القناع الذي كان مسدولاً... وانشأت مؤلفاً ينطوي على مقدمة وثلاثة كتب وخاتمة، جمعت فيه ما تفرق من القواعد العربية تصريفاً ونحواً في كتب متعددة وأثبت منها ما كان اثباته ملزماً... ان المقصود منه نفع أولاد المسيحيين لئلا يتغربوا فيتجرّبوا، ولئلا يتعبوا فيُتعبوا...." المكان نفسه، ص 6. 5 ظل الكتاب يستعمل منسوخاً مدة طويلة. الى أن قبل أصحاب المطبعة الكاثوليكية مطبعة المرسلين اليسوعيين في بيروت أن يتحفوا طلبة اللغة العربية ب"بحث المطالب" مطيوعاً. فعهدوا الى الشيخ سعيد الخوري الشرتوني بإعداد نسخة صالحة للطبع، وهو يقول في مقدمته لطبعة سنة 1882 ان اصحاب المطبعة "علموا ان اعتوار الاقلام بالنسخ، بل تداولها إياه بالمسخ والسلخ فيما يربي على قرن ونصف قرن شوّه كثيراً من محاسنه، وكسر جانباً من صحاحه في محاصنه... تقدموا إليّ ان أقوم ما تأوّد من عبارته، وأجبر ما تكسر من صحيح صياغته...". المكان نفسه، ص 3. الى أن يقول "قال مصححه ومعلق حواشيه الفقير الى عفوه تعالى سعيد بن عبدالله بن ميخائيل الخوري شاهين الرامي الشرتوني اللبناني... وكان الفراغ من تصحيحه وتعليق حواشيه في منتصف أيار مايو سنة 1882". المكان نفسه، ص 357. وطبع الكتاب طبعة رابعة سنة 1895 في المطبعة نفسها، وأضيف الى ذلك "برخصة مجلس معارف ولاية بيروت الجليلة 211". ذلك أنه في سنة 1888 كانت الدولة العثمانية نظمت بلاد الشام وأصبح فيها ولاية حلب وولاية الشام أو سورية وولاية بيروت وسنجق القدس الشريف. وبهذه المناسبة كانت ولاية بيروت تشمل بيروت نفسها، وكانت مركز الولاية الاداري، وسناجق أو متصرفيات: اللاذقية وطرابلس وعكا ونابلس. وقد أنشئ لكل ولاية مجلس معارف كان المناط به الترخيص بطبع الكتب. وقد طبع الكتاب مرات بعد ذلك. و"بحث المطالب" فيه ثلاثة كتب: الأول تناول فيه المؤلف تصريف الأفعال وفيه 8 أقسام، وكل قسم فيه أبحاث يختلف عددها في الأقسام المختلفة وكل بحث فيه مطالِب يختلف عددها كذلك. ولأن الوحدة الأصغر في الكتاب هي المطلب، فقد وسم المؤلف كتابه ب"بحث المطالِب". والكتاب الثاني في تصريف الاسم وفيه قسمان وكذلك أبحاث في كل قسم ومطالب. أما الكتاب الثالث فيتناول قواعد النحو وفيه 11 قسماً تحوي أبحاثاً ومطالب. والنسخة من الطبعة الأولى التي رجعنا اليها مكتوب عليها بخط اليد "من كتب بطرس ساروفيم الى مكتبة ديك المحدي". وحري بالذكر ان كتاب "بحث المطالِب" اختصره المعلم بطرس البستاني في كتاب سماه "مفتاح المصباح" ونشره بالطبع باسم "مصباح الطالب في بحث المطالب". أمين نخلة، الحركة اللغوية في لبنان في الصدر الأول من القرن العشرين، الطبعة الثانية، مطبعة دار الكتب، بيروت، 1958 ص 24 - 25. وفي سنة 1900 أشرف عبدالله البستاني والخوري نعمة الله باخوس على طبع "بحث المطالب". فأضاف الأول على باب النحو في الكتاب زيادات كثيرة، وأضاف الثاني على باب الصرف ايضاحات مستفيضة. أمين نخلة. المكان نفسه، ص 26. 6 والكتاب الآخر الذي شاع استعماله منذ أن وضعه مؤلفه، ولا يزال يطبع حتى اليوم، فهو "مبادئ العربية" للمعلم رشيد الشرتوني. هكذا رسم المؤلف اسمه على الطبعة الأولى سنة 1906. وهو الكتاب الذي صاحبته وصادقته منذ سنة 1921. وهو، على ما أشرنا اليه سابقاً، في خمسة أجزاء - المبادئ ثم الأجزاء، الأول الى الرابع، ومن أن مؤلفه وضعه أولاً على شكل حوار، فإن الطبعات الأخيرة منه بدل هذا الشكل بالأسلوب العادي. ما دمنا نتحدث عن اللغة العربية في لبنان بين جرمانوس فرحات ورشيد الشرتوني، فلنشر الى ناحية أخرى مهمة من الناحية اللغوية، وأقصد الأعمال القاموسية التي تمت على أيدي البعض من الرواد في هذا النوع من "الأدوات اللغوية". يقول أمين نخلة في كتابه الذي أشرنا اليه من قبل: "... نجد أن علماء اللبنانيين تأتى لهم، يومئذ، ]أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين[ ما تأتى لأولهم في تسهيل معاجم اللغة وكتب الأوضاع. إذ لا يخفى أنه في أول النصف الثاني من القرن الغابر ]التاسع عشر[ جمع المعلم بطرس البستاني من كتاب الفيروزابي جزءي "محيط المحيط" وأضاف زيادات، وذكر مواصفات المولّدين، واصطلاحات العلوم وأورد ألفاظاً عامية فسّرها بألفاظ فصيحة، وأوضح طائفة من أصول الألفاظ الأعجمية وقرب النبش بالتصنيف على الحرف الأول من الثلاثي المجرّد، ثم اختصر كتابه في جزءي "قطر المحيط"، وان الشيخ سعيد الشرتوني ]وهو الذي صحح كتاب "بحث المطالب" وأعده للنشر سنة 1882[ جمع بعد ذلك "أقرب الموارد الى فصيح العربية والشوارد" في جزءين، معتمداً فيه طريقة "محيط المحيط" لبطرس البستاني ثم ألحق به ذيلاً استدرك فيه أموراً وأوعب جانباً من الكلمات التي شردت من المتون". ص 17 و18. وتلى ذلك "معجم الطالب" لجرجس همام سنة 1907، و"المنجد" للأب لويس المعلوف 1908، وهو أول معجم عربي مصور. وقال الأب انستاس الكرملي ان "أقرب الموارد" و"معجم الطالب" هما النسختان الثانية والثالثة من "محيط المحيط". أمين نخلة، المكان نفسه، ص 19. من هنا نرى أن لبنان تم فيه أول كتاب حديث في قواعد اللغة العربية، وأول المعاجم الحديثة. "وقد كانت المدارس ]في لبنان وسواه[ على اختلاف أديانها تعلم اللغة في الكتب القديمة كالآجرومية وابن عقيل والاشموني والصبان والحريري" امين نخلة، المكان نفسه، ص 27. وهكذا أصبح بامكان الطلاب، عندئذ، أن يقرأوا قواعد اللغة العربية في كتب حديثة، ويبحثوا عن الكلمات في معاجم جديدة. * الكلمة التي ألقاها نقولا زيادة في حفل "الأيام اللبنانية" الذي أقامته السفارة اللبنانية في القاهرة أيام 2 و3 و4 من أيار مايو 2000 في المسرح الصغير في دار الأوبرا المصرية.