سقط آل غور مرشح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2000 أمام منافسه الجمهوري جورج بوش، وتغيرت ملامح العالم تبعاً لذلك، ودخلت العلاقات الإيرانية - الأميركية مرحلة جديدة. كان السائد في العلاقات الدولية أن الدول المؤسساتية، أي التي يصنع القرار فيها مؤسساتياً مثل الولاياتالمتحدة، لا تغير سياساتها جذرياً بتغير الجالس في المكتب البيضاوي. لكن انتخاب بوش هز ما ساد واستقر في الولاياتالمتحدة والعلاقات الدولية، إذ لم تلبث أحداث 11 أيلول سبتمبر أن وقعت، فاندفعت الإدارة الجمهورية الجديدة في "الحرب المقدسة على الإرهاب". وبمقتضى هذه الحرب ضربت القواعد المستقرة للعلاقات الدولية في مقتل، بعد ضرب برجي نيويورك، فشنت الحروب من على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات وبالتحديد على مناطق الجوار الجغرافي لإيران، أي في أفغانستان. وتغيرت صورة المنطقة لأن القوات الأميركية التي غزت أفغانستان للقضاء على تنظيم "القاعدة"، صارت بحكم الجغرافيا السياسية جاراً مباشراً لإيران، إذ بدأت التوازنات الإقليمية وموازين القوى بين دول المنطقة، التي استقرت قبل هذه الحرب، في الاهتزاز والتغير. صحيح أن الولاياتالمتحدة كقوة عظمى كانت موجودة منذ فترة بعيدة في المنطقة المحيطة بإيران، إما عن طريق التحالفات الإقليمية أو القواعد العسكرية، لكن عديد قواتها واستمرارها في البقاء في أفغانستان خلق وضعاً جديداً من الناحية الاستراتيجية. ثم جاءت الحرب على العراق واحتلاله من القوات الأميركية - البريطانية لتخلق وضعاً غير مسبوق، ليس فقط لأنها المرة الأولى التي تحتل أميركا دولة عربية احتلالاً عسكرياً، ولكن أيضاً لأن واشنطن تحت حكم الجمهوريين صارت "جارة" لإيران من كل الجهات الجغرافية. إذ تحتل القوات الأميركية أفغانستان من جنوبإيران الشرقي والعراق من غربها، فضلاً عن الوجود العسكري الأميركي في باكستان إلى الجنوب الغربي منها، وفي مياه الخليج في الجنوب، وتركيا في الشمال الغربي وأذربيجان في الشمال، وليس آخراً دول آسيا الوسطى في الشمال الشرقي. فاق الجمهوريون ما ذهب إليه الديمقراطي بيل كلينتون من قصف لأفغانستانوالعراق "تأديباً" ل"القاعدة" وصدام حسين، إذ أن القصف، مهما اشتدت ضراوته، لا يحتل الأراضي ولا يغير بالتالي التوازنات الإقليمية القائمة. وأطاحت واشنطن في كل من العراقوأفغانستان بنظامين عدوين لإيران، الأول خاض حرباً مدمرة ضدها لثماني سنوات والثاني قتل دبلوماسييها وناصبها العداء المرتكز على منطلقات طائفية، فأصبحت امتدادات طهران السياسية والطائفية في العراقوأفغانستان في وضع الرابح المحلي بسقوط نظامي صدام و"طالبان". وجاء تغير الأثقال الاستراتيجية في المنطقة المحيطة بإيران ليفتح الباب أمام أخطار تهددها، ولكنه أتاح لها الفرصة في الوقت نفسه لاستثمار هذه المتغيرات التي أحدثتها القوة العسكرية الأميركية تحت حكم الجمهوريين. وأدى التغير في الوضع الستاتيكي في المنطقة، إلى انتعاش الطموحات الإيرانية للعب "دورها الإقليمي" الذي تتوق تاريخياً إليه، إذ كانت طهران في حال حصار سياسي واقتصادي وإقليمي خلال حكم كلينتون. ولأن القوى العظمى، والولاياتالمتحدة أبلغ مثال عليها، لا تخوض الحروب لذاتها، بل لتحقيق المصالح الاستراتيجية التي ترخص الدماء في سبيلها، فإذا ما تحققت تلك المصالح من طريق الحلفاء والوكلاء، ومن دون خسائر بشرية ومادية عليها، انتفت الحاجة إلى الأعمال العسكرية. انطلق التخطيط الاستراتيجي لصناع القرار في واشنطن من فرضية أن احتلال العراقوأفغانستان لم يكن ليتم من دون تدخل القوات المسلحة الأميركية، وأخذ العامل الإيراني من وقتها يزيد أهمية، لأن إيران، إذا تعاونت، يمكن لها تحقيق المصالح الأميركية، أما إذا أحجمت بفعالية، فيمكنها - نظرياً - عرقلة هذه المصالح بحكم وجودها الجغرافي وامتدادها الطائفي في العراقوأفغانستان. وواشنطن بسبب مأزقها الحالي في العراق وتورط قواتها هناك، لا تملك ترف المضي في حصار إيران والتضييق عليها من بعد وبنفس طويل كما فعلت إدارة كلينتون، فأصبحت خياراتها تجاه إيران محدودة بطريقين فقط: إما الاندفاع نحو إيران وتغيير نظامها السياسي بالقوة العسكرية للخروج من مأزقها العراقي، وهي مغامرة غير مضمونة العواقب لأنها توسع الجبهات العسكرية نوعياً وكمياً مما يفقدها السيطرة على هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة ولا يجعلها تتحكم بالنتائج، أو اعتماد الحل الثاني وهو التفاهم مع طهران شريكاً إقليمياً قوياً يضمن مصالحها ويقلل خسائرها ويثبت الوضع الجديد إقليمياً، وهو الاحتمال الذي يبدو محتملاً الآن. وتبرز إيران كشريك مفيد استراتيجياً لواشنطن في هذه المنطقة من العالم عبر حضورها الجغرافي وامتدادها الطائفي، حيث تملك رصيداً إقليمياً لا يبارى على الأرض العراقية" فاضافة الى علاقاتها التاريخية مع الأكراد هناك العلاقات الديموغرافية والطائفية المتداخلة مع شيعة العراق الذين يشكلون غالبية سكانه. كما أن إيران لا تعتبر بالضرورة أن تحالفها في مجال السياسة الخارجية مع روسيا مقدس، بسبب تضارب مصالح موسكووطهران في موضوع تقاسم نفط بحر قزوين بين الدول المطلة عليه ومسألة صراع النفوذ على دول آسيا الوسطى السوفياتية السابقة. ولا تفوت ملاحظة اعتبار على قدر كبير من الأهمية الاستراتيجية لصانع القرار في طهران الراغبة في فرض دورها الإقليمي، وهو ضرورة الانضواء تحت المظلة الدولية التي تسقف عمليات الحراك الإقليمي لجعل دورها ممكناً، إذ أن إيران ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي، هي القوة الإقليمية الوحيدة في المنطقة التي لا تتحالف مع واشنطن، مقارنة بالقوى الإقليمية المنافسة في الهندوباكستان وتركيا ومصر والسعودية، مع اختلاف الأوزان. يطرح العراق نفسه وبمنطق تسلسل الأحداث ساحة للتفاهمات بين المحافظين الإيرانيين والجمهوريين الأميركيين، نظرياً على الأقل، حيث تحتاج طهران إلى سماح وموافقة أميركيين لفرض دورها والانخراط في مشاريع المنطقة كقوة إقليمية معترف بها من القطب العالمي الأوحد. ولهذا تكررت الإشارات الإيرانية نحو واشنطن، بهدف تعزيز التفاهم الذي يضمن لإيران دوراً إقليمياً متميزاً، وبالأخص بعد انتخاب جورج بوش، الذي تمنى صانع القرار في طهران أن يفوز بانتخابات الرئاسة الأخيرة، وفقاً لما صرح به حسن روحاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني. ثم جاءت المشاركة الإيرانية في مؤتمر شرم الشيخ لتوافق مع بقية دول جوار العراق على بيانه الختامي الذي اعتبر أن أعمال المقاومة في العراق تندرج تحت خانة الإرهاب. وتؤيد إيران إجراء الانتخابات العراقية في موعدها تماماً مثل إدارة جورج بوش، وتتفق كل من طهران المحافظة وواشنطن الجمهورية على تعديل تركيبة السلطة في العراق وبسرعة: الأولى تريد تثبيت الغالبية الشيعية في مؤسسات الحكم ومن ثم مراكمة أوراق قوة إقليمية، والثانية إبرام اتفاقات قانونية ملزمة للعراق تخدم مصالحها ولكن مع حكومة منتخبة ومعترف بها دولياً. ولا يبدو الاختلاف بين الطرفين في موضوع الملف النووي الإيراني عائقاً كبيراً أمام العلاقات الثنائية بين طهرانوواشنطن، بسبب كونه هو الأخر أحد أوراق المساومات الاستراتيجية بين الطرفين. وفي وقت تريد أميركا تسييس هذا الملف وإخراجه من الطابع التقني الحقوقي، ومن ثم إدخاله بنداً للضغط على إيران في ملفات آخرى يتقدمها العراق، يحاور المحافظون الإيرانيون ببراعة الأطراف الأوروبية الثلاثة التي تفاوضهم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا كبوابة لمراوغة ضغوط واشنطن التي يستهدفونها برسائلهم السياسية. فالمحافظون الإيرانيون يداعبهم الدور الإقليمي لإيران والمتعزز بإمكانات نووية، أي وضع الملف النووي على طاولة المفاوضات مع واشنطن لمقايضته بدور إقليمي، وهنا يلتقي الطرفان من جديد أيضاً في تسييس الملف النووي، على العكس مما يبدو على السطح. دشنت طهران، ومنذ السنة الأولى لثورتها، سابقة تاريخية وشت بارتياحها إلى إبرام الصفقات والمساومات مع الجمهوريين الأميركيين، إذ يجب التذكير في هذا السياق بأن الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر هو الذي قام بعملية إنزال فاشلة لتحرير رهائن السفارة الأميركية في طهران، وأن طهران بقيادة الإمام الخميني هي التي ماطلت في تسليم هؤلاء الرهائن حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 1980 حتى تضمن فوز الجمهوريين على الديموقراطيين، وهو ما حدث بفوز الرئيس رونالد ريغان. واضافة إلى عامل السابقة التاريخية وعامل المصالح الاستراتيجية ومساوماتها بين الطرفين، وهو العامل الأساس في العلاقات الثنائية الإيرانية - الأميركية، تتشابه المنظومة القيمية وللمفارقة بين كل من طهرانوواشنطن في عهد بوش في ركن مهم وهو "المهمة الإلهية" المنوطة بكل طرف، بحسب ما يعتقد، وتصب هذه الحقيقة ربما في مصلحة سيناريو التقارب وتقاسم النفوذ والأدوار بين كل من طهرانوواشنطن في الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة. فطهران لم تعدم وجود مثل هذه "المهمة الإلهية" منذ قيام دولتها الدينية قبل ربع قرن طبقاً لنظرية ولاية الفقيه، وواشنطن تختبرها للمرة الأولى في مقاعد الحكم وفقاً لبروتستانية متشددة يمثلها بوش وجماعة المحافظين الجدد. وهنا تلتقي رغبة كل من الفريقين في تنفيذ هذه "المهمة الإلهية" عبر "تسييس الدين" في إيران و"تديين السياسة" في الولاياتالمتحدة، التي تتجه بمعدلات سرعة فائقة تحت إدارة بوش إلى هذا المنحدر. تتأسس العلاقات الأميركية - الإيرانية تاريخياً على أرضية المصالح الاستراتيجية وتنهض على "الدور الإقليمي" لإيران الذي تسمح به واشنطن وفقاً لمصالحها هذه، وهي علاقات متشابكة المداخل ومعقدة المخارج، تعتمد أساساً على هذا الدور وذلك السماح، اللذين يتحكمان بمسارها صعوداً وهبوطاً، مع وجود اعتبارات إضافية متنوعة تعزز أو تقلص فرص التلاقي، وهي ليست علاقة اعتماد متبادل اعتيادية، مثل بقية العلاقات الثنائية، بحيث يمكن متابعة علامات سيرها السابقة وبالتالي استنتاج مراميها اللاحقة. إذ أن التقلب الشديد في مسارها بدءاً من نصف القرن الماضي وحتى الآن، يجعل من عملية استشراف المستقبل لهذه العلاقات أمراً مستعصياً في كثير من الأحيان. وعلى رغم تقلب المسار وتناوب فترات التقارب والتباعد، ظلت العلاقات الإيرانية - الأميركية مفتوحة دوماً على احتمالات التغير، بسبب كونها مسكونة بهاجس "الدور الإقليمي" لإيران. وبالاستناد على العوامل التاريخية والمصالح الاستراتيجية للطرفين حالياً تبرز فرضية مؤداها أن الخطاب السياسي الرسمي في الحالة الإيرانية - الأميركية، تحت حكم المحافظين الدينيين في إيران والمحافظين الجدد في واشنطن، لا يعكس بالضرورة، دلالات تطور العلاقات الثنائية أو تدهورها، إذ يعد هذا الخطاب أساساً مؤشراً على حال المساومات الاستراتيجية بين البلدين، والتي انفتح مزادها في العراق الآن أكثر من أي وقت مضى. * رئيس تحرير مجلة "شرق نامه"، القاهرة.