مرة اخرى ينزع ملك البحرين فتيل الاحتقان السياسي في البلاد بالمرسوم الذي اصدره بإطلاق الناشط الحقوقي عبدالهادي الخواجة، بعدما اصدرت في حقه المحكمة الصغرى الجنائية الثالثة حكماً بالسجن عاماً احداً من بعد جنائي تجريمي، ورفضت تحويل القضية الى الشق الدستوري المتعلق بالطعون الدستورية التي قدمها محامو الخواجة في المادة 165 من قانون العقوبات. موقف الملك يأتي من باب خلق التوازن في الحال السياسية، باستخدام صلاحياته كرأس السلطات جميعاً وفق دستور 2002 لتثبيت هذا التوازن كلما اقترب الوضع السياسي من الانفلات، وهو موقف لا يمكن لأي طرف إلا ان يثمنه. إلا ان هناك مجموعة اعتبارات موضوعية تتداخل في قضية الخواجة، وتعلق جرس الإنذار في شأن القوانين المقيدة للحريات والتعسف في استخدامها من جانب السلطة التنفيذية، ومحاولة تجييرها سياسياً لمصلحة اطراف من دون ان تأخذ العدالة مجراها. هذا الشق من قضية الخواجة ليس المعني به الخواجة وحده، فالرجل افرج عنه اذا كان الإفراج في حد ذاته غاية عند بعضهم، وإنما المعني به كل السياسيين والإعلاميين والمشتغلين في هموم هذا البلد. فهذه القوانين المقيدة للحريات، ومن ضمنها قانون العقوبات هي التي تعني السياسيين والإعلاميين بالدرجة الأولى. وكانت محاكمة الخواجة بناء على المادة 165 من قانون العقوبات إنفاذاً لهذا القانون، وتأكيداً على استخدامه ضد كل السياسيين مستقبلاً، وهذا ما لا يستطيع التصرف فيه الملك، مع انه يعارض صراحة دعوته الأخيرة في افتتاح دور الانعقاد الثالث للمجلس الوطني الى إزالة القوانين المقيدة للحريات والتطوير والتنمية، وهذا ما لم تعه بعد القوى السياسية بوقوفها موقف المتفرج من قضية الخواجة، حتى على مستوى الشق القانوني، وليس ما اختلف مع الخواجة في شأنه في ما يتعلق بالشق السياسي. انها أزمة في الفهم الدقيق لطبيعة حقوق الإنسان في المستوى الكلي والمفاهيمي الذي يحرك واقع الدفاع عن المظلومين بلا استثناء على المستوى المحلي. فما الذي يجبر المنظمات الحقوقية الدولية، الأهلية منها والرسمية الدفاع عن سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين في كل انحاء العالم بلا استثناء، مع انها لا ترتبط معهم برابطة روحية او ايديولوجية او سياسية؟ انه البعد المفاهيمي العميق لحقوق الإنسان بعيداً من الخلاف السياسي او اختلاف الآراء. فقد اعتبرت منظمة العفو الدولية الخواجة "سجين رأي" بمعنى ان اعتقاله من الأساس محرم في الشرعة الدولية، في حين زايد من زايد على قضيته، وكأنه يريد ان يشعل ناراً لا ندري في اي اتجاه يريد اشعالها، فضلاً عن الصمت المريب الذي ساد بعض الأوساط السياسية المعارضة، وهي بذلك تكيل بمكيالين في تأسيسها للدفاع عن حقوق المواطنين الفردية والجماعية، وتنظر الى المفهوم الحقوقي من دائرة الحب والبغض والقرب والبعد، وهو ما ترفعت عنه الشرعة الدولية ومؤسساتها الحقوقية وناشطوها في كل انحاء العالم في دفاعهم عن المظلومين. من هنا، يجب تقرير مجموعة مبادئ اساسية منطلقة من دعوة الملك الى إزالة القوانين المقيدة للحريات والتنمية والتطوير، وهو الشق الثاني لتداعيات قضية الخواجة، اي البعد القانوني للقضية، لأن الشق السياسي حسم بالعفو، والحال ان الشق الأول يحتاج الى مزيد دراسة، لأن السياسيين تحديداً لم يعوه جيداً، كما انهم لم يعوا الإشكالية الدستورية جيداً، وما زالوا يتخبطون في خيارتهم في شأنها، وهو امر يحتاج الى مزيد من تسليط الضوء عليه، خصوصاً ان قضية الخواجة اعطتنا الدرس تلو الدرس في الدفاع عمن نختلف معهم سياسياً، إذا كانت قضيتهم عادلة ومشروعة ودستورية، وفي الإطار السلمي. اولاً: يجب التأكيد ان قانون العقوبات الذي حوكم الخواجة على اساسه، وغيره من القوانين المقيدة للحريات، هي قوانين باطلة دستويراً، والطعون فيها لا تحتاج الى كثير جهد، لأنها تخالف ابسط المبادئ الدستورية التي تنظم حقوق الإنسان. وفي حال إقرار هذه المعادلة، يجب إقرار معادلة اخرى لا تقل اهمية عنها، وهي: ان محاكمة الخواجة في الشق الجنائي بكل اركانها، ومن اهمها عدم تقديم دعوى ضده من شخص بعينه. هذه المحاكمة بناء على هذه القوانين الباطلة دستورياً هي محاكمة باطلة. وأقر بهذا البطلان محامو صحيفة "الوسط" البحرينية حينما قدموا طعوناً دستورية في القوانين الثلاثة الصحافة، السلطة القضائية، الإجراءات الجنائية في القضية التي رفعت ضدها امام المحكمة الجنائية الكبرى جراء نشر خبر "الخلية"، ومثل ذلك فعل محامو نشرة "الديموقراطي" التابعة لجمعية العمل الديموقراطي الجبهة الشعبية سابقاً، فأسسوا بذلك لعرف قانوني ذي دلالة عميقة في النظر الى قضايا الرأي العام، وهو رفض المحاكمة على اساس جنائي، وتحويل المسألة الى البعد الدستوري لعدم التوافق السياسي والدستوري على القوانين التي يحاكم بها السياسيون والإعلاميون. وكما منح حق الطعن الدستوري في الإطار غير المباشر الى "الوسط" و"الديموقراطي"، فيجب ان يمنح لغيرهما، لأنه المتنفس الوحيد والمحدود للقوى السياسية لتصحيح الوضع السياسي والقانوني المعقد، في ظل عجز السلطة التشريعية عن القيام بمبادرة الطعن المباشر في هذه القوانين، وصولاً الى اختصار الآلية الدستورية المعقدة، كون قبول الطعن يعني الإلزام بإقرار قانون بديل من القانون المطعون فيه في ظرف ثلاثة اشهر. وعليه، فإن رفض طعون محامي الخواجة الجدية في المادة 165 من قانون العقوبات يعد سابقة خطيرة في التضييق على الخيارات القانونية للأفراد والمواطنين بغية تحقيق العدالة التامة لهم إذا ما مثلوا امام العدالة، وهي سابقة يمكن تكرارها مع كل سجين رأي او من ترغب السلطة باعتقاله، هروباً من الشق القانوني الى الشق الجنائي، فقط لكون هذا السجين معتقلاً بإرادة السلطة التنفيذية، ولهذا، فإنها لا تسعى لتحقيق شروط العدالة في محاكمته، ولا الى خلق تكافؤ على مستوى الخيارات القانونية، وهذا ما يجب ان يحاربه كل السياسيين والإعلاميين والنشطاء في البحرين، لأنهم معنيون به، ويمكن ان يكونوا في موضع الخواجة في يوم من الأيام. ثانيا: بات واضحاً ان القوانين المقيدة للحريات عائق اجرائي خطير في سبيل تحقيق اصلاحات حقيقية جدية، وتجلى هذا الفهم اكثر وقت الأزمات حينما تستخدم السلطة التنفيذية اسحلتها القانونية للتضييق على الحريات، ومن ضمنها ترسانة قوانين امن الدولة، وعليه ينبغي ان يجاهر السياسيون برفض محاكمة الخواجة في الشق الجنائي على اساس قانون العقوبات، بل عليهم رفض قانون العقوبات نفسه. وأصدق مثال على كون هذا القانون غير صالح في عهد الإصلاح هو العفو الملكي الذي جاء في ظرف اقل من يوم بعد إصدار الحكم بالسجن، فالعفو يحمل في طياته بذور النقض الفعلي لهذا القانون وحاكميته. ثالثاً: ربما تريد الحكومة إدخال المعارضة في اللعب الهامشية لتناسي القضية الأساس، وهي الأزمة الدستورية، ومن ضمنها تلهي الحكومة مع المعارضة عبر تمرير قوانين العسف السياسي والأمني مثل قانون "التجمعات العامة" وقانون "الجمعيات السياسية" في سبيل إشغالهم عن الأزمة الدستورية، وتأخير الحل في شأنها حتى اقتراب موعد الاستحقاق النيابي عام 2006، حيث تضيق الخيارات بين المشاركة والمقاطعة، ويكون الضغط حينها على المعارضة اكبر. وفي اتجاه مضاد لهذا التوجه، يجب ان تفكر الجمعيات المقاطعة في تدشين مواجهة شاملة مع كل القوانين المقيدة للحريات عبر آليات عملية، ومنها الطعون الدستورية، فإلغاء القوانين المقيدة للحريات هو بداية تكافؤ موازين القوى بين المعارضة والسلطة، وتوسيع الخيارات القانونية والسياسية في قبال الخيارات الأمنية السابقة، وعدم السماح للسلطة التنفيذية بأن تجور على الحياة السياسية من خلال استخدامها لترسانة القوانين التي بجعبتها، ما يفتح المجال الى استشفاف الأزمة الدستورية في شكل أوضح بعد انتهاء مسببات الحواجز الدستورية التي ثبتها دستور 2002 أمام إنقاذ الشعب لارادته. رابعاً: يختلف الكثيرون حول صلاحيات المؤسسات الدستورية، ولكنهم لا يختلفون على تجريبها بغية الوصول الى نتائج يقينية في شأن ما اختلفوا في شأنه، ومن هذه المؤسسات المؤسسة التشريعية في اطارها الحالي الذي رسمه لها دستور 2002، وبالنظر الى دعوة الملك الى إزالة القوانين المقيدة للحريات والتي خاطب بها المجلسين، فإن ازالة هذه القوانين غير ممكنة من الناحية التقليدية، والتي تعني تعديل القوانين وفق الآلية الحالية الطويلة والمعقدة، والتي تحتاج بحسبة رياضية صحيحة وحسبة سياسية تراقب وضع السلطة التنفيذية الحالي، الى عشرات السنوات، في حين ان النواب الى الآن لم يستخدموا آلية الطعن الدستوري في القوانين المقيدة للحريات، مع انهم يملكون حق الطعن المباشر. لذلك على النواب ان يبرهنوا عملياً رغبتهم الجدية في إنفاذ ارادة الملك في إزالة القوانين المقيدة للحريات، بعيداً من الخلاف الدستوري الذي هو أعمق من هذه الجدلية الجزئية. وعليهم ان يتمسكوا باستخدام كامل حقوقهم الدستورية في الطعن في القوانين المقيدة للحريات بغية تجريب المؤسسات الدستورية الحالية، ووضعها على محك الاختبار، والاثبات للناس انهم يستنفدون كل الوسائل والأدوات الدستورية للدفاع عنهم، حتى في اطارها المحدود، فالحديث عن احترام النواب حتى مع الخلاف معهم أو تهميشهم لا يأتي من فراغ، وإنما من واقع عملي ترصده عين الناس التي تراقب أدق التفاصيل في حركة النواب. انتهى الشق السياسي لقضية الخواجة بالافراج عنه، وبقي الخيار القانوني المتعلق بالقوانين المقيدة للحريات معقداً في انتظار ارادة الحل من القوى السياسية الفاعلة على الساحة السياسية البحرينية، فالحكم على الخواجة في الشق الجنائي وفق قوانين مطعون في دستوريتها يجب ان يحارب ويرفض ويواجه بآليات عملية من جانب المعارضة، لأنه جرس إنذار لكل السياسيين. * كاتب بحريني.