اقترح الرئيس جورج بوش، بحس رجل أعمال سابق وشيء من الدعابة، صفقة تضع نهاية لمخاوف العالم من آثار عجز الحساب الجاري الضخم الذي تعانيه أميركا ويهدد مستقبل الدولار وأسعار الفائدة. وقال:"من يخشى عجزنا التجاري ليُقبل على شراء بضائعنا". وجاء الاقتراح، غير المعهود من رئيس أكبر دولة واقتصاد، متزامناً مع اطلاق صندوق النقد الدولي تحذيراً شديد اللهجة من احتمال انهيار الدولار وبعد يوم واحد من اعلان وزارة التجارة الأميركية تسجيل عجز تجاري قياسي في تشرين الأول اكتوبر الماضي. سيطرت روح الدعابة على جانب من مؤتمر صحافي عقده بوش، بعد محادثات مع رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني في البيت الأبيض الأربعاء، لافتاً الى أن ضيفه أعرب عن قلقه من الارتفاع القياسي لسعر صرف اليورو مقابل الدولار وتعهد الرئيس الأميركي بالعمل مع الكونغرس للسيطرة على عجز الموازنة المالية وتخفيف الضغوط عن الورقة الخضراء مشدداً :"ان سياسة حكومتي هي سياسة دولار قوي". لكن عندما قالت المترجمة الايطالية إنها لم تسمع عبارته الأخيرة قال بوش معلقاً:"لعلها لم تتفق معي في الرأي". ولم يأت"التعليق- الدعابة"عفوياً اذ تؤكد غالبية الاقتصاديين الأميركيين أن أسواق الصرف، وأسواق المال عموماً، تبدو مقتنعة بأن ادارة بوش تؤيد عملة وطنية قوية في العلن وتريد في السر أن يستمر الدولار بالتراجع، الذي بدأه فعليا منذ ما يزيد على عامين، كوسيلة لمعالجة العجوزات التجارية والمالية الأميركية. ولم يكن كذلك من المصادفه أن صندوق النقد اعتبر شكوك الأسواق سبباً جوهرياً للتحذير من"نكبة"و"كارثة"تنتظر النظام المالي الدولي. اجراءات مقنعة وحاول بوش مخاطبة الشكوك عندما التزم أمام المؤتمر الصحافي"فعل كل ما باستطاعتنا مع الكونغرس لارسال اشارة الى الأسواق بأننا سنعالج عجزنا عجز الموازنة المالية ويحدونا الأمل بأن ذلك سيرغب الناس باقتناء الدولار". وأضاف"هناك أيضا عجز تجاري لكن حله بسيط اذ بامكان الناس شراء المزيد من البضائع الأميركية اذا كانوا قلقين ازاء العجز التجاري". الا أن كبير الاقتصاديين في صندوق النقد راغو راجان شدد على أن طمأنة الأسواق تحتاج الى اتخاذ"اجراءات مقنعة". وكان بوش تعهد بخفض عجز الموازنة الذي بلغت قيمته في السنة المالية 2004 نحو 413 بليون دولار، ما يعادل 3.6 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، الى النصف 1.6 في المئة من الناتج في خمسة أعوام، بيد أن معهد السياسة الاقتصادية الأميركي، استنتج في دراسة تحليلية نشرها أخيراً أن تمسك ادارة بوش بسياساتها المالية، خصوصاً بنود خفض الضرائب والانفاق الأمني، سيعني بأن عجز الموازنة لن يتغير كثيراً بحلول سنة 2009. واضافة الى أزمة العجز المالي أكد المعهد أن العجز التجاري تفاقم لدرجة أن الولاياتالمتحدة أصبحت الآن تقترض 665 بليون دولار سنوياً لسد فجوة خطيرة في ميزان مدفوعاتها، مشيراً الى أن هذا الاقتراض الهائل الذي يصل نصيب الاسرة الأميركية الواحدة منه الى 5.500 دولار يرتب أعباء خطيرة على الاقتصاد الأميركي ومن شأنه أن يرفع حجم الدين الخارجي للولايات المتحدة بما يعادل 24 في المئة من الناتج المحلي لعام 2003 الى 64 في المئة بحلول سنة 2014 من دون أعباء خدمة الديون الجديدة المتراكمة في الفترة من 2004 الى 2014 التي يتوقع أن تصل الى 250 بليون دولار سنوياً. وتناول راجان الانعكاسات الدولية لفجوة ميزان المدفوعات الأميركي، خصوصاً المتعلق منها بأسعار صرف الدولار، وقال في"مؤتمر المال والمصارف الاسترالي- الآسيوي"في سيدني، ان"مخاطر هبوط الدولار بشكل غير منتظم سرقت الأضواء بعدما تحولت كل الأنظار فجأة الى عجز الحساب الجاري الأميركي الضخم". ولفت الى أن العجز الأميركي بدأ مساره الهابط فعلياً في بداية التسعينات وتسارع هبوطه منذ عام 1997 لكن اعتقاد المتعاملين في الأسواق الآن بأن هذا العجز سيستمر بالازدياد أثر في أسعار الصرف. وأوضح أن أسعار صرف الدولار وعلى رغم انخفاضها بحدة في العامين الماضيين لا تزال أقل من المستويات التاريخية التي سجلتها في منتصف التسعينات خصوصاً مقابل مجموعة العملات التي شكلت اليورو في وقت لاحق وكذلك الين بيد أنه أكد ان هبوط الورقة الخضراء يثير القلق ويتعين النظر اليه على أنه جرس انذار للحكومات التي لا بد أن تتخذ الخطوات الضروروية لمعالجة اختلال وضع الحسابات الجارية للتكتلات التجارية الكبرى:"الولاياتالمتحدة ومنطقة اليورو وشرق آسيا". استراتيجية دولية وحدد كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الخطوات الضرورية المشار اليها في"استراتيجية دولية"قال إنها تخدم المصالح الفردية للدول وتضمنت بنودها حض الولاياتالمتحدة على زيادة معدل ادخارها الوطني لتخفيف اعتمادها على التدفقات الاستثمارية الدولية وكذلك دعوة أوروبا واليابان لحفز استهلاكها المحلي لتقليل اعتمادها على التصدير الى السوق الأميركية اضافة الى حض الصين وبعض الاقتصادات الآسيوية الناشئة الأخرى على تبني سياسات أسعار صرف أكثر مرونة. وقال:"ان نصيحة صندوق النقد واضحة. في الولاياتالمتحدة المطلوب اتخاذ اجراءات مقنعة لتثبيت الأوضاع المالية مصحوبة بتشجيع نمو الادخار. وفي منطقة اليورو واليابان يتعين تركيز الجهود في تطبيق الاصلاحات الهيكلية وزيادة المرونة وحفز الطلب المحلي. وفي آسيا يتعين على الاقتصادات الناشئة تبني أسعار صرف أكثر مرونة للمساعدة على تخفيف سخونة النشاط الاقتصادي وكذلك العمل على اصلاح القطاعات المالية لرفع مستوى الاستثمار ونوعيته وتقليل الحاجة للادخار". وذكر راجان في كلمته، التي عرضت نتائج دراسة اقتصادية نشرها صندوق النقد في موقعه بالتزامن مع المؤتمر الصحافي للرئيس بوش، أن الهدف المأمول تحقيقه من الاستراتيجية المقترحة يتمثل في أن تخفض الولاياتالمتحدة عجز حسابها الجاري من 5.5 في المئة من الناتج المحلي في الوقت الحالي الى 3 في المئة، ما وصفها نسبة مستدامة في المدى المتوسط، وأن يحدث تعديلات موازية في الحسابات الجارية للدول ذات الفوائض. وحض كبير الاقتصاديين الدول المعنية بالعمل على ازالة الاختلالات الدولية على عدم الانشغال بتبادل الاتهامات وحذر من أن التقاعس عن اتخاذ الخطوات المطلوبة ينذر بحدوث"نكبة"وربما"كارثة"في أسواق الصرف، مشدداً في المقابل على أن الاستثمار الدولي الخاص الذي حمل حتى الآن العبء الأكبر في تمويل العجوزات الأميركية، عندما يرى من الحكومات سياسات مقنعة من شأنها تخفيف حدة هذه الاختلالات سيُدرك بأن الانخفاض المطلوب في أسعار صرف الدولار في الفترة المقبلة ليس كبيراً وسيكون على استعداد لاقتناء الأصول المالية الأميركية والاحتفاظ بها. وقال، في صرخة حملت مزيجاً من القنوط والرجاء،"اذا استمرت الأسواق بالتشكيك في جدية واضعي السياسة بالعمل على معالجة الاختلالات الدولية لن ينتظر المستثمرون طويلا حتى يتم الوفاء بالوعود ومن أجل الاقتصاد الدولي نحتاج الى اتخاذ خطوات عملية".