للعمليات التي تنفذها "جماعة التوحيد والجهاد في العراق"التي يتزعمها ابو مصعب الزرقاوي صدى مختلفاً في بعض مدن الأردن، فهذه الشبكة وان انخرط عراقيون في انشطتها فإن العمود الفقري لها شباب اردنيون "خرجوا" للجهاد. بعضهم اردني ولكنه جاء من افغانستان، وبعضهم التحق بأخوانه من الأردن. الزرقاء والرصيفة والسلط، انها المدن التي ارسلت عدداً من ابنائها الى العراق. "خرج" هؤلاء برفقة ابو مصعب ، بعضهم قتل وبعضهم عاد وبعضهم ما زال في العراق، وكثير من هؤلاء ينتظرون اليوم في المدن الأردنية فرصة ل"الخروج" الى العراق. "الحياة" زارت هذه المدن وتمكنت من لقاء عدد من الأفغان الأردنيين الذين عادوا من معسكر هيرات، اضافة الى "مجاهدين" من رفاق ابي مصعب الزرقاوي ومريديه، وذلك على مدى ايام رصدت خلالها طبيعة هذه الظاهرة عبر لقاءات مباشرة مع عدد من الناشطين "الجهاديين" وعبر مشاهدات وملاحظات ومقارنات. نبدأ اليوم بنشر سلسلة من ثلاثة تحقيقات من الزرقاء والرصيفة والسلط، تتناول ظاهرة السلفيين الجهاديين الذين يغذون يومياً ما يطلق عليه "الجهاد في العراق" بشبان وناشطين، تطاردهم السلطات، وتراقبهم اجهزة الأمن، ولكن وعلى رغم ذلك يواظب هؤلاء على اشهار رغباتهم في "الخروج" الى "الجهاد". للناظر اليها من الطريق الدولية المؤدية الى الحدود مع سورية والعراق والمملكة السعودية، تبدو مدينة الزرقاء الأردنية ومخيماتها كتلاً اسمنتية متراصفة ومؤلفة مشهداً عمرانياً كثيفاً تغور ملامحه في موجاتٍ غبارية تبثها المصانع والمعامل الكثيرة المنتشرة في المنطقة. انها مدينة الزرقاء التي يجاورها مخيم الرصيفة للاجئين الفلسطينيين، عاصمة الحركة السلفية الجهادية في الأردن ومنبتها، والمدينة التي تربى ابو مصعب الزرقاوي في احد احيائها وخرج منها الى ساحات "الجهاد" في افغانستان اولاً ثم في العراق. تلال واطئة تتكاثف على منحدراتها المنازل المرتجلة، فتضيع الحدود بين المخيمات وبين احياء المدينة بحيث يصبح عسيراً فهم التمييزات التي يطلقها السكان على احيائهم ومنازلهم. في منزل واحد منهم في مدينة الزرقاء، التقى "المجاهدون" السلفيون في ذلك النهار المشمس من الأسبوع الفائت. لا يبدو ان لقاءهم كان مفتعلاً، فهم كما تدل خطواتهم ووتائر قدومهم وجلوسهم على مقاعد غرفة الاستقبال تلك، يواظبون على هذا النوع من اللقاءات والزيارات على رغم الظروف الأمنية وحال المراقبة والملاحقة الدائمة التي تخضعهم اليها الأجهزة الأمنية الأردنية. انها مضافات المجاهدين الزرقاويين "اخوان" ابي مصعب الزرقاوي ومحبيه الذين لا يترددون في الاعلان عن انتمائهم الى افكاره ورغبتهم في الخروج الى "ساحات الجهاد" في حال اتيح لهم ذلك. غرف باردة ومقاعد تتسع لأكبر عدد من الزوار، وفي احدى الزوايا جهاز كومبيوتر لاستخراج رسائل شيوخ "الجهاد". رجال ملتحون على ذلك النحو الذي يفترض تجاوز طول شعر اللحية قبضة الكف بحسب قاعدة شرعية، ومرتدون الثياب الشرعية المتوزعة بين ثوب طويل فوقه معطف كاكي او اسود، وبين "البدلة" الأفغانية التي اشتهر بها الأفغان العرب. الوجوه حائرة قليلاً، فبعض الرجال خاضعون للاقامة الجبرية ويذهبون كل يوم صباحاً ومساء الى دوائر الأمن في المدينة ليوقعوا على حضورهم، وآخرون امضوا شهوراً وسنوات في السجون، والبعض ايضاً هم ممن عاد في السنوات الفائتة من افغانستان، وتحديداً من معسكر هيرات الذي كان يتزعمه ابو مصعب الزرقاوي، وبالتالي فان هذا البعض خاضع لرقابة أمنية محكمة. وفي هذه الجولات وبين السجن الأردني ومدينة هيرات الأفغانية ومدينة الزرقاء التي تبعد نحو 23 كيلومتراً عن عمان، تعرف هؤلاء الرجال على ابي مصعب الزرقاوي وعلى استاذه ابي محمد المقدسي وصاروا من رجالهما. يقع المنزل الذي يضم المضافة في احد الأحياء الشعبية في الزرقاء. زقاق ضيق يتفرع من طريق عام، وعلى جداري الزقاق المتقابلين ابواب منازل فقيرة. نمط حياة سكان المنزل وسمت توزع غرفه وحددت وظائفها. فالى جوار المضافة ثمة غرفة للصلاة لطالما استأذن "المجاهدون" لدخولها، احياناً فرادى واحياناً جماعات، والمساحة الثالثة من الحيز العام في المنزل هي غرفة الطعام التي تفصلها عن الداخل قطع قماشية يتسلل من بينها الأطفال محضرين من المطبخ اطباقاً توزع حول صينية الكبسة الفلسطينية. وعملاً بتقليد صحابي، يفضل المضيف خدمة ضيوفه على مشاركتهم المائدة. اما المجاهدون وهم ليسوا ضيوفاً في مضافة اخيهم فيفسحون للضيف ويجلسون على اطراف المائدة. واحاديث المائدة متصلة بموائد الصحابة وبالأطباق التي اشتهرت بها. انهم الدائرة الأقرب لأبو مصعب في مدينته، يحفظون اسراره وحكاياته، ويقيم بعضهم معه علاقات لا يفصحون عن تفاصيلها. فقط اشارات بعيدة لاستمرار العلاقة مع اخوانهم الذي "خرجوا" للجهاد في امارة الشيخ الجانح. اما ابو محمد المقدسي، نزيل سجن سواقة الأردني، فمعظم هؤلاء من تلامذته وبعضهم مواظب على زيارته في السجن، وجميعهم من رواد موقعه على شبكة الانترنت حيث ما زالت تنشر مقالاته التي يهربها زواره من السجن. الوجوه واللحى تفصح عما يعتمل في الرؤوس، انه عالم السلفيين الجهاديين الآخذ بالاتساع في هذه المدينةالأردنية، والذي، وعلى رغم الخبرات الكبيرة التي اظهرتها الأجهزة الأمنية الأردنية في مجال ملاحقة هذه الجماعات وضبطها، يستمر في اشهاره الولاء لأبو مصعب ويتحفز ناشطوه للالتحاق بزعيم شقاوتهم "العائد الى دينه" في النصف الثاني من ثمانينات القرن الفائت ابو مصعب اي محمد الخلايلة ابن عشيرة بني حسن الكبيرة والتي يصل سكنها الى المناطق القريبة من الحدود مع العراق. جهد هؤلاء الرجال لجعل لقائهم ب"الحياة" عادياً. حاولوا التقليل من اهمية اشتراطهم الا يتعدى عدد الزوار الشخص الواحد. لم يتم اللقاء على نحو بوليسي، ولكن عالم هؤلاء الناس لا يخلو من اجواء مشابهة، فالعلاقة بينهم وبين الأجهزة الأمنية الأردنية معقدة. انهم يعيشون في مدينتهم التي تشكل حاضنة اجتماعية وسياسية لدعاويهم، ولكنهم ايضاً تحت رقابة اجهزة الأمن التي وان راعت صدورهم عن بيئة حاضنة لهم، فهي تضعهم تحت رقابة صارمة. وبين هذين الحدين تتحرك الأجهزة ويتحرك "المجاهدون" في مساحة ضيقة وكلاهما مستفيد من هامش الحماية والانكشاف هذا. لم ينه علي وهو احد الجالسين في مضافة المجاهدين، فترة الاقامة الجبرية التي فرضت عليه بعد ان شعرت الأجهزة الأمنية باحتمال "خروجه" من الأردن الى العراق للالتحاق بشيخه ابو مصعب. يعرف علي جيداً ابو مصعب، فهو كان التقاه في هيرات عندما هاجر مع عائلته الى المدينة الأفغانية والتحق بمعسكر الأردنيين فيها. ويبدو انه من معسكر هيرات هذا بدأت حكاية تحول ابو مصعب الزرقاوي الى قائد ميداني لهذه الجماعات، وهو ايضاً المعسكر الذي يكرر ذكره "المجاهدون" الزرقاويون اثناء تأريخهم لحركتهم. اما قصة التحاق علي بمعسكر هيرات فهي تشبه قصص المئات من اللاجئين الفلسطينيين من سكان مخيمات الأردن وبعض الشرق اردنيين الذين "خرجوا" من "جاهليتهم" في النصف الثاني من الثمانينات وتوجهوا الى افغانستان. ولد علي في احدى مدن الضفة الغربية وبقي فيها الى بداية السبعينات، فر بعدها الى الأردن حيث التحق بحركة فتح، وفي نهاية السبعينات انتقل الى معسكر للحركة في منطقة الجرمق في جنوبلبنان ثم انتقل الى مخيم عين الحلوة حيث التحق بكتيبة تابعة ل"فتح" كان يقودها الشيخ ابراهيم غنيم. اعتقله الاسرائيليين الذين غزوا لبنان عام 1982 وامضى سنة ونصف سنة في معتقل انصار، ثم افرج عنه وعاد الى الأردن والى مخيم الزرقاء تحديداً. وفي نهاية الثمانينات كانت دعاوى "التوحيد" في بداياتها، وبدأ علي ايمانه الجديد. وفي نهاية التسعينات هاجر الى افغانستان ليعود منها مصاباً عام 2001 بعد قصف الأميركيين معسكر هيرات، وسقوطه في أيديهم. تدور في مضافة الجهاديين في الزرقاء احاديث تتناول هموم هؤلاء الرجال. يتحدثون عن اخوانهم في العراق، فيسمون العمليات بأسمائهم، ويميزون بين فعالية "المقاومة" في المدن تبعاً للقادة الميدانيين الذين يعرفون معظمهم. ابو انس الشامي ودوره في الافتاء للمجاهدين، وياسين جراد وهو فلسطيني زرقاوي ووالد الزوجة الثانية لأبي مصعب الزرقاوي، وهو منفذ العملية الأنتحارية التي اودت بحياة رئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق" السيد محمد باقر الحكيم، بحسب ما يؤكد "الجهاديون". وتغور احاديث "المجاهدين" في تفاصيل خلافية احياناً، ففي الآونة الأخيرة نشر مقال للشيخ السجين ابي محمد المقدسي لمح فيه الى تحفظات عن اداء تلميذه ابو مصعب في العراق، وهذا ما اثار حفيظة "المجاهدين" الشباب الذين يعتبرون ان ابو مصعب "كرامة الهية، ومن الكفر ان يعتقد احد بارتكابه اخطاء، حتى ولو كان استاذه وهاديه ابا محمد المقدسي". ويرد محمد على "اخوته" الذاهلين من اشارة شيخهم المقدسي المتحاملة على اميرهم بأنه زار الشيخ في سجنه ونصحه وطلب اليه تجنب ما قد يسيء الى وحدة الصف. شاب آخر قال انه يرغب بزيارة ابو محمد وسؤاله عن حقيقة رأيه. ويوضح ان ابو محمد ترك الأمارة لأبو مصعب لأنه موجود في الميدان، ولخصاله القيادية وصرامته فكيف يعود ويتحامل عليه وهو البعيد عن الميدان؟. ثم تعود احاديث "المجاهدين" لتنتظم في الداخل العراقي، فيتحدثون عن استعانة ابي مصعب بخبرات بعثية في حربه على الأميركيين والعراقيين، لا سيما في في المسألة الأمنية. ويوضح احمد ان هذا الأمر صحيح لا سيما في مدينة الفلوجة التي تضم بين ابنائها مئات من ضباط الاستخبارات في الجيش العراقي السابق، ولهؤلاء خبرات كبيرة في المجال الأمني، وقد اعلن عشرات منهم مبايعة ابي مصعب وبراءتهم من النظام "العلماني" السابق. ويشير احمد الى قبول ابي مصعب انضمام الشيخ عبدالله الجنابي وجماعته الى تنظيمه خصوصاً "ان هؤلاء سلفيون مجاهدون اصلاً ولا تعوزهم التوبة". يشير اخوان ابي مصعب الزرقاوي في مدينة الزرقاء الى ان 63 "مجاهداً" من مدينتهم ومن مخيم الرصيفة الذي يحاذيها هم اليوم في السجون بين غوانتانامووعمان، اما عموم الذين خرجوا الى الجهاد سواء الى افغانستان او الشيشان او العراق من ابناء المدينة ومخيماتها فيؤكد علي ان عددهم يفوق الثلاثمئة شاب ورجل، منهم من هاجر مع عائلته ومنهم من هاجر بمفرده، ومنهم ايضاً من عاد ومنهم من "استشهد". اما البقية فالقسم الأكبر منها انتقل الى العراق. ومن الأسماء المعروفة من بين الذين قتلوا في العراق من ابناء الزرقاء، يعدد انصار الزرقاوي عبد الهادي دغلس وياسين جراد ويزن نبيل جرادة، اضافة الى عشرات سبقوهم الى "الشهادة" في افغانستان. يقول ابو عثمان "نحن نقاتل الناس كوننا احراراً. فالحر لا يقبل الدنية في دينه ولا يقبل ان تنتهك حرماته ومقدساته ولا يقبل ان يظلم". وانسجاماً مع كلام ابو عثمان يضيف "مجاهد" آخر "قبل فترة سمعنا ان الشرطة والأجهزة الأمنية تجمع معلومات عن الفتوات الزعران في الزرقاء، لأن هؤلاء الفتوات صاروا جميعهم من انصار ابي مصعب الزرقاوي" ويضيف: "انا اسأل لماذا تحول هؤلاء مؤيدين لأبي مصعب؟ واقول لأنهم احرار، ليس لديهم اهل او نساء او اولاد. الشرطة لن تتمكن منهم فهؤلاء محنكون ويمكنهم الوقوف بوجهها". في شخصية الزرقاوي من الفتوة ما يغري انصاره ويثير اعجابهم. احاديث كثيرة عن حميته وعن صورة "الأزعر" الأيجابي يرددها هؤلاء الدعاة والمناصرون. احاديث يختلط فيها المتخيل بالواقع، وتُسقط على الأسطورة تمنيات ما كانت لتتحقق لولا ذلك الجنوح العاطفي الذي يبديه هؤلاء حيال بطلهم الخارج من خيبات الهزائم والفشل الأجتماعي والسياسي، ومن حال اخفاق مجتمعات بأكملها عن رسم صورة بطل مختلف. ومن صور فتوة ابي مصعب تلك الحكاية التي يرددها اصحابه عن كيفية انتقال الامارة اليه من ابي محمد المقدسي. فالرجلان دخلا الى السجن عام 1994 وبقيا فيه الى عام 1999. ويبدو ان هذه الفترة اساسية في تصدرهما الحركة السلفية الجهادية في الأردن، ويروي ابو عثمان كيف ان ابو محمد شخصية دمثة وحسنة المعشر وليست صدامية على رغم ان افكاره صدامية، اما ابو مصعب فقد اظهر في السجن بأساً وشدة، ويضيف: "البعد القبلي الذي يتميز به ابو مصعب مكنه من تولي البيعة داخل السجن، فهو صدامي، والشباب الذين كانوا يحيطون به في السجن كانوا جهاديين عمليين، رفضوا امارة ابي محمد المقدسي وفضلوا امارة ابي مصعب بسبب بأسه وحزمه واجهاره فكره، ورأوا ان امامته تتيح لأبي محمد التفرغ للاجتهاد والدراسة. انا كنت واحداً من هؤلاء في السجن وكنت شاهداً على هذه الوقائع". ربما كانت حكاية محمد مع الالتزام بالخط "الجهادي" مختلفة كما يقول. صحيح انه فلسطيني ومن مدينة الزرقاء، لكن طريقه الى ما هو فيه كان مختلفاً، فهو كان في الولاياتالمتحدة التي سبقه اليها اخوته، وكان يعمل هناك مزيناً نسائياً. وخلافاً لأخوته لم يكن محمد يؤدي الفروض الدينية وهو امر سبب له الكثير من المتاعب مع اخوته، ومع امه ايضاً التي كانت ترسل اليه من الأردن رجاءها بأن يؤدي فروضه الدينية. وفي احد الأيام يقول محمد انه استحم وتذكر والدته وتوجه للصلاة استجابة عابرة لما تلح عليه فيه، وعلى اثر ذلك شعر برضى عميق عن نفسه فقرر المواظبة على الصلاة. بعد فترة قرر العودة نهائياً الى الأردن، اذ شعر بعد ان ترك عمله انه ليس في المكان الصحيح في اميركا وان دينه "يتطلب ابتعاداً عن هذه البلاد". عاد الى السلط وبدأ بالتردد الى المساجد حيث التقى بشيوخ سلفيين، ولكنهم ليسوا جهاديين كما يقول. انهم "مرجئة" بحسب تعبيره وهو التعبير الذي يطلقه الجهاديون على الدعاة السلفيين الذين لا يتبنون الوسائل العنفية في التغيير. وبعد قضاء اوقات طويلة في الدراسة في المساجد تعرف محمد على "الفكر الجهادي" وجهز نفسه وزوجته التي كان تزوجها في الزرقاء بعد ان ترك زوجته الأميركية واولاده، للهجرة الى افغانستان. لكن احداث 11 ايلول سبتمبر سبقته فصار من الصعب عليه ان يحصل على تأشيرة الى "الباكستان"، مما حال دون ان يكون له "شرف ان يكون جندياً في امارة امير المؤمنين الملا محمد عمر". ان تتعرف على مدينة الزرقاء من خلال دليل "مجاهد" من اصدقاء الزرقاوي ومن مريديه، يعني ان تذهب اولاً الى تلك المقبرة التي امضى فيها الخلايلة طفولته وشبابه في حي معصوم. ولكن كيف يمضي طفل صباه وفتوته في مقبرة؟. انها المساحة الوحيدة المتاحة لهؤلاء الفتية في تلك الأحياء المكتظة، وتبدو المقبرة تلك اشد تنظيماً من الأزقة المحيطة بها، والى جوارها في حي معصوم "دار الخلايلة" التي يفضل المجاهدون عدم ازعاج اهلها بسبب شدة المراقبة الأمنية. اما منزل ابي مصعب وهو في حي آخر فمن الواضح انه اكثر رخاء من منزل اهله. مبنى مستقل من طبقتين طلي باللون الأبيض وشيد حوله جدار متوسط الارتفاع، واضيئت غرفة سفلية منه، فيما اكد "المجاهد" الدليل ان زوجة ابي مصعب واولاده تم تهريبهم أخيراً الى العراق نظراً لمخاطر قد يتعرضون لها بسبب اشتداد العداء بين ابي مصعب والشيعة. اما عن طريقة تهريبهم الى العراق فيقول ان ابا مصعب يستطيع فعل ما يشاء!. والى جوار منزل الزرقاوي يقع منزل صهره زوج شقيقته صالح ابو قذامة وهو من اكثر المقربين منه وقد اعتقل أخيراً. علماً ان ابو قذامة ليس من الزرقاء ولكنه انتقل للسكن فيها بهدف الاهتمام بعائلة ابي مصعب بعد خروج هذا الأخير. في منطقة الزرقاء الجديدة تقيم عشائر بني حسن التي تعتبر عشيرة الخلايلة التي يتحدر منها ابو مصعب واحدة من افخاذها. وبني حسن اقلية في الزرقاء، وهم طبعاً عشائر شرق اردنية تقيم وسط غالبية فلسطينية. وعلى رغم شرق اردنيته فان الدائرة الأقرب لأبي مصعب في الزرقاء غالبيتها فلسطينية وذلك لأسباب تتجاوز ما يجري الآن في العراق، فالتيار السلفي الجهادي في الأردن نشأ في الزرقاء وفي بيئتها الفلسطينية تحديداً، وهذا ما سيكون موضوع الحلقة الثانية من سلسلة التحقيقات هذه. لكن لا شك في ان الملامح العشائرية في شخصية الزرقاوي تشكل محط اعجاب في المحيط الفلسطيني، خصوصاً ان فتوته هي نوع من الخروج والتحدي للنظام الشرق اردني من داخله. وفي هذا السياق تمكن ملاحظة ان قيادة الزرقاوي لهذا التيار خففت من حدة التناقضات المضبوطة بين الفلسطينيين والشرق اردنيين. فقد التأمت شرائح من شطري هذا المجتمع في عقدة عنف واضطراب واحدة، من دون ان يعني ذلك ان هذا الالتئام ايجابي، وانما هو اقرب الى تجاوز الفِرقة الواقعية والحقيقية الى الموت المشترك. التساؤل الأول الذي يمكن ان يراود زائر الزرقاء برفقة اخوان الخلايلة فيها لا بد ان يدور حول تلك السهولة التي يتنقل فيها هؤلاء ويصرحون واحياناً يعملون في دولة تعتبرهم اعداء وخطراً محتملاً؟. لكن الأردن نجح ايضاً في الحد من نشاطهم على اراضيه، اذ ان العملية الأخيرة التي نفذها ناشطون جهاديون كانت قبل سنوات عندما اقدموا على اغتيال الديبلوماسي الأميركي في عمان، وبعد نحو اسبوع اعلنت السلطات الأردنية خبر اعتقال منفذي هذه العملية، ناهيك طبعاً عن كشف الاستخبارات الأردنية قبل اشهر الشبكة التي كانت تخطط لتفجير مبنى الأمن العام في عمان والتي كان على رأسها عزمي الجيوسي وعدد من الأردنيين والسوريين، علماً ان الجيوسي ايضاً وهو اردني من اصل فلسطيني كان من سكان مخيم الرصيفة المحاذي والمتداخل مع مدينة الزرقاء. اذاً لا هدنة بين الأجهزة الأمنية الأردنية وبين جماعات الزرقاوي، هذه الوقائع تؤكد ذلك كما يؤكدها تعرض هؤلاء الناشطين في الزرقاء وفي السلط الى الملاحقة والمراقبة الدائمة. وقد شهدت "الحياة" وقائع تؤكد ذلك، منها اوراق الجلب التي في حوزة "المجاهدين" الذين التقتهم اضافة الى احكام الاقامة الجبرية. ويدرك انصار الزرقاوي في مدينته ان الأجهزة الأمنية الأردنية احدثت اختراقات كبيرة في صفوفهم وهذا ما مكنها ومكنهم من اجادة لعبة الرسائل المتبادلة. فكثير من هؤلاء يقول انه مع ابي مصعب في حربه في العراق ولكنه لا يؤيد العمليات داخل الأردن. ويشير محمد الى ان ابا مصعب اخطأ في تكليف الجيوسي بالعملية الأخيرة ضد الاستخبارات الأردنية، فالمجاهدون لا قدرة لهم على فتح جبهات اضافية، حتى لو كان حكامها من الطواغيت. والأرجح ان الأجهزة الأمنية في الأردن لا تقف عند حدود هذه التطمينات، اذ ان اتاحة بعض الحركة لهذه الجماعات قد يوجد مساحة انكشاف مشتركة يستفيد منها الطرفان، مع غلبة الفائدة التي تجنيها الأجهزة الأردنية طبعاً بفعل تغلغلها وضبطها هذه اللعبة. اما المجاهدون فهم بدورهم يدركون حدود هذه اللعبة ويميزون تماماً بين المسموح والمحظور، وان كانوا محل ريبة دائمة بفعل قناعة الأجهزة بأن هؤلاء ليسوا ملائكة وان اي غض طرف عنهم سيكون مكلفاً على المملكة المستقرة ولكن المحاصرة بما لا يحصى من المخاطر.