محمد شكري جميل عرفت محمد شكري جميل منذ بداياتي الأولى في السينما، فقد بدأ مبكراً... أعني بدأ وهو بعد شاب يافع... وكنا نلتقي حينما تضمنا جلسات عبر فرقة المسرح الحديث... لتكون تلك اللقاءات منافذ لكل منا نطل منها على الآخر... وكان محمد شكري جميل يجلب انتباهي بحماسته غير الطبيعية نحو السينما وكأنه قد عرف أي شيء فيها. وهو في الواقع بعده في أول الدرب يحاول أن يكون ذا مكانة فيها عبر عمله في وحدة الأفلام التابعة لشركة النفط، فعمل مصوراً ومونتيراً ومخرجاً للأفلام القصيرة... محمد شكري ومنذ ذلك الزمن عام 1953 ... يثير الانتباه بأمور عدة... منها انه"فضولي"وفضوليته هذه كانت من أجل أن يعرف أو يتعرف الى كل ما يحيط به... بل انه يزج نفسه بأمور ليست قريبة منه كي يكتشفها، وقد جمع بسلوكه هذا الكثير من معلومات كانت غائبة عنه، وحينما غادر العراق الى انكلترا من أجل الدراسة ازداد معرفة بشؤون السينما من موقع متقدم هناك... ثم عاد وكنا أسسنا مصلحة السينما والمسرح ليأخذ موقعه فيها في قسم المونتاج بجدارة عالية... ويبدأ بإخراج أفلام قصيرة وليشارك يوسف جورجيس حمد اخراجه فيلم"أبو هيلة". كنت أرقبه عن كثب... وأبحث عن جوانب فيه - خارج علاقة الصداقة - في ما يكتنز من حالات ايجابية تؤهله ليكون بموقع"المخرج"الذي يعتمد عليه... فهو وكما أشرت لا يكتفي بما يملك من معرفة للحياة وللمجتمع بل كان يحاول وكما ذكرت بفضول... ليكون ملماً بما حوله... وهذه سمة تغنيه حينما يقف خلف الكاميرا ليرى شخصيات الفيلم الذي يخرجه وأجواءها وتصرفاتها وحركتها... فيرسم ما يدور بذهنه بصيغ عالية لتكون بعد ذلك أمام المشاهد مقنعة ومثيرة ومؤثرة... منذ أبو هيلة - 1962 - عملنا معاً... وحينما انتقلت معه في فيلم"المسألة الكبرى"ثم"الفارس والجبل"و"الملك غازي"... صار محمد شكري جميل بالنسبة إليّ حالاً خاصة أعيش معه أيام العمل بمعرفة كاملة... حتى أنني أعرفه وأدرك ما يريد وان لم يتكلم... لكن محمد عكس ذلك يتكلم وبصوت عالٍ... ويحاول أن يوضح ما يريد أو ما لا يريد بلغة انكليزية مؤكداً جدية الحال المقصودة من ملاحظته أو ما يطلب من كل العاملين حوله!! حقيقة النفس البشرية في الأصل وعبر نشأة محمد شكري ومع الناس على مختلف مستوياتهم... صار يدرك حقيقة النفس البشرية من مواقعها التي نشأت فيها... ويستوعب سلوكها... ثم راح يرتفع بالموقع الإنساني حينما يتطلب الموقف حال سمو أو رفعة، فيستشهد بشخصيات عرفها في حياته... فيكون أبوه واحداً منها أو عمه - فؤاد جميل - أو بعض أقاربه حتى يصل الى أصدقائه ومعارفه... خلال العمل - وهو المخرج فيه - تجده حمل أوراقه، شرح فيها كل تصوراته ومتطلبات المشهد... فليس هناك من أمر بلا جواب إذا ما سأله المصور أو مساعد المخرج أو الممثل، وهو، لسعة معرفته بحرفية السينما، التصوير وما إليه، ولقدرته في فهم التسلسل الزمني أو المكاني في الفيلم عبر رؤيته"مونتيراً"لا يمكن أن تقفز حال أو مشهد من دون أن يأخذ مكانه المطلوب بحسب المقياس الزمني أو الايقاع المطلوب... فهو - أحياناً - صعب... وأحياناً سهل مطواع حينما تكون الأمور انتظمت وصارت وفق الرؤية المطلوبة والمكتملة أمامه... يصرخ بعنف وأحياناً يشتم الى حد اضجار الممثلين أو العاملين معه... وهذا أمر غير مستحب! لكنه بعد حين يبدو كالطفل بقلب طيب أبيض ومن لم يتعرف على هذه الحال فيه يحسبه فشلاً منه أو عجزاً عن معالجة الموقف... ليس سهلاً على محمد شكري المخرج أن يتنازل عن طلب من جهة الانتاج أو ادارته... وليس يسيراً أن تقوده جهة ما الى عكس ما يتمثل ويريد... لكنه أحياناً وانطلاقاً من هذا الإصرار قد يقع في خطأ ظاهر للعيان يحسبه هو أمراً ليس من الأهمية بمكان... بعيداً من الضياع حينما عمل في"المسألة الكبرى"جمع كبار الممثلين ليس في العراق فحسب، بل جاء بهم من انكلترا ولم يكتف بأوليفر ريد الممثل، بل جاء بجاك هالديارد مديراً للتصوير وبكادر كبير في مختلف الفروع الأخرى... وكان الكثيرون يحسبون أنه سيضيع بينهم... لكن محمد شكري... ظلّ هو سيد الموقف والقائد للعملية السينمائية كلها... وهذا رأي أقوله للمرة الأولى وأنا أرقب عمله بذاك الفيلم الذي كان وما زال أفخم انتاج سينمائي عراقي... بعد هذه المحاولة - الاستعانة بالقدرات الأجنبية - اعتمد محمد على قدرات عراقية عمل على أن تكون بالمستوى المطلوب... حتى الشخصيات الأجنبية في فيلم"الملك غازي"1993 كانوا ممثلين عراقيين بعضهم من الهواة، وقد أجادوا تمثيل أدوارهم الى حد بعيد. بالنسبة إليّ ومن متابعتي لكل أعمال محمد شكري ولمشاركتي معه منذ فيلم"أبو هيلة"1962 و"المسألة الكبرى"1983 و"الفارس والجبل"1987 و"الملك غازي"... ثم مسلسل"المدن الثلاث"بجزءيه الأول والثاني عملت ممثلاً بأدور عشقتها وأحببتها وكنت سعيداً بوجود محمد شكري جميل مخرجاً لهذه الأعمال - السينمائية ثم التلفزيونية - بعد أن توقف الانتاج السينمائي في العراق. وقد يختلف البعض معي لكنني أكرر أن العمل مع محمد شكري جميل لمن يفهمه وبقدر امكاناته واستيعابه لما يريد، متعة عميقة... فكيف وأنا أفهمه حتى وان لم ينبس ببنت شفة؟!