في الصورة العامة، يعتبر محمد خان زعيم ما كان يسمى في مصر «سينما الواقعية الجديدة»، أي ذلك التيار الذي ولد أوائل سنوات الثمانين من القرن العشرين وريثاً لكل ما كان جاداً وجديداً قبل ذلك من تيارات السينما المصرية. ومن هنا كانت تلك الصورة العامة تصوّر محمد خان شاباً، بحيث يكاد تياره نفسه يحمل في شكل دائم سمة «السينما الشابة في مصر». لكن محمد خان بدأ يقترب حثيثاً من سن السبعين، وصار منذ زمن موضع تكريمات بعضها يبدو متحفياً، بمعنى انه يكرم الفنان معتبراً أن أزمانه انتهت... إذ من المعروف - في عالم الإبداع على الأقل – أن كل تكريم هو بعض موت. ومع هذا في الوقت الذي كانت الدورة السادسة عشرة لمهرجان الرباط تعلن في حضور صاحب «سوبر ماركت» و «أيام السادات»، أنها تتشرف بتكريمه وتكريم مساره السينمائي المميز، والذي صار عمره، حتى الآن نحو ثلث قرن، كان محمد خان يتحدث عن مشاريعه الكثيرة المقبلة، ويقول ان امامه خلال العامين المقبلين ما لا يقل عن ثلاثة أفلام سينجزها. ما كان محمد خان يقوله كان من الواضح انه يتنافى تماماً مع فكرة وضعه في متحف. وعلى هذا النحو جعل التكريم يبدو خطوة في مسار طويل متواصل، لا تسجيلاً ودوداً لنهاية مرحلة وبالتالي نهاية عمر. وهذا كله لم يفاجئ أحداً. فمحمد خان – وسينماه بالتالي – يتمتعان بدينامية تتجاوز حدود السنين، ولا تريد ان تخلد الى أي هدوء. بل هي ديناميكية لا تتوقف لحظة عن استعراض علاقة بالسينما تتجاوز من الناحية الزمنية حدود البدايات ككاتب سيناريو وصاحب افكار ومخرج (إذ هذه النشاطات طبعت مسار محمد خان منذ بداية ظهور اسمه في الساحة السينمائية المصرية ثم العربية)، لتغرق في الزمن الى بداية عقد الستينات من القرن الذي انصرم حين كان محمد خان شاباً بالكاد خرج من سنوات المراهقة ليصل الى بيروت، بعد بدايات عادية في السينما المصرية كمساعد. ففي بيروت كانت البداية الحقيقية لعلاقة محمد خان بالفن السابع كمساعد للإخراج عمل مع فاروق عجرمة ويوسف معلوف، وكان سيقتل في ذلك الحين لو أنه عمل مع غاري غارابديان مساعداً في فيلم «كلنا فدائيون»، الذي قتل معظم أفراد طاقمه ذات ليلة صيفية من عام 1968 في حريق ملهى ليلي كان التصوير يدور فيه «لكن الله قدر لي أن أستنكف عن العمل في الفيلم فنجوت بنفسي من احتراق مؤكد»، يقول محمد خان اليوم. محمد خان أتى الى العمل السينمائي من الثقافة السينمائية، فهو، وحتى قبل ان يصل الى بيروت (1974، وكان في الثانية والعشرين من عمره) كان مطلعاً على تيارات السينما الجديدة في العالم، يعرف أفلامها وأساليب مخرجها ويحلم بأن يكون جزءاً منها ذات يوم. ومن هنا بعد سنوات العمل «التأسيسي» في بيروت، وهي سنوات يقول اليوم انها أتاحت له، ان يشاهد، في أوقات فراغه عشرات الأفلام في صالات متخصصة (من برغمان الى فيلليني الى كل جديد سينمائي كانت تعج به بيروت في ذلك الحين)، قرر ان الوقت حان للتوجه الى أوروبا «لدراسة السينما ميدانياً وفي شكل جدي. ثورة من الداخل أواخر عقد الستينات إذاً، سافر محمد خان الى لندن... وهو في الوقت الذي درس الإخراج والسيناريو كان لديه من الحماسة ما مكّنه من تأليف كتابين بالانكليزية أحدهما عن السينما التشيكية والثاني عن السينما المصرية. وهو يقول اليوم ان الفضل في وضعه الكتابين لم يكن لدراسته اللندنية، بل لسنوات البدايات في مصر، ثم سنوات التأسيس في لبنان. أما لندن فقد علمته السينما عملياً ونظرياً في آن معاً، وعلمته الدمج بين دينامية اللغة السينمائية، ووضوح التعامل مع الموضوع. وكان محمد خان مهيأً لهذا، أصلاً، هو الذي كان قد وضع نصب عينيه، وحتى منذ بداياته المصرية، سينما صلاح أبو سيف وواقعية الشارع... وصولاً الى تثوير السينما من داخلها، وانطلاقاً من أنانيتها المعتادة، لا نخبوياً من خارجها. بالنسبة اليه كانت التجارب التي تحتذى، تحمل - مصرياً - تواقيع أبو سيف وهنري بركات وتوفيق صالح، فيما تحمل عالمياً تواقيع أنطونيوني وفيلليني وربما فسكونتي وجوزف لوزاي وايليا كازان أيضاً. والحقيقة أن محمد خان، وبعدما عاد الى مصر بعد سنوات الدراسة اللندنية، عرف منذ أفلامه الأولى التي راح يحققها منذ أواخر سنوات السبعين، كيف يحقق ما كان وعد نفسه به، ويطل من السينما على الحياة. «الحياة كما هي بحلوها ومرّها» يقول الآن، مميزاً سينماه وأسلوبه عن تلك الأنماط الواقعية «الاشتراكية»، أي سينما القضايا الكبيرة والثرثرة النضالية التي لم تكن قادرة على الوصول إلا الى الذين يؤمنون سلفاً بجدواها وجدوى سينما «الرسائل» السياسية والاجتماعية. فمنذ «ضربة شمس» و «الحريف» وغيرهما، عرف كيف يقول الحياة من دون ثرثرة لفظية ووعود بحلول عجائبية أو «طبقية». وأدرك محمد خان في سينماه، أن قول الحياة نفسها في السينما عمل «ثوري» بامتياز. واللافت هنا هو أن أفكاره حول هذه الفعالية تضافرت في ذلك الحين مع أفكار مجموعة من سينمائيين آخرين، بينهم كتّاب سيناريو ومخرجون وممثلون وتقنيون، كانوا قد بدأوا يشعرون بعدم جدوى السينما السابقة، سواء كانت تجارية خالصة، أو سياسية صاخبة. بالنسبة الى محمد خان وخيري بشارة وعلي بدرخان وعاطف الطيب وسعيد الشيمي وبشير الديك وحتى نور الشريف - وعادل امام ذات مرة في فيلم «الحريف» - ونادية شكري (التي ستؤلف أفلام محمد خان ورفاقه)، كان المطلوب تحقيق أفلام تبدو - للوهلة الأولى - منتمية الى السائد التجاري، حتى من ناحية استخدام نجوم الشباك، ثم الانطلاق من هنا، لعل الشاشة مرآة مكبرة لما يحدث في الحياة: «كان المطلوب - ولا يزال ربما - ان تقول السينما للناس: هذه هي حياتكم. تأملوها وقرروا خطواتكم التالية». ومن هنا، لئن حضرت في هذه الأفلام (نعني أفلام محمد خان، وكذلك أفلاماً مثل «سواق الأوتوبيس» و «التخشيبة» لعاطف الطيب، و «أهل القمة» لعلي بدرخان، أو «العوّامة رقم 70» لخيري بشارة... ثم عشرات الأفلام الأخرى لغيرهم) قواعد السينما الشعبية، فإن النهايات السعيدة الكاذبة لم تحضر. في المقابل حصل ذلك التجديد الكبير في اللغة السينمائية: نزلت الكاميرات الى الشوارع، رصدت حكايات حب لا رومانسية فيها ولا يحزنون. فككت حياة عائلات. بيعت المبادئ على حساب الانفتاح... وكل هذا وسط حنين غالبت ما ذكرته مقدمات الأفلام صراحة، الى زمن الرومانسية والحنان الطيب. ولادة من الرماد وهنا لا بد من أن نضيف الى هذه الصورة أمراً له أهميته الفائقة، وإن كان سرعان ما غاب عن الصورة، وهو أن أصحاب هذه السينما الجديدة، غالباً ما عملوا مع بعضهم بعضاً (كما حدث، مثلاً، حين كتب محمد خان سيناريو «سواق الأوتوبيس» لعاطف الطيب...). بل ان محمد خان أسس ذات سنة، مع سعيد شيمي ونادية شكري وآخرين شركة «أفلام الصحبة»... ان كل هذا العمل الجماعي التأسيسي، قد يبدو اليوم جزءاً من التاريخ. ولكن صحيح أن بعض «أبطال» تلك المرحلة تغيروا، أو توقفوا، أو انصرفوا الى العمل التلفزيوني، أو رحلوا مأسوفاً عليهم (عاطف الطيب...). غير أن التيار نفسه لم يمت. وكذلك، كما لاحظنا في الرباط، لا يزال واحد كمحمد خان في أوج نشاطه وإقدامه. وهو كان كذلك، على أية حال، منذ أواسط الثمانينات، بعد بداياته، إذ انه - حتى ولو كان يتباطأ في الانتاج بعض الشيء، ولو كان ينصرف أحياناً الى سينما الدعاية «أكل عيش وكنوع من التمرين الدائم» كما كان ولا يزال يقول، ولو انه - بين الحين والآخر - يحقق أفلاماً لا تنتمي الى سينماه - مثل «الطرفانة» أو «يوسف وزينب»... - فإنه في الإطار العام لسينماه، لا يزال يعطي وبالتالي يحنّ الى الزمن الجميل. وما فيلمه «شقة مصر الجديدة» - آخر انتاجاته حتى الآن - الذي عرض في اطار تكريمه في الرباط، سوى شاهد على هذا... هو فيلم، يسير - وإن في بعده الكوميدي الرومنطيقي اللافت في بحثه عن الحب في زمن الحب المستحيل - على خطى سينما محمد خان الكبيرة، إن لم يكن من ناحية الموضوع، فمن ناحية اللغة السينمائية على الأقل، حيث من جديد، وعبر أحداث تدور في يومين أو ثلاثة، عرف خان كيف يرسم صورة للقاهرة ولحياة الناس البسطاء، ولاحتياجنا الى الحب والصداقة في مجتمع يكبل هذا كله ويلغيه. لقد كان تكريم محمد خان في الرباط، وعرض «شقة مصر الجديدة»، نوعاً من الاستعادة لسينما ظهرت فجأة في الثمانينات المصرية، لكنها لم تختف... فهي حاضرة في مواصلة محمد خان مسيرته، ولكن أيضاً في انتشارها في سينمات لاحقة لأجيال متتالية، في مصر وخارجها، تحمل السمات نفسها، حتى وان لم تقر بذلك. ومن هنا، فإن تكريم محمد خان أتى، بالأحرى، تكريماً لتلك «الأعجوبة» الصغيرة، التي تجعل الجيّد في السينما المصرية والعربية يولد دائماً من رماده... ولا سيما في أوقات نعتقده فيها اختفى الى الأبد... تماماً مثل محمد خان نفسه.