كلنا يذكر أن حكومة العراق الموقتة برئاسة إياد علاوي كانت هي التي تقدمت باقتراح عقد مؤتمر دولي حول العراق. ولأن من البديهي أن لا يكون بوسع"حكومة"موقتة في دولة محتلة أن تُقْدِم على خطوة كهذه من دون تشاور مسبق مع سلطة الاحتلال التي عيّنتها، فقد استقبلت الأطراف المعنية هذا الاقتراح وتعاملت معه باعتباره مبادرة أميركية أكثر منها عراقية. وهكذا فحين تقابل إياد علاوي، رئيس الحكومة العراقية الموقتة، مع الرئيس حسني مبارك وفاتحه في الأمر، راجياً أن تتولى مصر تنظيمه، كان يطمح في أن يعقد المؤتمر في أسرع وقت ممكن، حبذا قبل الانتخابات الأميركية. لكن أحداً، خصوصاً الدولة المضيفة، لم يكن على استعداد لأن يشارك في مؤتمر يمكن تصويره بسهولة على أنه مجرد عمل دعائي مصمم لدعم موقف بوش في الانتخابات الرئاسية، ولذلك لم تنشأ صعوبة تذكر في تحقيق إجماع على أن يعقد المؤتمر المنشود عقب انتخابات الرئاسة الأميركية مباشرة. والواقع أن فكرة عقد مؤتمر دولي وتوقيته صادفا هوى واضحاً لدى الجميع. صحيح أن البعض بدا متفائلاً أكثر مما ينبغي، حين اعتقد أن مجرد قبول إدارة بوش من حيث المبدأ بفكرة عقد مؤتمر دولي للبحث في مستقبل العراق يعد في حد ذاته اعترافاً ضمنياً بعدم قدرتها على حسم الأمور على الأرض بإرادتها المنفردة، وطلباً صريحاً لعون لن يقبل المجتمع الدولي تقديمه إلا بشروطه هو إذا ما صدقت نية الإدارة في إنقاذ نفسها من"ورطة"وقعت فيها بمحض اختيارها. غير أن جميع الأطراف أدركت في الوقت نفسه أن انعقاد مؤتمر دولي على هذا المستوى، وفي هذا التوقيت بالذات، يمكن أن يكون مفيداً للغاية، بصرف النظر عن نيات إدارة بوش وحقيقة الأهداف التي تسعى الى تحقيقها من ورائه. ففي الوقت المحدد لانعقاد المؤتمر ستكون انتخابات الرئاسة الأميركية قد حسمت وعرف العالم مع اي إدارة سيتعامل: كيري، الذي اعتبر أن الحرب على العراق كانت"القرار الخطأ في المكان الخطأ وفي التوقيت الخطأ"، أم: بوش، المسؤول الأول عن شن الحرب رغم أنف المجتمع الدولي وضد إرادته. وفي كلتا الحالتين سيتيح انعقاد المؤتمر فرصة أمام جميع الأطراف المعنية للتعرف مباشرة، وفي توقيت مبكر، على نيات الإدارة المقبلة، أياً كانت. كانت غالبية الدول تتمنى في الواقع فوز كيري، اعتقاداً منها أن لديه رؤية واضحة للوضع تمكنه من بلورة"استراتيجية خروج"من العراق. ولو صحّ ذلك لكان باستطاعة مؤتمر شرم الشيخ أن يعقد في مناخ مختلف جدا يتيح إمكانية البحث عن"غطاء سياسي"مناسب للتعامل مع الاستراتيجية الأميركية الجديدة واقتراح الآليات اللازمة لتحويلها إلى خطوات ملموسة على الأرض. وكانت هناك دول عديدة، على رأسها تلك التي كانت عارضت الحرب، تبدو مستعدة لأن تذهب إلى أبعد مدى ممكن لإثبات حسن نيتها وصدق رغبتها في مساعدة الولاياتالمتحدة على العثور على طريقة كريمة للخروج من العراق. وحين أتت الرياح بما لا تشتهي سفن المجتمع الدولي، بفوز بوش وانعقاد مؤتمر شرم الشيخ تحت وقع طبول اليمين المتطرف المحتفل بانتصاره التاريخي، بات من الواضح أن الوقت لم يعد وقت البحث عن"استراتيجية خروج"وإنما عن"استراتيجية تثبيت أقدام"الاحتلال الأميركي في العراق. فها هو الشعب الأميركي يمنح ثقته المطلقة، وبغالبية كبيرة، للرجل الذي تحدى المجتمع الدولي ومجلس الأمن وجاء إلى العراق حاملاً معه أجندة يمين أميركي متطرف لا يستهدف احتلال العراق فقط وإنما يريد أن يتخذ من العراق نقطة انطلاق له نحو تغيير خريطة الشرق الأوسط كله بعد تطهيره من الإرهاب! ولم يكتف الشعب الأميركي بذلك، بل منح الحزب الجمهوري أغلبية كبيرة ومريحة في الكونجرس، بمجلسيه، تكفي لإطلاق يد بوش في إعادة صياغة الداخل الأميركي أيضاً وفقاً للأجندة نفسها. ومن المعروف أن لهذا اليمين أجندة داخلية لا تقل تطرفاً وخطورة عن أجندته الخارجية راجع مقال البروفسور إيمانويل والريشتين المنشور في"الأهرام ويكلي":"في سياق كهذا كان من الطبيعي أن تحل مشاعر الخوف والقلق محل مشاعر الشك وعدم اليقين التي كانت سائدة من قبل. كانت مشاعر الشك وعدم اليقين السائدة قبل مؤتمر شرم الشيخ تفرز تساؤلات حائرة حول ما إذا كان بوش قادرًا في ولايته الثانية على التعلم من، وبالتالي تصحيح، الأخطاء التي ارتكبها في ولايته الأولى. أما في مؤتمر شرم الشيخ فقد بدا هذا النوع من التساؤلات ضرباً من أوهام ساذجة، حيث استبدت مشاعر الخوف والقلق لتفرز تساؤلات أخرى تدور حول ما إذا كان بوش سيكتفي في ولايته الثانية بهضم ما قضمه في ولايته الأولى أم أنه، شأنه في ذلك شأن كل الأيديولوجيين المتطرفين الذين لم يتعلموا شيئا ولم يستوعبوا درساً، سيمضي على طريق الهاوية حتى النهاية ليستكمل مشروعه الذي لم ينته بعد على الصعيدين الداخلي والخارجي. وأظن أن أطرافاً دولية عديدة كانت أيقنت، ومنذ ظهور نتائج الانتخابات الكارثية، أن بوش لم ولن يكون جاهزاً للاعتراف بارتكاب أية أخطاء، ناهيك عن الرغبة في الاستفادة من دروسها، وأنه ربما يكون عازماً ليس فقط على الاستمرار في النهج نفسه والسياسات نفسها، ولكن أيضاً على التصعيد أكثر، أملاً في الإسراع بوتيرة التغيير. والواقع أن الفحص المدقق للبيان الصادر عن مؤتمر شرم الشيخ يعكس المزاجين السائدين معاً: أي مزاج التشدد والعناد لدى الطرف الأميركي، من ناحية، وحالة الخوف والهلع، لدى بقية الأطراف، من ناحية أخرى. فقد خلا البيان من أي إشارة إلى الاحتلال غير الشرعي ومن أي جدول زمني للانسحاب من العراق، وانطوى على إدانة صريحة لپ"أعمال العنف"من دون تمييز لها عن أعمال المقاومة المشروعة بطبيعتها، وأعلن تأييده من دون تحفط"للعملية السياسية"الجارية من دون ربطها بالشروط التي تجعلها قابلة لإفراز حكومة معبرة عن كل ألوان الطيف السياسي في العراق. ولذلك بدا هذا البيان، للكثيرين، وكأنه تفويض ضمني للولايات المتحدة بالمضي قدما في سياستها الرامية إلى تنصيب نظام عميل لها في العراق يقبل بقواعد عسكرية أميركية دائمة هناك، ورأوا فيه، بالتالي، انتصاراً أميركياً كاملاً. غير أن هذا البيان لن يكون له، في تقديرنا، تأثير كبير على مجريات الأمور على الأرض. فالمشكلة الحقيقية التي تواجه الولاياتالمتحدة في العراق لا تكمن في مدى قدرتها على تأمين تأييد لفظي لسياستها هناك، لأنها لا تأبه في الواقع للحصول على مثل هذا التأييد طالما كان بمقدورها فرض سياسة الأمر الواقع على الجميع، ولكن المشكلة تكمن في عجزها عن فرض هذا الأمر الواقع، وبالتالي فهي تطلب من الآخرين ليس فقط إغماض أعينهم عن جريمة قررت هي ارتكابها وإنما المشاركة في إنقاذها من المصيدة التي أوقعت نفسها فيها!. وهذا هو المستحيل بعينه. فما بوسع الآخرين أن يفعلوا لإنقاذ لص يصر على أن يستولي على الكنز المسروق وحده، وربما يخطط لسرقة جيرانه أيضا. بعبارة أخرى ماذا بوسع الآخروين أن يفعلوا للمساعدة على عقد وإنجاح انتخابات يصر الأميركيون أن يحددوا نتائجها مسبقا، وبالتالي تحويلها إلى مهزلة! لا شيء في حقيقة الأمر. فالانتخابات وسيلة لتحقيق غاية تتمثل في إفراز حكومة شرعية تعبر عن إرادة المواطنين، ولا تكون سليمة إلا إذا جرت وفق قواعد وقوانين عادلة تضمن مشاركة الجميع. ولأن شرعية الحكم لا تتجزأ فالانتخابات بدورها لا تتجزأ، فهي إما أن تكون حرة أو غير حرة، نزيهة أو غير نزيهة، كاملة ومكتملة أو منقوصة ومشوهة. والانتخابات لا تكون حرة ونزيهة وكاملة ومكتملة إلا إذا سادها الهدوء والاستقرار، وشارك فيها جميع المواطنين على قدم المساواة، وغطت كل بقعة على كامل التراب الوطني ومنحت الجميع فرصا متكافئة في الترشيح وفي الدعاية وفي التصويت. وتلك كلها أمور يستحيل تحقيقها في ظل الظروف الراهنة. صحيح أن البعض يريد إجراء الانتخابات الآن بأي ثمن، ومهما كانت الظروف والنتائج. فقطاع كبير من الأكراد يريدونها الآن، على أمل أن تكرس فيدرالية يتمنون أن تفتح الباب نحو دولة كردية مستقلة في المستقبل، وقطاع كبير من الشيعة يريدونها الآن على أمل أن تسفر عن أغلبية شيعية تمكنهم من التحكم في مصير العراق. أما الولاياتالمتحدة فتريد الانتخابات الآن لأنها تدرك أن القوى التي حملتها دباباتها إلى مواقع السلطة في"العراق الجديد"، هي التي ستفوز فيها. ولأن هذه القوى لا تزال تحتاج إلى حماية أميركية لتثبيت أقدامها، فسوف يكون من مصلحتها أن تطلب الإبقاء على قواعد عسكرية أميركية في العراق. وهذا هو بالضبط ما تسعى إليه الولاياتالمتحدة: نظام عراقي عميل ترتبط مصالحه ارتباطا عضويا بتواجد عسكري دائم في العراق. غير أن الأمر يبدو لي أكثر تعقيدا وخطورة. فالقوى التي اعتمدت عليها الولاياتالمتحدة لتسهيل غزوها للعراق هي طائفية في جوهرها وليست قوى حداثية. والمشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير أو الموسع يقوم على توازنات طائفية دقيقة تعتقد الولاياتالمتحدة أن العراق يمكن أن يشكل نموذجا رائدا ومصغرا له. وليس من قبيل المصادفة أن هذا هو المشروع نفسه الذي تريده إسرائيل وتخطط له منذ أمد طويل: مجال حيوي من دويلات طائفية تشغل إسرائيل موقع القلب منه، وتلعب فيه، بحكم ثقلها العسكري وتفوقها التكنولوجي وارتباطاتها الخاصة بالولاياتالمتحدة، دور ضابط الإيقاع والممسك برمانة الميزان وبزمام موازين القوى، بعد أن تزول عنها صفة الدولة النشاز وتتحول إلى جزء من كل أو من محيط طائفي. وليس من المؤكد أن تسير الأمور بالضرورة وفقا لما تشتهي السفن الأميركية والإسرائيلية. فلن يكون بوسع الانتخابات القادمة في العراق أن تحقق الاستقرار هناك إلا إذا سبقتها مصالحة تضمن مشاركة كل ألوان الطيف السياسي فيها. ومن دون ذلك سينظر إليها في الداخل والخارج على أنها انتخابات غير شرعية لا تمثل إرادة الشعب، وربما تكريس لمشروع طائفي سيستثير بالضرورة قوى عراقية وإقليمية ويدفعها لعدم الاستسلام له والتحريض على مقاومته. من هنا تأتي أهمية ما أشار إليه مؤتمر شرم الشيخ من ضرورة انفتاح الحكومة الموقتة على كل القوى السياسية وعرض دولة البحرين استضافته. فعلى انعقاد ونجاح مؤتمر كهذا يتوقف مستقبل الاستقرار في العراق وفي المنطقة. وللأسف تدل المؤشرات كافة على أن الحكومة العراقية الموقتة ليست متحمسة للأمر، وتصر على أن تكون بغداد هي مكان انعقاد المؤتمر. وتلك هي أول شروط الفشل وليس النجاح. المشكلة الحقيقية ليست موقف الحكومة العراقية الموقتة، وإنما موقف الإدارة الأميركية. فإذا كانت الولاياتالمتحدة تسعى حقا لإقامة نظام ديموقراطي كامل في العراق، وهو الهدف المعلن للجميع، فعليها أن تقبل بإجراء هذه الانتخابات تحت إشراف كامل ومنفرد للأمم المتحدة، وفي وجود قوات دولية تعمل تحت مظلة وسلطة مجلس الأمن الكاملة. أما التعلل بأن انسحاب القوات الأميركية سيفتح الباب أمام اندلاع حرب أهلية فحجة مردود عليها. فليس المطلوب إخلاء العراق من القوات الدولية وإنما سحب قوات الدول المعتدية وإحلال قوات من دول أخرى لم تشارك في العدوان على العراق تقودها الأممالمتحدة. وفي هذه الحالة لن تكون هناك حاجة إلى العدد نفسه من القوات، إذ يمكن للأمم المتحدة أن تتوصل إلى اتفاق مسبق تلتزم فيه المقاومة العراقية بوقف إطلاق النار في حال تسلم الأممالمتحدة زمام الأمور في العراق ببعديها السياسي والأمني. فمتى تدرك الولاياتالمتحدة أنها أصبحت جزءًا من المشكلة وليس الحل؟ كاتب وأكاديمي مصري