عندما طلبت حكومة اياد علاوي، بإيعاز من السفير الأميركي جون نيغروبونتي، عقد مؤتمر دولي من أجل العراق، كان الهدف المباشر السريع دعم حملة جورج دبليو بوش في الانتخابات الرئاسية. اما هدفه الأبعد فكان التغطية على عمليات قوات الاحتلال في اجتياح المدن العراقية، ثم ايهام العراقيين بأن الحكومة المؤقتة تحظى بدعم دولي، وهي التي راحت تزداد عزلة داخلية كما أوغلت في الدماء والقمع، وبشراكة مع قوات الاحتلال، وأظهرت تبعية كاملة للسياسات الاميركية في العراق حتى لم تترك لنفسها هامشاً ضيقاً يحافظ على قليل من ماء الوجه. فانعقاد المؤتمر الدولي، ما دام قد جاء من خلال مبادرة من ادارة بوش وبإشرافها، سيمضي مُعوجاً مهما حاول بعض المشاركين فيه مثل فرنسا وبعض دول الجوار ان يخففوا من اعوجاجه. ومن ثم سيفقد تأثيره لاحقاً، وبسرعة، بعد ان يكون قد أوحى، بصورة وهمية، ان ثمة موقفاً دولياً داعماً لما يجري في العراق من سياسات يتبعها الاحتلال الأميركي وحكومته المؤقتة المعزولة. فما دام المؤتمر غير قادر على ان يتقدم برؤية مخالفة لسياسات قوات الاحتلال وممارستها فإن الواقع العراقي سيتخذ مجراه وفق معادلة الصراع الداخلية، ولن يتمكن المؤتمر ان ينقذ الاحتلال وحكومته من المأزق. لأن مأزقهما نابع من سياستهما، ومن موقف غالبية الشعب العراقي مقاومة وممانعة ومعارضة وحتى صمتاً، ولامبالاة، ازاء تلك السياسات. اما لو أفسح المجال للاقتراح الفرنسي باشراك قوى المعارضة، او لطروحات دول الجوار وممثلي هيئة الأمم والجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي، لأمكن ان يلعب المؤتمر الدولي المذكور دوراً ايجابياً. ولن يغير من هذه الحقيقة ما صدر عنه من بيان مشترك خرج بلا رائحة ولا طعم، ما دام من غير الممكن زحزحة الموقف الأميركي. فالتوافق على بيان ختامي لا يعني الالتزام به. فما ان ينفض الجمع، وقبل ان يجف الحبر الذي كتب فيه البيان، حتى يعود كل طرف الى مواقفه. فأميركا وحكومة علاوي ستمضيان في تنفيذ مخطط الحسم العسكري بكل ما يقتضيه من ايغال في الدماء والتدمير. ويا للهول حين يمتزج كل ذلك بروائح عنصرية وصهيونية حملها الجيش الأميركي، وأخرى "طائفية" و"قومية". ولهذا فبيان مؤتمر شرم الشيخ سيتحول الى مِزَق ليس من طريق معارضيه، وبحق، وانما على يدي الادارة الاميركية نفسها. فأغلب المشاركين في المؤتمر لا يوافقون على المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال في العراق، ولا يريدون لبقائها ان يدوم. ومن ثم ليسوا موافقين، وإن لم يعلنوا، على سياسات حكومة اياد علاوي، وهي تصدر اوامرها باجتياح النجف ومدينة الصدر، واليوم الفلوجة والموصل، وأمس تلعفر وسامراء. وليسوا موافقين على اجراء انتخابات مزورة ستضاعف الاخطار على وحدة العراق وحريته واستقلاله وأمنه. ومن ثم فإن ما عكسه المؤتمر الدولي من مظهر لا يعبر عن الحقيقة. وينطبق هذا حتى على عدد من القوى التي تبدو من حيث الظاهر مشاركة في حكومة العلاوي او متحمسة للانتخابات، او صامتة على أمل ان ينتهي الاحتلال بعد الانتخابات. وليس أدل على ذلك من انسحاب الحزب الاسلامي من الحكومة بعد ان ولغت بعيداً في دماء أهالي الفلوجة. اما بعد الانتخابات فستنتقل قوى اخرى الى المعارضة بعد ان تكون ابتلعت الطعم بتأييد اجراء انتخابات باشراف نيغروبونتي - علاوي، وبلا شروط وتحفظات. والسؤال، كيف تكون الآلية الانتخابية هدفاً بذاتها وبغض النظر عن نزاهتها، او المتحكمين بمجراها ونتائجها، ما يعني ان تتحوّل الحكومة المؤقتة التي عينها بريمر حكومةً دائمة تضع الدستور هي ومجلسها النيابي الذي سيأتي على صورتها. فمن لا يرى التزوير والتلاعب منذ الآن، عليه ان يسحب يده من السياسة نهائياً. ولنسأل، جدلاً، ماذا تعني الانتخابات ان تركت تفعل فعلها التلقائي حتى لو ضُمنت نزاهتها؟ هذا يعني ترك العراق ليحكم بسياسة الغلب وسيف الغلب. فالغلب القاهر ليس له، بالضرورة، ان يأتي من طريق السيف فقط، وإنما يمكن للانتخابات ان تقود اليه. وذلك إن لم تقم لها ضوابط من وفاق وطني يراعي العدالة من خلال التراضي العام. فالدعوة الى الانتخابات، لمجرد الانتخابات، تخطئ مرة ثانية بعد عدم اشتراط ابعاد نيغروبونتي - علاوي عن التحكم فيها. وذلك حين لا تعطى الأولوية للوصول الى درجة معقولة من الوفاق الوطني من خلال مؤتمر جامع او من خلال لقاءات ثنائية تخرج بمحصلة مشتركة. واذا قيل ان هذه الخطوة وتلك متعذرتان فقد كان من الضروري اشتراط وقف المجازر التي اقترفتها قوات الاحتلال بغطاء من حكومة علاوي، وكان من الضروري، في الأقل، الضغط برفع ذلك الغطاء. اما اجراء انتخابات بعد كل ما حدث ويحدث من دمار وتقتيل وتنكيل حتى لم تبق عائلة في العراق، عدا الشمال، ليس فيها شهيد او جريح او معتقل او منكوب من اجل تمهيد الأرض للانتخابات، فيجعلنا نقول: يا لها من انتخابات! اما البديل فكف يد نيغروبونتي - علاوي تماماً، وإجبار قوات الاحتلال بالعودة الى ثكناتها. ثم مطالبة هيئة الأمم بالاشراف المباشر عليها، فضلاً عن التشديد على مراعاة ان تأتي نتائجها أقرب ما يكون الى التراضي والتمثيل الحقيقي.