تتصادف سلة من العوامل الاقتصادية والسياسية لتشكل تهديداً جوهرياً على الاستقرار في سورية، اذا لم تواجه باجراءات علاجية حاسمة سواء في ما يتعلق بالاصلاحات الداخلية سياسياً واقتصادياً او الانفتاح الاقليمي. والى تهديد قديم عمره نحو نصف قرن يعود الى تأسيس الدولة العبرية، ذلك ان التوتر الامني في الشرق الاوسط يفرض أعباء عسكرية كبيرة على سورية تصل الى نحو 30 في المئة من الموازنة العامة نحو تسعة بلايين دولار اميركي وستة في المئة من الدخل القومي بحيث ان 5.5 في المئة من مجموع وارداتها هي من معدات التسلح، فان العام المنصرم شهد ثلاثة تحديات جديدة: اولا، احتلال العراق وانتشار الجيش الاميركي على الحدود الشرقية لسورية وفقدانها نحو 1.5 بليون دولار اميركي سنويا كانت تجنيها بين عامي 1997 و2002 عبر التبادل التجاري والعقود الموقعة بين القطاعين العام والخاص في سورية والعراق. ثانيا، فرض الرئيس الاميركي جورج بوش في ايار مايو الماضي عقوبات "قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان" وحظر الصادرات باستثناء الدواء والغذاء وتلك التي "تساهم في التدفق الحر للمعلومات"، الامر الذي ادى عمليا الى زيادة كلفة الواردات السورية وتجميد بعض العقود الحكومية كان احدها عقد لاستيراد قاطرات من "جنرال موتورز" بقيمة تصل الى نحو 200 مليون دولار اميركي، اضافة الى تأخير المفاوضات لتوقيع اكبر عقد لاستثمار الغاز مع شركتين اميركيتين وكندية تصل قيمته الى نحو 750 مليون دولار. وعلى رغم ان المادة 311 من "القانون الوطني" الاميركي، لم تطبق رسميا الى الان على"المصرف التجاري السوري"، فان البعد النفسي اخذ مفعوله على عمليات المصرف الحكومي المسؤول عن جميع الاتفاقات الحكومية ويملك نحو 12 بليون دولار اميركي من الاحتياطي السوري البالغ نحو عشرين بليونا. ولا تزال الجهود جارية لاقناع وزارة الخزانة الاميركية بعدم تورط "المصرف التجاري السوري" في تمويل الارهاب والاستعداد لاعادة الاموال العراقية الموجودة لديه والمقدرة بنحو 265 مليون دولار اميركي. ثالثا، الضغوط الاميركية - الاوروبية على سورية لسحب قواتها من لبنان واصدار القرار الدولي 1559 ووضع آلية لمتابعة تنفيذ هذا القرار عبر تقرير يقدمه الامين العام للامم المتحدة كل ستة اشهر. وبسبب الابعاد الاقتصادية والامنية والسياسية للبنان بالنسبة الى سورية ذلك ان قطاعها الخاص يجري معظم عملياته المصرفية والمالية عبر المصارف اللبنانية، فان هذه الضغوط تترك اثارا جدية على سورية، طالما ان المصارف الخاصة السورية التي رأت النور بعد اربعين سنة من التأميم لاتزال متواضعة الاداء. وتظهر جدية هذه التهديدات الخارجية عندما تضاف الى صورة الوضع الاقتصادي الداخلي. اذ بدأ الحديث في الاسابيع الاخيرة عن عمق هذه التهديدات الى حد ان الرئيس بشار الاسد ترأس اخيرا اجتماعا ل"المجموعة الاقتصادية" في حكومة محمد ناجي عطري، التي شهدت في بداية تشرين الاول اكتوبر تغيير حقبتي الاقتصاد والمال فيها. تراجع النمو الاقتصادي ويأتي في مقدم هذه التحديات، تراجع معدل اجمالي الناتج المحلي من نحو ثمانية في المئة في منتصف التسعينات الى 2.6 في المئة في العام 2003، عندما بلغت قيمته نحو عشرين بليون دولار اميركي. وبقاء معدل النمو على حاله يعني انه سيكون نحو ثلاثة في المئة سنة 2015 فيما المطلوب هو ان يكون في حدود سبعة في المئة لمواجهة معدل الزيادة السكانية اللافتة. وعلى رغم انخفاض معدل الزيادة السكانية من 3.3 في المئة في العام 1990 الى 2.4 في العام الماضي، فان "المشكلة الاساسية" بحسب الاعتقاد الرسمي ان الذين ولدوا في "طفرة الزيادة السكانية" دخلوا الان الى سوق العمل بحيث تقدر الاحصاءات الرسمية عدد القوة العاملة الجديدة بنحو 220 الف شخص بينهم 185 الفا من العاطلين عن العمل. ويشير مدير "المكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار" نبيل سكر الى تحد اخر في هذا السياق يتمثل في "تدني المستوى التعليمي للقوة العاملة التي تشكل 33 في المئة من السكان، اذ ان 26 في المئة من القوة العاملة هي في القطاع العام، فيما يستوعب القطاع الخاص المنظم وغير المنظم 74 في المئة، مع العلم ان عشرة في المئة فقط من القوة العاملة يحملون شهادة جامعية"، اذ ان قسما كبيرا هم من خريجي الكتلة الشرقية. ويضيف سكر ان 80 في المئة من البطالة هي في سن بين 15 و24 في المئة، ما "يشكل تهديدا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لسورية". وكان مسؤول رفيع المستوى قال ل"الحياة" ان في سورية 645 الف عامل عاطل عن العمل، اضافة الى مليوني عامل بينهم 1.2 مليون في القطاع العام بينهم 68 الفا في 110 من الشركات الصناعية العامة. ويتوقع ان يرتفع عدد سكان سورية من 17.5 مليون شخص حاليا الى 22 مليونا سنة 2015 والى نحو 30 مليونا سنة 2030. ويضاف الى تحديي البطالة وتراجع النمو، وجود قناعة رسمية بقرب نضوب النفط السوري الذي شكل 35 في المئة من الايرادات في 2001 و44 في المئة العام الماضي في مقابل 14 في المئة من فائض الشركات العامة و12 في المئة من الضريبة على الارباح. وتقول مصادر رسمية ان "الخطورة تكمن مع ارتفاع النفقات الى نحو 800 بليون ليرة سورية الدولار يساوي 52 ليرة سنة 2014 بينما لن تتجاوز الايرادات 410 بلاييين ليرة بحيث ان عجز اجمالي الناتج المحلي سيكون بحدود 30 في المئة". وفيما تقول المصادر الرسمية ان العجز في ميزان الطاقة سيبدأ في العام 2011، فان خبراء مستقلين بينهم سكر يشيرون الى ان "الساعة آتية لا محالة التي ستصبح فيها سورية مستوردا صافيا للطاقة في العام 2015 بحيث ينحدر الانتاج السوري من النفط الى 300 الف برميل يوميا في العام 2020، ما سيؤدي الى خلل في الميزان التجاري، ذلك ان 65 في المئة من الصادرات السورية هي من النفط الخام. ويقدر خبراء مستقلون اجمالي الاحتياطي النفطي السوري بنحو ثلاثة بلايين برميل ما يوفر انتاجا قدره نحو 470 الف برميل يوميا يذهب ثلثاه الى الاستهلال المحلي. وفي حين تشير التوقعات الى ان التراجع سيبدأ بعد اربع سنوات، فان ذلك سيتزامن مع زيادة في انتاج الغاز الذي يقدر اجمالي الاحتياطي بنحو بنحو 240 بليون متر مكعب، مع دخول عقد استثمار المنطقة الوسطي في العمل وانتاج تسعة ملايين متر مكعب، ليصل الى 25 مليون متر مكعب سنة 2010. لكن مسؤولا سوريا يقول ان "اخطر مشكلة على الاطلاق" هي تراجع الكفاية الاستثمار الى 16 في المئة سنة 2002 بسبب ضعف ورداءة التقانة نحو 16 حاسوبا لكل الف شخص ومناخ الاستثمار والادارة وانتاجية العامل، لان ذلك يعني ان "تحقيق معدل نمو قدره سبعة في المئة يتطلب وفق هذه الكفاية استثمارات بقيمة عشرة بلايين دولار اميركي التي تمثل 46 في المئة من الناتج المحلي، فيما العودة الى كفاية الاستثمار في العام 1990 يعني اننا في حاجة الى اربعة بلايين دولار". ولعل الجانب الايجابي حاليا هو الاقرار الرسمي بهذه الصورة المقلقة لمستقبل سورية، على ان تليها الخطوة العلاجية المتمثلة بالقيام باصلاحية جوهرية لاصلاح الاقتصاد سواء عبر جذب اموال المغتربين السوريين البالغة نحو 50 بليون دولار او التزام الاستحقاقات الاصلاحية والسياسية والمدنية للشراكة مع اوروبا، وبينها تفعيل المجتمع المدني وتحويل دور الجمعيات الاهلية من خيري الى تنموي لمساهمة المجتمع في تخفيف الاعباء الاقتصادية، علما ان في سورية 584 جمعية بينها 280 جمعية خيرية يعتمد عليها نحو مليون شخص. ومن الامور الايجابية ايضا، ذاك الانفتاح الاستراتيجي السوري -التركي لرفع مستوى التبادل التجاري الى بليوني دولار اميركي ولاقامة مشاريع مشتركة وتوقيع منطقة تجارة حرة خلال زيارة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان في 22 الشهر الماضي. لكن التوتر الاقليمي يعود ليفرض نفسه على اجندة تحديات الاستقرار في سورية، ذلك اذ ان تحويل احلام الربط الاقليمي والافادة من رسوم العبور لأنابيب النفط والغاز وطرقات النقل وسكك الحديد بجعل الاراضي السورية "عقدة وصل" في الشرق الاوسط سواء في ما يتعلق بخط الغاز من مدينة العريش المصرية الى سورية ثم الى تركيا واوروبا او في ما يخص انبوب الغاز الجديد من العراق الى سورية فأروربا بطاقة 1.4 برميل يوميا واعادة تشغيل انبوب كركوك - بانياس بطاقة 200 الف برميل. يضاف الى ذلك ان باريس لا تزال تربط توقيت التوقيع الرسمي على اتفاق الشراكة الذي وقع بالاحرف الاولى في 19 تشرين الاول الماضي بتنفيذ القرار 1559، مع انها وافقت من حيث المبدأ على الاتفاق.