السمحة صفة هي من أبرز ما تتصف به لغتنا العربية. إنها لغة ذات سماحة. وقد جاء في معجم "محيط المحيط" أن السماحة: هي الجود والكرم وسهولة الجانب في الإعطاء وطيبُ النفس به... وأن السماحة: هي بذل ما لا يجب تفضُّلاً... وليس أدلّ على سماحة لغتنا العربية من تلك النقاشات والمجادلات التي دارت بين علماء اللغة القدامى، والتي جعلتهم ينقسمون الى مدارس أو تيارات أو مناهج، تنحو جميعها نحو التأويل حيال هذه القضية أو تلك من قضايا اللغة. والنشاط التأويلي هو في حدِّ ذاته مظهر من مظاهر السماحة، لأنه يكشف عن تعدد الإمكانات، وعن كثرة الاحتمالات حيال القضية الواحدة. لقد تعدَّت جهود علمائنا القدامى وأبحاثهم مسائل التصويب اللغوي، أي مسائل البتّ في وجوه الصواب أو الخطأ. تعدَّت ذلك بكثير، نحو الكشف عن جماليات اللغة وأسرار العبقرية الكامنة فيها. وكان لهم في ذلك أن يكشفوا عن وجوه لا تُحصى لسماحة لغتنا العربية، حتى أن واحداً منهم أشار الى إمكان الصواب في كل وجه من وجوه التأويل في قضية من القضايا. ومما يشهد أيضاً للغتنا بالسماحة تعدُّد العلوم اللغوية وكثرتها، من نحو الى صرف الى فقه... وكذلك تعدُّد العلوم المتفرِّعة من اللغة أو المرتبطة بها على نحو ما كعلوم البلاغة وعلم العروض وعلم الحديث وعلم الكلام... وما إلى ذلك. لقد أطلق البحث في سرِّ الإعجاز القرآني، في القرنين الرابع والخامس للهجرة على وجه الخصوص، أطلق النشاط التأسيسي لتلك العلوم الكثيرة، المتعلقة باللغة او المتفرعة منها، وإن كان التأليف في شتى الميادين بدأ قبل هذين القرنين بقليل، إذ كان العرب آخذين في الدخول في عصر التدوين والكتابة، بعد عهود من الثقافة الشفاهية التي كان عمادها الشعر. ولقد ظلّ الشعر مرتكَزاً من مرتكزات التأليف، ومصدراً من مصادر الحُجَج في أنواع القياس، وأبرزها القياس اللغوي الذي غدا عند الفقهاء وعلماء الأصول من وسائل استنباط الأحكام الشرعية. وفي هذا أيضاً دليل على الرابطة الوثيقة بين اللغة والفكر عند العرب. لقد كانت اللغة العربية - وينبغي أن تظل - لأبنائها ذلك الفضاء الشاسع لإنتاج الأفكار والتصوُّرات والعلوم، وذلك لأنها تنطوي على امكانات لا تنفد، بل على إمكانات تعصى على الحصر أو التحديد. ولم تكن علوم اللغة ومتفرعاتها سوى محاولات لوضع أبرز القواعد أو المقومات التي تتمحور حولها عبقرية هذه اللغة، وتشهد تلك العلوم - وإن كانت على درجة عالية من الإحكام - على أنها لم تُحِطْ بكل ما سعت الى الإحاطة به في هذا الجانب أو ذاك من جوانب لغتنا العربية. ففي نواحي الصرف والاشتقاق على سبيل المثال، تدلُّنا كتب اللغة - ومعها المعاجم التي كان العرب رواداً في صناعتها - على أن اللغة العربية هي من أرحب اللغات، ومن أكثرها اشتمالاً على إمكانات التصريف، ومن أكثرها تشعُّباً وغنى في الاشتقاق. وفي هذا مظهر من مظاهر السماحة التي بدأنا كلامنا عليها. من مظاهر السماحة أيضاً ما تكشف عنه علوم البلاغة من امكانات كبيرة في تطويع التراكيب النحوية وتنويعها، تبعاً لأغراض التعبير ولمقتضيات الذوق والاستنساب. ولو أخذنا من هذه العلوم "علم المعاني" على سبيل المثال، لوجدنا أنه يكشف عن وجوه كثيرة، بل عن طُرُق لا تُحَدّ، في تعليق الكلمات - بعضها بالبعض الآخر - داخل الجُمَل أو العبارات. وهذه الوجوه أو الطُرُق هي التي أطلق عليها عبدالقاهر الجرجاني في كتابه الشهير "دلائل الإعجاز" اسم "معاني النحو"، ونذكر منها: التقديم والتأخير والتنكير والتعريف والفصل والوصل والإضمار والإظهار والتكرار والحذف... الخ. ليس لنا في هذه المقالة ان نشير الى ما قدمه كل علم من علوم اللغة ومتفرعاتها، وإنما أردنا في ما تقدّم أن نشير الى أن هذه العلوم حاولت أن تضع القواعد، إلا أنها لم تُحِطْ بكل شيء، فقد ظل هنالك في لغتنا العربية ما لا يستوعبه التقعيد. كما أن القواعد نفسها لا تفي أحياناً بغرض القبض على الظواهر التي وُضعت من أجلها. بكلمة أخرى، نستطيع القول إن لغتنا العربية هي أوسع من قواعدها، هي أوسع وأغنى من أن تسكن في القواعد أو تُحدَّ بها. وفي هذا أيضاً تعبير عن سماحة هذه اللغة، التي لم يُقيَّض لها - ويا للأسف - ما تستحقه من اهتمام، على مدى قرون عدة سابقة. بهذه الملاحظة، نشير الى أن علوم النحو والصرف والبلاغة... وغيرها لم تتطور في شكل ملحوظ، منذ زمن طويل، أي انها لم تواكب التطور الذي لا بد من أنه قد حصل في اللغة ذاتها. فالعلوم المشار اليها، وإن كانت لا تستطيع استيعاب الظاهرة اللغوية استيعاباً تاماً، عليها أن تعمل دائماً على التصدي لما يستجدُّ في اللغة، من ظرف الى ظرف، تبعاً لمستجدات الحياة التي لا بد من حصولها عبر العصور. وفي مثل هذا التصدي، يكون لتلك العلوم أن تتطور في ذاتها، أن تتكيف مع كل جديد. وهذا ما نفتقر - نحن العرب - اليه، إذ ان علومنا اللغوية لا تزال كما وضعها أسلافنا منذ زمن بعيد. كيف للغة سمحة كلغتنا ألا تحظى بما تستحقه من أبنائها الناطقين بها؟! ثم، كيف لأبناء هذه اللغة - وهي على كل هذا القدر من السماحة - أن يعرفوا أي نوع من التعصُّب أو التقوقع أو الركود؟ الحصار تعيش لغتنا اليوم في حال حصار، حصار يُطبق عليها من جميع النواحي، ويسدُّ أمامها منافذ التطور، بل يجعلها تتراجع في الاستعمال، أي لدى الناطقين بها، الى حدود بات السكوت حيالها إما يأساً من إمكان القيام بانتفاضة لغوية معينة، وإما تجاهلاً للمشكلة أو عجزاً عن مواجهتها من قِبَل المعنيين أو المسؤولين في جميع المجالات الثقافية، لغوية كانت أو تربوية أو أدبية أو حضارية، أو غير ذلك. ولكي لا يكون كلامنا شديد العمومية، سنشير الى بعض مظاهر الحصار الذي تعانيه لغتنا العربية. أولاً، تشكو لغتنا من حصار القواعد، أو بالأحرى من حصار العلوم اللغوية التي مضت عليها القرون من دون أن تشهد تحولات أو تغيرات تذكر. وكأن هذه العلوم يمكنها أن تحيا في معزل عما يطرأ على اللغة من تغيُّرات في الاستعمال. ان حيوية اللغة تأتي من قدرتها على التكيُّف مع مستجدات الحياة، وهي حيوية لا يُنكر أحد تمتُّع اللغة العربية بها. إلا أن تحولات اللغة وتكيُّفها مع ظروف استعمالها عبر العصور لا ينبغي أن تكون محفوفة بصرامة في العلوم التي تستنبط القواعد اللغوية أو تستقرئها. ماذا قدّمنا من جديد في فقه اللغة، وفي علوم النحو والصرف والبلاغة خلال قرون عدة منصرمة؟ أليس الجمود في هذه العلوم نوعاً من الحصار الذي عانت وتعانيه اللغة العربية، وهي تواجه من عصر الى عصر، بل من مرحلة الى مرحلة، تحديات حضارية من كل نوع، في ميادين العلم والفكر والأدب، وما الى ذلك؟ ان العمل على جعل العلوم اللغوية أكثر طواعية ومرونة لهو أمر في منتهى الأهمية، وله أبعاده التربوية والتعليمية، ومن شأنه أن يجعل اكتساب اللغة وإتقانها أمراً يسيراً، بل تلقائياً وبديهياً، وليس كما بات اليوم في مدارسنا وجامعاتنا أمراً شائكاً بل مُنفِّراً للتلاميذ والطلاب. ثانياً، تشكو لغتنا من حصار يتمثل بكثرة الممنوعات أو المحظورات في حقول الفكر والتفكير. فالحرية في هذه الحقول محدودة جداً، وهي تصطدم دائماً بحواجز أو بعوائق تجعلها تتحول الى خوف أو تحايل أو مداورة. كيف للغتنا العربية أن تتطور وتنمو اذا كانت ميادين البحث والتفكير غير مفتوحة تماماً؟ من المؤسف حقاً ان الكثيرين من القيِّمين عندنا على أمور الثقافة أو التربية أو التعليم ينظرون الى اللغة وكأنها مجرّد آلة، فلا يرون فيها فضاء للفكر والتنفُّس. ثالثاً، تشكو لغتنا من حصار يتمثل بفوضى شاملة في حقول التعبير، كتابة أو شفاهة. وهنا تلعب وسائل الإعلام المختلفة، والمرئية منها هي الأكثر خطورة، دوراً أساسياً وحاسماً. وذلك في تعميم أنواع من التعبير اللغوي الرديء أو السطحي. ومجال الشكوى هنا واسع جداً، ويمكنه أن يجتلب كلاماً كثيراً. ولهذا، سنحصر كلامنا في هذه النقطة بأرقى ظواهر التعبير التي أشرنا إليها، ونقصد الظاهرة الأدبية، التي يُفترض فيها أن تكون الحاضنة الأولى لأرقى تجلِّيات اللغة. في مجال الكتابة الأدبية، بلغت الفوضى حدّاً لم يعُدْ من الممكن معه وصف التحولات اللغوية المتأتية من الأدب. وقد أسهم في إرباك الوضع وزيادة تشويشه طغيان الكتابات الأدبية العادية أو الرديئة، طغياناً بات من الصعب حياله التمييز بين تطور "ايجابي" وآخر سلبي في ما يتعلق باللغة. إننا إذ نتذمر من الفوضى الحاصلة في مجال الأدب لا ندعو الى الحد من حرية التعبير الأدبي، وليس لنا أن ندعو الى مثل ذلك وقد دعونا قبل قليل الى تحرير نشاطنا الفكري من جميع أنواع الممنوعات. ولكن الفوضى، كالمنع، تُشكِّل هي الأخرى حصاراً للغة. رابعاً، تشكو لغتنا من حصار، لا أدري ما إذا كان الأصل لغيره أو ناتجاً من غيره من أنواع الحصار الأخرى، ويتمثل بسوء الطرائق والمناهج التي تُخصّص لتعليم اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا. ومن الطريف ان جميع المعنيين يُقرِّون بذلك السوء، ويتحدثون عن النتائج المخيبة التي تُفضي اليها تلك الطرائق والمناهج، حتى انهم يعترفون بأن التلميذ منذ مراحل التعليم الابتدائية ينشأ على نفور من اللغة العربية ومن تعلُّمها. يُقرّون بهذا كله، ثم لا يتدبرون وسائل للخروج من المشكلة بالعمل على تحسين نظام التدريس المتعلق باللغة العربية. أليس من الطريف جداً والمؤلم جداً أن يجد تلامذتنا سهولة في تعلم لغات أجنبية لا يجدون مثلها في تعلُّم اللغة العربية؟! أنواع كثيرة من الحصار تطبق على لغتنا العربية. وقد حاولنا أن نتكلم على بعضها. وقد يوحي ما قدّمناه بأننا ازاء مشكلتنا اللغوية في دوامة تشبه الحلقة المفرغة، التي تجعلنا نحار من أين نبدأ بالمعالجة. إلا أن ذلك لا يعفينا من التفكير الدائم في الموضوع، ومن التفتيش الدائب عن نقطة للبداية.