اصطلح على تعريف اللغة بأنها ظاهرة اجتماعية انسانية، عبارة عن منظومة اشارات تحقق وظائف المعرفة والتواصل في عملية النشاط الإنساني لأي نشاط كان. وفي مسار نشأتها وتطورها تؤدي اللغة دوراً مهماً في عملية تشكيل الوعي الانساني الاجتماعي، لا بل هي أحد أشكال هذا الوعي، أي انها شكل من أشكال الفكر والتعبير عنه. وللغة، أي لغة دور أساسي وضروري في أي نشاط تعميمي فكري، هي واسطة انتشاره، علماً ان اللغة والفكر ليسا شيئاً واحداً، واللغة بعد زمن طويل من نشوئها وتطورها تصبح مستقلة نسبياً، تصير لها قوانين خاصة بتطورها وبمسارها المختلفين عن قوانين الفكر ومساره. وبسبب نسيجها الداخلي المحدد التركيب لا يمكن لعلامة لغوية في طبيعتها ومعناها أن تُفهم خارج هذه الرؤية وهذا النسيج المحدد الأمر الذي أفسح المجال امام امكانات اللغة وقدراتها الواسعة جداً. فاللغة وهي القادرة على تلبية حاجات الناس جميعاً، بما فيها المفردات والأصوات اجتماعياً، اقتصادياً، فكرياً، نفسياً، فنياً، عسكرياً، صحياً، علمياً، هذا على سبيل المثال لا الحصر للميادين التي تستطيع اللغة تلبيتها، كلها تنتظم في قواعد خاصة بها، تتوزع مرتبة متقاطعة، فتتولد وتنمو في ذهن الفرد والجماعة الناطقة بلغة معينة، فتمكن مستعملها من انتاج عبارات لغته محادثة وكتابة، كما تمكنه من فهم مضامين ما ينتجه افراد مجموعته الاثنية من عبارات وأفكار، فتنشأ بينهم الصلة النفسية والفكرية الوجدانية وتمتد لتكوّن وتنمي العلاقات الاجتماعية الاقتصادية. اللغة ليست هدفاً أو غاية بل هي اداة يتم بها التواصل والاستمرارية لأفراد أو لمجتمع معين، لتستقيم علاقاتهم. معرفة اللغة ضرورية لحياة اجتماعية مستقرة يعبّر بها لحاجات ورغبات وأحاسيس ومواقف وتصرفات في ادارة المعيشة وتبادل الأفكار. بواسطة هذا الاندماج تزداد الخبرات وتكتسب المهارات ويمكن الاطلاع على جديد الآخر لتؤلف معارف جديدة وتقوم حضارة. اللغة مثلما هي تشترك في تشكيل سلوكيات الأفراد والشعوب على اختلافها، تعكس هذه السلوكيات في كل أشكالها وجميع ملابساتها كما تتأثر بها. نستطيع ان ندرك مقدار ذكاء الفرد من خلال استخدامه للغة، نستطيع ان نتعرف الى طبيعة تفكيره وأبعاده، وتكوينه وسلوكه النفسيين، ووجدانه وشعوره وعقائده وعاداته وتقاليده بمستويين اجتماعيين، العام والآخرين هم - انتم - هو - انت - هي والخاص أنا - نحن وهذا النشاط ما يميز فرداً من فرد اخر، ومجتمعاً عن مجتمع، حيث تكون اللغة العصب الأساس الحي لكل نشاط اجتماعي انساني. من هنا لا نستغرب اذا ما أطلق على اللغة التي ينطق بها الإنسان والكلمات الأولى التي سمعها حينما كان طفلاً ويعيد تكرارها ويكتسبها باللغة الأم لغة قومه، الا ان كلمات والفاظ اللغة هي أكبر من ان يحيط بها انسان. العائلة جزء من المجتمع الكبير المميز بلهجات متعددة، الموزعة على مدن - ضواح - أرياف حضر - بدو. وحياة هذا المجتمع الخليط. تبقى ذات مستويات متنوعة، مختلفة الأشكال، متعددة الاتجاهات، بحسب اختلاف فئات المجتمع فيه وطباع أفراده، أهدافهم، عاداتهم، تقاليديهم، وخلفياتهم التاريخية، العرقية، الدينية والثقافية، تبعاً لاختلاف مناطق السكن والمؤثرات الحضارية المحيطة، الأمر المؤدي الى تباينات واختلافات في الموروثات اللغوية واللهجات وصولاً الى أساليب تعبير مغايرة تميزهم كوحدة ثقافية اجتماعية تنتقل من جيل الى جيل آخر وينحت منها كالمنشار صعوداً وهبوطاً اضافة - انقاص - إلغاء. وتتغير طرق المعيشة ومصادرها وأهدافها باختلاف الأزمنة والأمكنة. ومع هذا التغير والتطور المتواصل نفسه تتم اكتشافات جديدة، اختراعات، أدوات، مواد، أراض، تسميات، مواصفات، ظواهر طبيعية، اجتماعية، جسدية نفسية، كل هذا للمثال لا للحصر، تشتق كلمات جديدة، من أصول قديمة لكل علم أو وجه من وجوه الحياة، وتستعمل أدوات جديدة وتستعار الأسماء الأجنبية فتعرّب وتصبح جزءاً من لغتنا العربية، ويعتمد عليها في تسيير أمورنا وحياتنا، وتدخل ضمن عبارات وصيغ لغوية للدلالة على مفاهيم محدثة، وتبدل ألفاظ بأخرى وتندثر القديمة، ويمرّ الزمن وتتغيّر الأذواق فترتقي اللغة أو تهبط مع المتغيرات الحاصلة. تعددت المترادفات وكثرت الأضداد، ونشأت وظائف ومدلولات جديدة، ومواقع الكلمات والصفات إما بالنقل وبالتحويل وإما بالمجاز والكناية وأحياناً بالاستعارة والتورية والرمز. وتختلف أهداف وأغراض الناس في ما بينهم من اللغة وتعدد المعاني وتنمو وتغتني مع مرور الزمن. فضل القرآن الكريم مع مجيء الإسلام وبفضل القرآن إنا أنزلناه قرآناً عربياً نقلت من اللغة ألفاظ من مواضع الى مواضع أخرى بزيادة زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت كما ورد في السيوطي "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" ص 294. اللغة تصبح أحد الشروط الأساسية لنمو الشعور الديني وتكوين القومية فكيف تم لها ذلك؟ مع اتساع الفتوحات العربية وانتشار الإسلام في أصقاع جديدة واختلاط العرب بشعوب أجنبية، لها لغاتها وثقافاتها العريقة وتاريخها الموغل في القدم الفارسية الفرعونية، القبطية، البيزنطية، الاغريقية، السندية، الهندية وعلى رغم تعدد القبائل العربية وتعدد لهجاتها وانتشارها مع الفتوحات وما حملته معها من تاريخها المليء بتراث ثقافي وديني الى المناطق الجديدة ومن انضوائها تحت راية الاسلام، الا ان القرآن الكريم حفظ لنا اللغة العربية من خلال عروبته احكام وشروط قراءته، الفاظه، معانيه، مرادفاته على أسس لغوية وقواعد النحو، الصرف اعتمدت لدى كل افراد قبائل شبه الجزيرة العربية في المدينة والبادية يومذاك في حياتها اليومية المتنوعة المقاصد والوسائل، ورأت فيه تاريخها وحكايات عنها ثمود، العماليق، سبأ، أهل الكهف، فرعون وشق البحر وأساطير الأولين. التقريب والتفاهم والتثاقف وعند قراءة القرآن الكريم تُلغى العنعنة، الكشكشة، الشنشنة، التي تُميز بها قبيلة عن أخرى، وحُصرت فروق اللهجات للقبائل والشعوب العربية من الأندلس مروراً بشمال افريقيا وصولاً الى بلاد الهند، بالقراءات السبع للقرآن الكريم، تيسيراً من رب العالمين في نشر دين التوحيد. لا شك في ان انتشار الدين باللغة العربية في هذه البلدان واتخاذهما رسمياً لغة وديناً للدولة القرآن والسنة المنهلان الوحيدان للتشريع والفقه ووضع القوانين كان عاملاً مساعداً على التقريب والتفاهم والتثاقف والتفكير بالمصير الواحد بين ابناء قبائل البلد الواحد شبه الجزيرة العربية ذات اللهجات المتعددة، وما ظهور مدارس ومذاهب النحو في الكوفة، البصرة، بغداد والحجاز في القرن الثاني في ما بعد الا دليلاً على اختصار الفروق وانحسارها في مذهبين فقط الكوفة - البصرة ليندمجا على يد العلامة سيبويه في القرن الثالث الهجري خصوصاً بعد الاختلاط الكبير بداية، واسلام القبائل، ثم فتوحات الشام ساحلاً وبادية، مصر، العراق، واستخدام الحكام لكتبة، أطباء، منجمين، مهندسين، كيميائيين من ابناء تلك المناطق سريان، اقباط، آشوريين، فرس، اروام، يهود، الذين كتبوا ملاحظاتهم وتقاريرهم الدواوينية الى مسؤوليهم بلغاتهم المحلية في كل قطر، ما استدعى القيام بخطوة تعريب الدواوين. امتد نفوذ الدين الاسلامي والخضوع لنواهيه والعمل بشرعته مع قيام دول للمسلمين والعرب وامتدادها الجغرافي من الاندلس غروباً الى وسط وجنوب شرق قارة آسيا وشمال بحر الخزر، وجنوب وشمال الصحراء الافريقية الكبرى وشرقها. وأقاموا فيها دولهم ومسلموها قرأوا القرآن باللغة العربية كما نزل. وأفواج الملايين المنتسبة الى الدين الجديد تحاول جاهدة التكيف مع المجتمع الجديد ومتغيراته، تأتي بلغاتها ولهجاتها لترطن باللغة المحلية المحكية. اللغات تتطور مع الزمان، وما يحسن في عصر ويناسبه قد لا يتماشى مع عصر آخر واللغة التي تجمد في تاريخها تزول بزواله. اللغات يستمد بعضها من بعضها الآخر. حتى العقد الثاني من القرن العشرين كان يوجد 36 لغة محلية حية في افريقيا وآسيا تُكتب بالأبجدية العربية. اضافة الى ما اغتنت به اللغات الأوروبية من مفردات ومصطلحات وعبارات عربية بواسطة وخلال حقب مختلفة غير مترابطة الأندلس، الحروب الصليبية، الرحلات التجارية البرية، البحرية، رحلات الحج وتوزعتها اللهجات القومية الأوروبية، محادثة وكتابة، ما فتئت ان صارت جزءاً من قاموسها. وكلمة حق تقال عن اختراع فن الطباعة انه أخّر موات اللغة اللاتينية لغة الكنيسة لفترة بسبب ان طبع "الكتاب المقدس" تم بهذه اللغة لفترة، ما سمح لهذه اللغة بالعيش مدة أطول وعجل فرص ظهور اللغات المحلية القومية كأحد العناصر الأساسية والمساعدة لقيام وحدات سياسية جديدة الآن يطبع بأكثر من 60 لغة عالمية ومحلية. وتراجع اللاتينية حتى داخل الكنيسة الغربية شبيه بتراجع السريانية داخل الكنيسة الشرقية. لولا القرآن الكريم لكان عالمنا العربي يعيش حالة انقسامات سياسية ثقافية ضمن مئات الوحدات السياسية لكل منها ابجديتها الخاصة كما هي حال أوروبا اليوم. اللغة كائن حي بمظهريها المحكي والمكتوب فهي معرضة للتغير والتجدد في الشكل والمضمون، والتغيير يتجلى في الشكل أسرع وأبرز لأنه هو الظاهر والمستعمل الذي تتعامل به الناس، بينما التغير في المضمون الأسس والقواعد ابطأ ويستغرق وقتاً أطول ولا يلاحظ انه أصبح مميزاً إلا بعد مرور فترة زمنية يكون التباين الشكلي فيها كبر وبدأ يطال الأسس، مما يجبر النحاة وعلماء اللغة والألسنية على اتخاذ موقف من المستجدات. هكذا كانت نشأة ومسيرة وتطور حياة العديد من اللغات كما حدث مع السامية وما تفرع منها كالعربية السائدة وما اندثر كالآرامية البائدة وأحد فروعها السريانية التي نشهد احتضارها بسبب غلبة الأكثرية السكانية للناطقين باللغة العربية واندماج متكلمي السريانية الاقلية في هذه الأكثرية بالاضافة الى هجرتهم مع انعدام مزاياها القومية. القرآن الكريم وان كان أوضح وأجلى مظاهر اللغة العربية وأعظمها الا انه ليس هو الأصل للغة العربية. القرآن بلغ باللغة العربية أعلى ذرى تطورها في ذلك العصر ولم تكن لتبلغ ذلك من دونه. الشعر الجاهلي الشعر العربي الجاهلي لوحده لم يكن بامكانه ان يبلغ باللغة العربية ما بلغته من تطور ورقي بواسطة القرآن المعجزة ولولا القرآن لاندثرت اللغة العربية كما اندثر غيرها من اللغات. بفضل القرآن كانت للغة العربية اصالة تطورها، وخير معبر ومثال عن طواعية وقابلية هذه اللغة على التكيف في مناخات الفكر الانساني يومذاك، الشروط الموضوعية للعلاقة ما بين اللغة والقرآن الكريم والتراث قامت بحكم حاجات وقضايا اجتماعية، فكرية، اقتصادية، دينية، نفسية. كلها مجتمعة مترابطة عضوياً وموضوعياً بالوضع التاريخي الذي احدثه ظهور الاسلام حتى نهايات القرون الوسطى، لعب فيها كل من المجتمع والفرد دوره كتلبية واستجابة طبيعية لهذه المتطلبات والشروط، والخضوع لاحكامها من دون حسبان مسبق أو تخطيط مدبر. العلاقة بين اللغة العربية والنتاج الفكري، الأدبي، النقدي، البلاغي، والشعري، النحوي، الفلسفي، التاريخي. كل هذا له علاقة عضوية مع القرآن الكريم توجب الرؤية الى الصلة في ما بينها وبين توجهاته العقيدية الدينية الألهية، فالمواضيع التي عالجتها هذه الصنوف من النشاطات الأدبية الانسانية المستجدة في ظل أضواء وهدي القرآن الكريم. هذه العلاقة ينظر اليها من خلال العلاقات الاجتماعية القائمة، الحية والنشيطة. العلاقات المتأثرة والمؤثرة في ومن المجتمع والفكر أي ان النشاط الاجتماعي بمجمله في الزمان والمكان المحددين اللذين عايشهما الناس ومارسوا حياتهم فيهما وسط الحراك الاجتماعي تحت تأثير متطلبات التركيبة الاجتماعية وعلاقتها القائمة في ظل مدٍّ وجزر في مسار تاريخ تطورها ومستقبلها التصاعدي وان لم يكن مستقيماً، وما نتاج المفكرين والأدباء والفنانين في مختلف مناهلهم وأهدافهم الا بفعل هذا الحراك وقوانينه. اللغة والتراث والتاريخ التراث كتب باللغة العربية انها كلغة ليست سوى اداة تعبيرية عن الوعي الاجتماعي في بيئة اجتماعية تاريخية معينة، فهي بهذه الصفة اداة اجتماعية. اللغة تنمو وتتطور بقوانين آليتها الخاصة بها التي هي اكثر استقلالية من المحتوى الذي تعبر عنه وقوانين هذه الآلية الداخلية الخاصة باللغة التي لا تعمل بمعزل عن قوانين حركة الفكر وقوانين حركة المجتمع. اللغة تنمو وتتطور ضمن التطور التاريخي للوعي الاجتماعي المعين الذي تطور ونشأ ضمن التطور التاريخي للمجتمع وهذا هو شأن اللغة العربية. واذا تفحصنا قوانين حركتها الوضعية الاشتقاق - النحت - التعريب نجد انها مطواعة تستجيب لاحتواء كل أشكال الوعي الاجتماعي، النفسي، الثقافي المناسبة لتلك البنية الاجتماعية فتستوعب وتسلك وتهضم في قاموسها ونظامها القواعدي كل مستجد. ففي الجاهلية الشعر والأمثال والحكم واخبار الغزوات والصعاليك والحروب وقصص الحب احتوتها أيضاً اللغة ذات البنية البسيطة، لصيقة بتاريخ المجتمع العربي القبلي البسيط بكافة صوره وحيثياته، ومع الاسلام والتدوين القرآن - رواية الحديث - التفسير - السيرة - تدوين الشعر - الفتوحات، وفي ما بعد أي مع الصحاح - العين - المحيط - اللسان صار للغة بنيتها المركبة على مثال تاريخ ذلك المجتمع العربي لما بعد العهدين الأموي - العباسي مروراً بالنبوي والراشدي والمؤلف اثنيات مختلفة عرب، فرس، ترك، زنج، بربر، مغل، هنود أي، مجتمع يبدو مندمجاً في المظهر كوحدة سياسية دينية اجتماعية اقتصادية واحدة، انما في الواقع هو مجتمع متقاطع متشابك متنافر الاهواء يعيش حالة متغيرات وتطورات وان جمعهم الدين والكتاب الواحد القرآن الكريم. اللغة العربية ارتبطت بالقرآن في مسار تطورها وبتاريخه العربي الإسلامي. وهذا لا يعني انها مربوطة برابطة الدم والنسب بل انها تحمل مضامين الخصائص التاريخية التي تعزى الى الاشكال الحضارية الناتجة عن مسيرة العرب الثقافية وتفاعلهم خلالها مع مجموعة من الشعوب شاركتهم صنع هذه الأشكال وصناعة تاريخها. والإسلام بدلالته الحضارية لا الدينية وصناعة هذا التاريخ المشترك هي نتاج للبنية الاجتماعية المركبة المتكاملة التي ارتبط وضعها السياسي الحقوقي التشريعي بنظام دولة الخلافة وأسسها المادية. وما ينطبق على اللغة ينسحب على التراث أيضاً. * استاذ تاريخ ولغة عربية.