"الشمس المغتالة" فيلم جديد للمخرج الجزائري عبدالكريم بهلول وهو مخصّص للشاعر جان سيناك من خلال سيرته وكتاباته ومواقفه من الحياة واللغة، في مرحلة حكم الرئيس هواري بومدين 1965 - 1979، وينطلق الفيلم من قصّة طالبين يقصيان من مهرجان المسرح الجزائري فيقودهما رفضهما للاقتراب من الشاعر سيناك، وبالتالي يتحوّلان شاهدَين حيّين على نضاله المستمرّ، ودفاعه عن حرية الرأي، والتعددية الثقافيّة واللغويّة. مع فيلم عبدالكريم بهلول الذي يعدّ عملاً ناضجاً وواعياً، يعود الحديث مجدّداً عن الشاعر جان سيناك. وهكذا، بعد مرور ثلاثين عاماً على رحيل هذا الشاعر الذي ظنّ النظام يوماً أنه انتهى منه مرّة واحدة وإلى الأبد، يلتفت الإعلام الجزائري بقوّة إلى سيناك الذي تحوّل رمزاً من رموز الحرية والتعددية والانفتاح والتجدّد. أمّا عن الدافع إلى إنجاز مثل هذا الفيلم اليوم، فيقول المخرج بهلول "إنّه بمثابة ردّ اعتبار وإحياء ذكرى الشاعر الراحل الذي ترك بصمات قويّة على الحياة الثقافيّة الجزائريّة. ولم يغب صوته قطّ عن الجزائر، ففي كلّ مرّة يجرى فيها تحليل الوضع في هذا البلد يُذكر الرجل وتذكر أشعاره ومواقفه، هو الذي طلب أن يدفن في مقبرة جزائرية فرفض طلبه". ويستطرد المخرج قائلاً: "تعرّفت إلى الشاعر سيناك في الجزائر حيث كنت من مستمعيه ومن المعجبين به، فبعد الانقلاب السياسي ومجيء بومدين إلى الحكم، تمّ إسكات الأصوات الحرّة في الجزائر، ومع ذلك ظلّ الشاعر سيناك يكتب الشعر ويقيم المسرحيات ويعمل في الإذاعة، وكان كل ما يقوم به يبدو مدوياً في الساحة الجزائريّة". قتل سيناك عام 1973 في ظروف غامضة لم تعرف حتى اليوم تفاصيلها، لكن من المعروف أنّ اغتياله كان تصفية سياسية تتحمل مسؤوليتها أجهزة الحكم آنذاك. وكان لا بدّ لهذا الحكم من أن يقدّم مذنباً ما، فتمّ تقديم شخص اعترف بأنّه أقدم على الجريمة بدافع السرقة. غير أنّ القبو الذي كان يقطنه سيناك كان خالياً إلاّ من الكتب ومن أوراقه ورسائله الخاصّة. ومعروف أنّ سيناك، بعد طرده من الإذاعة، ورفض طلبه لأيّ عمل آخر، كان يعاني الفقر وبالكاد يستطيع أن يأكل، بل كان يقضي أحياناً يومين أو ثلاثة على بعض فتات الخبز، باعتراف أصدقاء مقرّبين. ومع ذلك، فإنّ هذا الشاعر، "المتفائل بيولوجياً"، على حدّ تعبيره هو نفسه، فضّل البقاء في الجزائر على السفر على رغم كلّ العوائق والإجراءات غير العادلة التي اتخذت في حقّه. ومنذ اغتياله إلى الآن، فإن جان سيناك لا يزال حاضراً في ذاكرة جيل كامل من الجزائريين عبر أشعاره ومواقفه الشجاعة. وفي الواقع، إنّ انفتاح سيناك الثقافي، وتأثيره العميق في الأدباء الشباب الذين تحلّقوا حوله، ومواقفه السياسيّة الصريحة، وحريته في التعبير، وأصداء آرائه حول الجزائر في الخارج أيضاً، كل ذلك جعل منه شخصاً غير مرغوب فيه، وتنبغي إزاحته عن الساحة الجزائريّة حينذاك. ولد سيناك عام 1926 بالقرب من مدينة وهران، وكان صديقاً لكلّ من ألبير كامو وإيمانويل رابلاس ورينيه شار الذي استضافه في منزله وقدّم له مجموعته "قصائد" التي صدرت عام 1950عن دار "غاليمار". عمل في الإذاعة الجزائرية ونشر في الكثير من المجلات الأدبية المتخصّصة، وعُرف بدفاعه المستميت عن الثورة الجزائرية فانخرط في صفوف "جبهة التحرير" واختار العيش في جزائر ما بعد الاستقلال. اتخذ من اسم يحيى الوهراني اسماً مستعاراً لكتاباته الشعرية والأدبية. تولّى سيناك مناصب عليا في حكومة الرئيس بن بلة، منها منصب مستشار لوزير التربية والتعليم، كما اشتغل في القناة الثالثة الجزائرية الناطقة بالفرنسية وكان له برنامج خاصّ بالشعر. أمّا برنامجه "الشعر على جميع الجبهات" فكان من البرامج المسموعة جداً بحيث كان ينافس أكثر البرامج إثارة للانتباه. كانت الكلمة لدى سيناك جسراً إلى الآخر ووسيلة من وسائل النضال هو الذي أخذ على عاتقه الوقوف إلى جانب الأقليات والثقافة الشعبية. فيلم "الشمس المغتالة" حاز الجائزة الكبرى لمهرجان "باستيا" السينمائي العام الماضي. ولا يشكّل هذا الفيلم التفاتة يتيمة إلى الشاعر المغتال، بل هو امتداد لسلسلة من النشاطات الثقافيّة التي تحتفي بسيناك، وبالأخصّ في مجال الإصدارات، إذ أعيدت في السنوات الأخيرة في فرنسا طباعة أشعاره وكذلك روايته "مخطّط لأب" وكانت صدرت في الستينات عن دار "غاليمار". وصدرت كتب عدّة حول حياته ونتاجه ومنها ما يحمل توقيع كلّ من جمال الدين بن شيخ والراحل رباح بلعمري. من هذه الكتب: "سخرية ودوار"، "يوميات الجزائر"، و"أمثولات إدغار"، "مقتل شاعر"...