إذا كانت المواسم التلفزيونية الرمضانية الماضية شهدت تراجعاً في عدد "أغاني الشارة"، المرافقة لمقدّمات المسلسلات المصرية ونهاياتها، فإن هذا التراجع يشهد ذروته اليوم، مما يرفعه من مجرّد ملاحظة إلى ظاهرة في عالم الدراما التلفزيونية. بمتابعة أبرز المسلسلات اليوم نجد أنّ عدداً محدوداً منها يدرج أغنية للشارة، أبرزها مسلسلا "عباس الأبيض في اليوم السود" و"أهل الرحمة". فلماذا فضّلت مسلسلات "مشوار امرأة"،"يا ورد مين يشتريك"، "محمود المصري"، "عيش أيّامك"، "لقاء ع الهوا"، "ملح الأرض"... المقدّمات الموسيقية؟علماً أن ماضي الدراما المصرية كان حافلاً بالأغنيات، وأن المتلقي العربي يميل، تاريخياً، إلى الشعر أكثر من الموسيقى! فهل تغيّرت المقاييس وملّ المتلقي العربي من الأشعار المغنّاة؟ أم أن الدراما فشلت في تقديم أغان جذابة، وفشلت الأغاني في أن تكون عنصر جذب ونجاح للدراما؟ لنجد الإجابات نعود إلى مسلسلات العام الماضي. أغنية مسلسل "الليل وآخره" بصوت علي الحجار لمست قلوب المشاهدين، وإن لم تقاسم المسلسل نجاحه المدوي، أو تعرف انتشار أغنيات "ليالي الحلمية" و"بوابة الحلواني" مثلاً. قد تكون فوضى الأمس السبب وراء تراجع عدد الأغنيات اليوم. في العام الماضي استأثر علي الحجار بأغنيات مسلسلات "مسألة مبدأ"، "كفر عسكر" "الليل وآخره"، "العصيان"، و"خان القناديل" بالاشتراك مع محمد الحلو! ما سبّب ربما إرباكاً ومللاً للجمهور وإحراجاً للمنتجين. وبما أنّ أداء أغنيات المسلسلات الضخمة لم ينجح مع أصوات مبتدئة أو من الصف الثاني، فإن الخيارات تبقى محصورة في عدد من مطربي الصفّ الأول الذين نجحوا في تأدية هذه الأغنيات وهم الحجار الشهد والدموع، بوابة الحلواني والحلو ليالي الحلمية، زيزينيا ومدحت صالح أيوب البحر، جحا المصري. قد يقال إن الضرورات الدرامية هي التي تفرض وجود أغنية أو غيابها، لكن التوجّس من امكان فشل الأغنية بما أن الجمهور يلاحقها ويحاسبها وبالتالي تأثير الفشل على المسلسل قد يكون سبباً، إضافة إلى توجّس المغنين أنفسهم بعد فشل محمد فؤاد في أغنية مسلسل "إمام الدعاة"، وأصالة - "قاسم أمين"، وهشام عباس - "أميرة في عابدين"... ونجاح مسلسلات بمقدّمات محض موسيقية لسنوات، مثل "ضمير أبلة حكمت"، "رأفت الهجان"، "لن أعيش في جلباب أبي"، "الحاج متولي" أول لحن لمسلسل تناقلته الهواتف النقّالة، "أين قلبي"... نترك الأسباب لنرى النتائج. ماذا لدينا اليوم على خارطة المسلسلات؟ مقدّمات موسيقية عادية متشابهة في معظمها، وأفخاخ! لم ينج محمود المصري من رأفت الهجّان: مونتاج المقدمة والنهاية، وبعض نوتات المعزوفتين اللتين وضعهما عمار الشريعي نفسه، ولم تنج يسرا للسنة الثالثة: اللحن الكلاسيكي الهادئ للشخصية الدرامية الملائكية نفسها... لكن "عباس الأبيض" يجبرنا على التوقّف عنده: دراما رفيعة، جرعات انسانية عالية، اخراج متمكّن لنادر جلال، قصّة مشوّقة وحبكة متينة لسمير خفاجي ويوسف معاطي... وأيضاً، أغنيتان رائعتان نقيضتان للمقدمة والنهاية، تلعبان على وتري "الأبيض والأسود"، تجسّد كل منهما الرؤيتين الدراميتين للمسلسل، حيث الكوميديا السوداء والتراجيديا البيضاء، حيث الابتسامة في عزّ الألم والضحكة الساخرة في وجه البلية الشريرة! يتفوّق ملحن الشارة محمود طلعت على زملائه، وعلى نفسه في اللحن الذي وضعه لمسلسل "مشوار امرأة"، تساعده الكلمات التي ابتكرها الشاعر أيمن بهجت قمر كونها جديدة من نوعها مختلفة في إيقاعها، وتساعده ليونة حنجرة وذكاء صوت مدحت صالح الذي يتألّق في الأداء. قالت الدراما المصرية كلمتها عندما استبعدت الأشعار والغناء، لشعورها بعدم تكرار نجاح أغاني مسلسلات "ألف ليلة وليلة"، "ليالي الحلمية"، "بوابة الحلواني"... لكبار الملحنين بليغ حمدي ميشال المصري...، لكن لطلعت وقمر كلمة أخرى، قد تغيّر المشهد الدرامي العام المقبل، وتفتح أمامنا فرصة الاستماع إلى أصوات متمكّنة وألحان وأشعار جميلة، في وقت مستقطع بين جولات الأغاني الدارجة وكليباتها المتسلّلة من دون بطاقة صفراء!