منذ أربعة عقود ونيّف، تمارس إملي نصرالله فاعليتها الابداعية، فتربو مؤلفاتها على العشرين كتاباً في الرواية والقصة القصيرة والسيرة، ويُترجم بعضها الى غير لغة أجنبية. وبهذا الحصاد الوفير تحتل موقعها على خريطة الابداع اللبنانية والعربية، وتكتسب شرعية انتمائها الى عالم الأدب. وأدب نصرالله لا ينفصل عن حياتها، بل هو مرآة لهذه الحياة بتجاربها ومحطاتها، يعكسها ويعيد صوغها بالرواية أو القصة القصيرة، فيرى كثيرون وجهها ووجوههم في المرآة. وبهذا المعنى يغدو الأدب مساحة تواصل وتفاعل بين الوجوه المنعكسة على سطح المرآة أكثر من كونه عكوفاً على الذات وصفراً في دهاليزها. وآخر ما أنتجته فاعلية الأديبة الجنوبية مجموعتها القصصية "رياح جنوبية" دار نوفل، بيروت 2004، ولا يشذ هذا الآخر عن الأول وما بينهما في واقعيته وتصويره بيئة معينة. والواقع الذي تمتاح منه نصرالله متعدد، تختار ما خبرته أو شاهدته أو سمعت به من أحداث، وتعيد صوغها في قصة أو نص قصصي يعكس هذا الجانب أو ذاك من واقع متعدد يستحيل جمعه على صفحة مرآة واحدة. من هنا، تتعدد الجوانب المرصودة منه، وتتعدد المرايا. غير انها، على تعددها وتنوعها، تجمع بينها تلك الواقعية والصدق الفني. وهذا المقترب ينطبق على "رياح جنوبية" التي تشتمل على ست عشرة قصة أو نصاً قصصياً، يحيل كل منها على مرجعية معينة. وعليه، فالكتاب متعدد المرجعيات، وحسبنا الاشارة الى أن القرية والمهجر والتلفزيون والحياة المعاصرة والمرأة والتكنولوجيا والطبيعة والقصص الشعبي العالمي هي بعض المرجعيات التي يُحيل اليها الكتاب. وقد تجمع القصة الواحدة بين مرجعيتين اثنتين أو أكثر. وبالانتقال من التعميم الى التعيين، تمتاح نصرالله من القصص الشعبي العالمي أحداث قصتها الأولى "سندريلا الحكاية"، فلا تقصّها كما هي، بل تريِّفها وتلبننها وتحوّرها، فتجعل رؤساء البلديات والمخاتير ينشغلون بالبحث عن سندريلا إرضاء لخاطر الأمير، وتستخدم مفردات النصر والتحرير والفرح العظيم، فهل تريد إسقاط الحكاية على مسألة تحرير الجنوب، فتغدو سندريلا المعادل الموضوعي للأرض المحررة، وسيدتها تعادل المحتلين، فيما يقابل رجال الأمير في الحكاية رجال المقاومة في الواقع؟ أم ترانا نحمّل النص أكثر مما يحتمل ونُسقط عليه من التفسير ما لا قِبل له به؟ أما تحوير الحكاية فيتم في نهايتها حيث تهب ريح ترفع سندريلا عالياً. وهكذا، تقوم إملي نصرالله بلبننة الحكاية. وتشكل القرية بما هي مكان طبيعي جميل وعادات وتقاليد وقيم وموضع الحنين مرجعية أساسية في "رياح جنوبية"، ويختلف تمظهر هذه المرجعية بين قصة وأخرى، ففي قصة "فتى الشاشة" تبدو القرية مكاناً للقيل والقال وتأليف الحكايات من خلال استغلال حكاية المعلمة روز واقتحام أحدهم بيتها، وهذه الحكاية تدخل ضمن القصة الأصلية وترتبط بها برباط واهٍ، فلا تؤثر في مجرى القصة. كما تبدو القرية في تمسُّك بطلة القصة بالعادات والتقاليد، فتلازمها حتى في دراستها الجامعية، ما يجعلها مختلفة عن زميلاتها، تصدّ الذين يخطبون ودها، وتمارس "قرويتها" في قلب المدينة. ويحيل الى مرجعية القرية نص "رياح جنوبية" الذي تحمل المجموعة اسمه، فيقول الحنين الى المطارح الأولى: المنطقة، القرية، الدار. وهذا النص أقرب الى الخاطرة الوجدانية منه الى القصة، حيث القص مجرّد قشرة خارجية لنص نوستالجي يمزج بين الواقعية والرومانسية. وغير بعيد من هذا الفضاء القصصي قصة "وارفة الظلال"، فشجرة الكينا التي أطلقت عليها الكاتبة هذا الاسم شهدت علاقة الحب بين ريّا وهاني، وشهدت الحرب بما هي احتلال وأسلاك ورحيل طيور، وبقيت موضعاً للحنين وموئلاً لطلب الراحة. وفي هذه القصة تتعدد الأصوات، فيبث كل صوت لواعجه وخواطره من دون أن يكون هناك حوار مباشر، بل ثمة نوع من التخاطر الوجداني هو أعمق من الحوار المباشر، وفي هذه القصة يلعب الخيال دوره كما في "سندريلا الحكاية"، الأمر الذي تفتقر اليه القصص الأخرى، حيث لا تعدو عملية القص إعادة ترتيب الوقائع والأحداث. وكثيراً ما تتقاطع مرجعية القرية مع مرجعية المهجر في القصة الواحدة، ففي قصة "العم نقولا وفيلم التايتانيك" تتناول الكاتبة واقعة تاريخية هي غرق سفينة التايتانيك من خلال علاقة أحد أفراد العائلة بها، العم نقولا الذي أبدى شجاعة في مواجهة الحدث، وأنقذ زوجته من الغرق، وهنا يمتزج السرد الواقعي بالرسالة. وفي قصة "صورة في زاوية" تقول نصرالله ان الانسان في المهجر غيره في القرية، فهو يتغير بتغيُّر المكان والزمان والظروف، وراجي الذي أحبته مرسال في الضيعة يتجاهلها حين يلتقيان في المهجر وقد تزوج كلاهما، إذ لا شيء يبقى كما هو، ولا شيء يعود الى الوراء. ولا يبعد عن هذا الفضاء نص "اللبناني مهاجراً" الذي تعرض فيه الكاتبة جملة مشاهد وذكريات عاشتها مع المغتربين أو صادفتها في مطارات الأمم، وهي تحفل بملاحظات نقدية متناثرة تتناول السلوك والتربية والأزياء والعادات، وعلى رغم ان العرض يقوم على السرد فهذا النص لا تتوافر فيه سائر مقومات القصة القصيرة. وفي الفضاء نفسه تدور قصة "غابة الزيتون"، فالمهاجر الذي ورث عن جده في القرية حب غرس الزيتون، يقوم بغرس غابة زيتون في مهجره، ويدعو أمه الى زيارته، فتحس بعد تجوالها في الغابة أنها تقبض على الزمن، ذلك ان الجذور مهمة سواء للشجرة أو للإنسان. وإذا كان المهجر في المجموعة هو مكان العمل وطلب الرزق، فهو في قصة "ماشا تحب القطط" مكان الاصطدام بالآخر المختلف في العادات والتقاليد وزوايا النظر. هذه الإشكالية تطرحها القصة من خلال حكاية سامر الذي هاجر في طلب العلم، فعاد بزوجة أجنبية تجد صعوبة في التكيف مع البيئة الجديدة. وعليه، فالشرفة في بيت الجبل التي هي إطلالة على الجمال الطبيعي ونافذة على الراحة والاستجمام من منظور والديّ سامر، تحوّلها زوجة الابن الى مكان للقطط. نحن ازاء زاويتين مختلفتين في النظر الى الأمور يقف الابن حائراً بينهما. لكن الآخر المختلف قد يكون شبيهاً بنا في تمسّكه بقيم أصيلة كالوفاء والإباء، وهذا ما يطالعنا في قصة "الثمن"، فعندما يفشل منصور في مجاراة رفيق دراسته وصديقه بسام في المدرسة والمجتمع تعويضاً عن عقدة المنافسة والغيرة، يحاول مستغلاً نجاح أعماله وتعثّر أعمال صديقه إغراء زوجة صديقه بالمال، غير ان غلوريا الزوجة الأجنبية ترفض بإباء وتترك العمل عنده لأن ثمّة أشياء لا تشترى بالمال ولا ثمن لها. وللمرأة، بعد، مكانها في "رياح جنوبية"، ففي "محكمة النساء" تضطر المرأة الذكية الجميلة الى مغادرة بيتها والتخلي عن حقوقها جراء الظلم الذي ألحقه بها زوج شرقي تتهاوى أقنعته تباعاً، فيظهر على حقيقته، يغار، يضطهد، ويضرب. والأمر نفسه يحدث في قصة "النورس"، الرجل الذي يتلقى في الصغر تربية معينة يقوم بممارسة القهر على زوجته حين تتدهور ظروف عمله. والقصة تقيم مقارنة بينه وبين طائر النورس الذي ينقضّ على سمكة "الأونشوا" المعادل الموضوعي للمرأة. غير أن قصة "البريد السريع" تقدم نموذجاً مختلفاً للمرأة تبدو فيه في موقع المبادرة والفعل، فبطلة القصة يدفعها كبرياؤها واحترامها لنفسها الى عدم الرد على رسائل أو اتصالات رجل كان خطيبها قبل ثلاثين سنة ثم سافر واقترن بغيرها، حتى انها حين رأته في المطار بعد هذه المدة أعرضت عنه، ولم تمكّنه من رؤيتها انتصاراً لكبريائها. ومع هذا، تترفع عن الانتقام من ابنته الطالبة في الجامعة التي تدرِّس فيها، وتهتم بها. وهكذا، فالمرأة ليست دائماً في موقع من يقع عليه الفعل، بل تستطيع أن تكون في موقع الفعل. وإذا كانت التكنولوجيا كمرجعية قصصية حضرت جزئياً في قصتي "فتى الشاشة" و"خلوي في جورة السنديان"، فإنها تحضر بقوة في قصة "رعب فضائي"، فالعنف الذي يتدفق من الفضائيات يصيب سوغي الخادمة السريلانكية بنوبات عصبية، فتعمد الى قطع الكابل وتحطيم التلفزيون تعبيراً عن رفضها لما يجري، ويكون الحل بإعادتها الى بيتها/ جذورها لتستعيد توازنها، فالعودة الى الجذور شرط لاستعادة التوازن الانساني الذي أخلّت به التكنولوجيا. وأخيراً، تحيل قصة "الرسالة" الى مرجعية الوظيفة، فالموظف الذي يقوم بقراءة رسائل رئيسه وتلخيصها وتصنيفها يتردّى في مهاوي القلق حين يكتشف ان هذا الرئيس ورئيسه يتلقيان الهدايا الكبيرة رشوة على خدمات يقدّمانها. وبعد، على تعدد مرجعيات إملي نصرالله في قصصها، فإنها تصوغ هذه القصص بلغة واحدة، هي لغتها الوسط بين السردية والأدبية، بين التصريح والتلميح، بين السهولة والامتناع. وكما أن القرية هي مرجعية أساسية لأحداث القصص، فهي مرجعية للغتها أحياناً. لذلك، تطعِّم نصرالله لغتها بمفردات وعبارات وأمثال قروية شعبية، توحي بقدر ما تعبر، وتكنّي بقدر ما تصرّح، كقولها: "لا يرخون أطراف الحبل"، "لا يفل الحديد سوى الحديد"، "غنّى لها الحادي في الوادي"، "العين لا تقاوم المخرز". وهذا التطعيم يعزّز واقعية النص وصدقه في التعبير عن مرجعيته. غير أن لجوء نصرالله الى إعراب بعض الأمثال الشعبية يطيح شعبوية هذه الأمثال، ولا يبلغ بها مرتبة الفصاحة، كما في تحويلها المثل الشعبي "يا جبل ما يهزك ريح" الى قولها: "يا جبل ما تهزَّك ريح".