كثر الحديث عن السينما العراقية وسبل النهوض بها ، إلا أن ما تمخضت عن كل الندوات والمناقشات من توصيات وحلول لم يجد صدى على ارض الواقع وظل ضمن حدود الاستهلاك الإعلامي. فالسينما كونها صناعة ترتكز الى مقوماتها الثلاثة، وهي: التقنية والخبرة البشرية ورأس المال، وهذه العناصر كانت متوافرة ومنتظمة تحت بناء مؤسساتي مكتمل متمثل بدائرة السينما والمسرح. وبغض النظر عن مستوى ما قدمته هذه المؤسسة من أفلام وما يقال عن البعض منها من انها مؤدلجة، فهذا لا يلغي الأفلام التي شكلت إضاءات في مسيرة الفيلم العراقي الذي تجاوزت أفلامه الروائية المئة، فضلاً عن عدد كبير من الأفلام الوثائقية التي رصدت ووثقت الكثير من أوجه الحياة العراقية. وحتى تلك الأفلام التي تدعو أو تخضع لاشتراطات اتجاه سياسي معين لم تكن عيباً ونقصاً في واقع السينما.. فمن حق الجهة المنتجة ان تروّج لأفكارها ومواقفها. لكن المشكلة في الشكل الفني الذي تطرح من خلاله هذه الأفكار. الم تكن افلام ايزنشتاين وبودوفكين وفيرتوف افلاماً مؤدلجة؟ مع هذا خلقت منعطفاً في تاريخ السينما من خلال التجريب على الشكل الفيلمي، وهي لا تزال الى اليوم تدرّس في الجامعات والمعاهد السينمائية. صحيح ان افلامنا المؤدلجه كانت تتسم بالمباشرة، وتفتقر الى توظيف عناصر لغة الصورة في شكل يجذب اهتمام المشاهد ويثيره عاطفياً، ما جعل تاثيرها مرحلياً ولايتعدى حدوده المحلية. إلا أن هذا لا يقلل من اهميتها باعتبارها نتاج مرحلة معينة تشكل جانباً من تاريخ الفيلم العراقي. غلطة الاحتلال اذاً، البنى التحتية لهذة الصناعة وجدت ووفق احدث التقنيات، ووفرت لها روؤس اموال مجزية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يكتب لهذه الصناعة الديمومة والاستمرار؟ وإلى متى يستمر هذا التوقف؟ وما هي سبل بعث الحياة فيها من جديد؟ للإجابة عن هذه التساؤلات نقول: إن هناك سببين رئيسين أديا الى تدهور السينما العراقية، الأول غير مباشر، وهو ان السينما العراقية وعبر كل مراحلها لم يتول إدارتها سينمائي متخصص. فكل الذين تولوا إدارة السينما والمسرح في العراق، وعلى مختلف العهود والمراحل، إما من الأدباء أو الشعراء أو الإعلاميين، الأمر الذي أدى الى غياب التخطيط العلمي لإدارة عجلة الإنتاج السينمائي وديمومتها بالشكل الذي يخلق تراكماً فنياً من شأنه ان يبلور ملامح، أو يكرس هوية للفيلم العراقي، ويجذر بصورة اعمق للإنتاج السينمائي. أما السبب المباشر فهو الظرف الاستثنائي الذي شهده البلد منذ بداية الثمانينات من القرن المنصرم، والذي لا يزال قائماً الى الآن، فهو الأشد تأثيراً والأقسى على مجمل المشهد الثقافي في العراق، وبالتحديد على صناعة السينما التي لا يمكن لها ان تنمو وتزدهر في ظل اللااستقرار. فما حدث بداية الاحتلال هو تدمير كامل للبنية التحتية للسينما في العراق، وأصبح المشهد الثقافي والفني عموماً، ولا يزال، أمام الواقع الأمني للبلد مسألة هامشية، بل لم يجد له مكاناً في برنامج رجل السياسة أو صاحب القرار. ولكن على رغم الوضع المعقد الذي نعيشة اليوم، هناك روافد لاتزال يتدفق من خلالها العطاء الفني. ففي الوقت الذي شلت الحياة الثقافية والفنية اثناء الظروف الاستثنائية التي شهدها البلد كانت كلية الفنون تعمل وتواصل العطاء وسط ركام الحرب ورماد الحرائق. فواصلت الدراسة وأكملت العام الدراسي بإصرار، كما حرصت على تقديم نشاطاتها السنوية في اقامة المهرجان السنوي الذي تضمن اكثر من خمسين عملاً قصيراً، إضافة الى المعارض التشكيلية والعروض المسرحية. وبذلك كانت كلية الفنون الشريان الوحيد الذي رفد الحياة الثقافية والفنية بالأمل لتتواصل. وعلى مستوى ما قدمته الكلية فإن الساحة الفنية والقنوات الفضائية العراقية والعربية والعالمية خير شاهد على نسبة خريجي كلية الفنون العاملين فيها في مختلف التخصصات، علماً ان كلية الفنون مؤسسة تعليمية وليست انتاجية. ولايمكن، في سياق هذا العرض ان نغفل العديد من محاولات التحريك ووضع قضية السينما العراقية في دائرة الضوء التي تمثلت بأقامة مهرجان بغداد السينمائي، ومهرجان «سينمائيون بلا حدود»، والإنتاجات الفردية لعدد من الشباب، في الداخل والخارج، والتي استطاعت ان تؤكد حضورها في الكثير من المحافل العربية والعالمية. إلا أن كل هذه المحاولات لا يمكن ان تعيد الحياة للسينما العراقية ما لم تدعّم بقرار الدولة، وبإسناد مادي يعيد النظر بهيكلة المؤسسة الإنتاجية وفق تخطيط علمي مدروس وبما يتلاءم ومعطيات المرحلة الجديدة. إذا أردنا أن نتحدث بصراحة، فنحن في العراق، ومنذ سنوات طويلة، نفتقر إلى أي برنامج أو مشروع يعنى برعاية العلماء والفنانين والأدباء، فضلاً عن غياب التخطيط العلمي في استثمار الموارد البشرية وتوزيعها. لذا فإن عدم الاهتمام بالمواهب والطاقات الشابة الواعدة جاء نتيجة طبيعية لوضع عام. ولكننا نؤكد من جديد أن السينما ضرورة إنسانية وحضارية، وحاجتنا اليها اليوم اكثر من أي وقت مضى، لأننا نعيش في عالم الصورة، والأمة التي لا تمتلك اليوم خطابها الصوري في مواجهة الآخر، ولا تحتفظ بأرشيف مصور للأجيال القادمة، هي أمة ميتة. لذا علينا أن نتفاءل بالشباب الذين يتزايد عددهم اليوم، فهم المعوّل عليهم في إعادة الوجه المشرق للسينما العراقية بعد استقرار البلد. رئيس قسم السينما في أكاديمية الفنون - بغداد