تجمعت عوامل خاصة وظروف مواتية ساعدت على انجاب وبزوغ نجم شاعر العرب في العصر الحديث، ورائد التجديد والإحياء بلا منازع وشاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي باشا 1839 - 1904. أحيا دولة الشعر من العدم، ورد لشعرنا العربي صورته النقية ووجهه الصحيح ومعدنه الأصيل وروحه التي ضلت عن الركب. استقرأ تاريخنا الشعري عبر صفحاته الساطعة زمن الجاهليين والعباسيين، وتوصل بقريحته الفذة وموهبته المستطيلة وموسوعيته وذوقه الخصيب وخياله المحلق في الابداع الإنساني الى رأس ما أنتجته السليقة العربية من الفنون الوجدان والأنغام الساحرة، الى أعلى نموذج فني وأدبي يمكن أن تهتدي اليه الذائقة العربية. وهكذا أحيا البارودي في الوجدان العربي تاريخنا الفني القشيب وأوجد البصمة التي جعلتنا - بحق - أمة الشعر والبيان والبلاغة والكلام. ومن حسنات هذا الرجل الذي تحتفل الأمة العربية بمرور مئة عام على وفاته، انه عاش في عصر خلا من الشاعرية لمدة سبعة قرون كان فيها السجع والجناس والبديع وحساب الجمل والركاكة وضعف الموهبة وقلة البضاعة - من المحيط الى الخليج - رمز الابداع، ومناط القريض، وأساس الصدارة في المشهد الشعري. فاستنبت البارودي لأمته العربية ما يصلها بجذورها الممتدة الراسية في شجرة الحضارة والنهضة التي أسسها الأجداد الأعاظم، وربط من قطع برباط متين، ولفت الأنظار الى النموذج الأعلى في عالم الجمال الفني لكي نبحر في زورقه، ونستمد منه الأصالة والحيوية والفتوة وننطلق من خلال المعاصرة الى مناحٍ أخرى من التجديد والتطوير والإضافة، ولكن بروح عصرنا، ومنطق بيئتنا الخاصة، وبالاعتماد على مضمون جديد في اطار الشكل المتعارف عليه رمز البلاغة والموسيقى. ومن أشعاره النابضة بالحماسة وايقاظ الهمم والطموح الى المجد والعلا: هو ما قلت فاحذرنها صباحا غارة تملأ الفضاء رماحا لا ترى بينها سوى عبقري يألف الطعن نجدة وارتياحا لهج بالحروب لا يألف الخف ض ولا يصحب الفتاة الرداحا مسعر للوغى أخو غدوات تجعل الأرض مأتماً وصياحا لا يرى عاتباً على شيم الده ر ولا عابثاً ولا مزاحا يفعل الفعلة التي تبهر النا س وترنو لها العيون رماحا! هذا هو البارودي وعالمه النفسي والشعري الخصيب، الذي تفوح في أجوائه معاني النضال القومي والتحرير الوطني والفروسية، بأجوائها التاريخية في سياقات وأشعار المتنبي وأبي فراس الحمداني، ومن قبلهما شهامة ونخوة عمرو بن كلثوم ودفاعه عن العروبة ازاء غطرسة الآخر المتجبر. وهذا هو قاموسه الشعري - غير المسبوق في زمانه - الذي نحته نحتاً من غير مثيل ولا شبيه، وكأنه أعاد الينا زمن المتنبي، زمن الفحولة والمتانة والفروسية ورسالة الشاعر القومية والمجتمعية. وباستقراء ديوان البارودي المكتنز بالخيال الجميل، والصور الرائعة، والألفاظ المتينة القوية. ذات الجرس العالي، نلحظ ميله الى الحديث عن طلب المجد، وسل السيف، ونشدان الحرية. ولا غرو فقد كان أحد قادة الثورة العرابية بمصر، عام 1882 طلباً للحرية وهجوماً على القصر، مثلما كان يفعل المتنبي وكأنه كان قرينه في هذا العصر: من صاحب العجز لم يظفر بما طلبا فاركب من العزم طرفاً يسبق الشهبا لا يدرك المجد الا من إذا هتفت به الحمية هز الرمح وانتصبا يستسهل الصعب ان هاجت حفيظته ولا يشاور غير السيف إن غضبا ان حل أرضاً حمى بالسيف جانبها وان وعى نبأة من صارخ ركبا فاحمل بنفسك تبلغ ما أردت بها فالليث لا يرهب الأخطار إن وثبا القاهرة - صلاح رشيد [email protected]