الوف يخترقون أبواب الجامعات والمعاهد المصرية في كل عام، حاملين معهم أحلاماً عن الحياة بعد سنوات الدراسة: سنوات قليلة من العمل في موقع جيد، ثم الحصول على سيارة، ويليها اقتناء شقة، ومن ثم الاقتران بفتاة. أحلام بسيطة لكنها عزيزة، والعقدان الماضيان أثبتا أنها صعبة المنال، إن لم تكن مستحيلة. الأرقام الرسمية تقول إن البطالة في مصر نسبتها 9،9 في المئة، لكن يُعتقد أن النسبة الحقيقية أعلى من ذلك بكثير. ففي كل عام ينضم 550 ألف شخص إلى قوة العمل، وتشير إحصاءات البنك الدولي الى أن قوة العمل تنمو بنسبة تراوح بين 5.5 و6 في المئة كل عام. وفي أي ساعة من ساعات النهار، تجد المقاهي عامرة بمجموعات الشباب الذي يلعب "عشرتين طاولة" أو يحتسي أكواباً من الشاي تتخللها أنفاس من الشيشة، وذلك بعدما كانت المقاهي أثناء النهار مقراً للمتعاقدين فقط. وتراهم كذلك بالمئات في المراكز التجارية، ونواصي الشوارع يمضون الساعات الثقيلة، بعضهم أعياه البحث عن عمل مناسب من دون جدوى، والبعض الآخر اختصر طريق البحث مكتفياً بقصص الفشل التي تحيطه من كل جانب. يقول أحمد حسين 25 عاماً إنه أمضى نحو ثلاثة شهور عقب تخرجه في كلية التجارة قبل ثلاثة اعوام، في البحث عن وظيفة من خلال اعلانات الجرائد التي اكتشف انها "الوهم الكبير وهي اما مخصصة لأشخاص بعينهم حجزت الوظائف لهم، أو أنها وظائف تعتمد على عمولات، أي أنك لا تتقاضى راتباً". ويتدخل في الحديث صديقه ايمن 25 عاماً الجالس امامه على الطاولة نفسها "عملت لمدة عام في شركة تسويق الموسوعات العلمية للأطفال، في البداية قالوا لي إن راتبي 150 جنيهاً في الشهر نحو 30 دولاراً اميركياً وانه يمكن بسهولة ان احصل على ألفي جنيه في الشهر وذلك من طريق عمولات المبيعات، ظللت طيلة الاشهر الستة الاولى أشبه بمن ينحت في الصخر، ووصل أعلى راتب لي الى 500 جنيه، وهو الشهر الذي امضيته تقريباً في الشوارع من بيت الى بيت، ومن مكتب الى مكتب، وكثيراً ما كنت اتعرض للسب والاهانة بعدما كنت من طلاب كلية الآداب المتفوقين طيلة اربع سنوات". واختار ايمن التوقف عن العمل بعد ما استدان من والده للانفاق على وظيفته، مفضلاً العودة الى تقاضي مصروف ينفقه على المقهى. لكن هناك نماذج اخرى كثيرة اختارها الشباب للهروب من دائرة البطالة المفرغة "السريع" هو اسم الشهرة الذي اشتهر به تامر بين زملائه وعملائه. بعد تخرجه في احد المعاهد العليا في مجال التكنولوجيا، تقدم الى وظيفة "طيار" وقُبِل على الفور، فهو سريع ونشيط ومغامر. لم يكن تامر في حاجة الا إلى رخصة قيادة "موتوسيكل" أي دراجة نارية، فمكان العمل فرع لمطعم مشهور من مطاعم الوجبات السريعة، والوظيفة "طيار" أي توصيل طلبات الزبائن الى مقار اقامتهم أو عملهم والتحدي هو ان تتم عملية التوصيل في أقل وقت ممكن. شخصية تامر المنطلقة والمتفائلة ساعدته كثيراً في هذه المهنة، فالزبائن يحبونه ويجزلون له العطاء، فعلى رغم أن راتبه هو الآخر لا يتجاوز 150 جنيهاً شهرياً، يحصل على أضعاف هذا المبلغ من البقشيش. لكن الامر لا يخلو من مخاطر، يقول: "بسبب السرعة الزائدة، لي رصيد كبير في حوادث السير بعضها كان خطيراً والبعض الآخر طفيفاً، واتذكر انني اضطررت مرة الى العودة الى عملي وقيادة "الموتوسيكل" وساقي مازالت في داخل الجبيرة، لكن البقشيش لا يحتمل الانتظار". زميله في العمل علي 26 عاماً يختلف عنه شكلاً وموضوعاً، فهو تخرج في كلية الحقوق وكان حلمه ان يصبح محامياً مشهوراً، لكنه ارتطم بأرض واقع المحاماة، فبعد عامين امضاهما في مكاتب محامين مجهولين عمل خلالهما حامل حقيبة ونادلاً يقدم الشاي والقهوة للمحامي وزبائنه في مقابل بضعة جنيهات، أيقن أنه لو استمر هكذا فإنه سيموت كمداً، فقرر أن يقدم الشاي والقهوة طواعية، لكن في مقابل مادي محترم، فعمل نادلاً في مطعم. مشكلة علي الرئيسة هو انه شخصياً يشعر بمرارة شديدة تجاه مهنته على رغم انها تدر له دخلاً معقولاً. يقول: "لن انسى ذلك اليوم حين فوجئت بمجموعة من الشباب والفتيات يدخلون المطعم، وهاله انهم اصدقاؤه في الجامعة، ما سبّب له حرجاً شديداً". أما حسن 30 عاماً فيقول إن كلمة "الإحراج" ليست في قاموسه، "الفقر قادر على إلغاء كل مشاعر الحرج وما شابهها، انا مثلاً تنقلت بين عشرات الوظائف والمهن التي لا تليق ابداً بخريج جامعي، كنت تزوجت في العام نفسه الذي خسرت وظيفتي كمحاسب خلاله، وكان عليّ أن أجد أي وسيلة للرزق، وبعد اشهر من التخبط، وجدت ضالتي في مهنة "سائق". يعمل حسن "سائقاً شخصياً" لدى أسرة رجل أعمال ثري، ويتقاضى اجراً، معقولاً لكن الثمن الذي يضطر أن يدفعه هو اضطراره الى فتح باب السيارة لرجل الاعمال وزوجته وابنائهما الذين لم يطلعوا من البيضة على حد قوله، لكن "الغاية تبرر الوسيلة، فهو ايضاً لديه ابناء في حاجة الى تعليم وعلاج وملابس". ملابس الصديقين مدحت وهيثم 26 عاماً كانت بطاقة مرورهما من عالم البطالة الى عالم العمل، فقد اختارا أن ينشئا فرقة فنية لإحياء حفلات اعياد ميلاد الأطفال في البيوت والنوادي والمطاعم. والدة مدحت تساهم هي الأخرى في الفرقة، لا سيما بعدما اصبحت "الفرقة" هي الممول الرئيس لمصروفات الأسرة بعد رحيل زوجها، فوالدة مدحت خياطة ماهرة، وهي تجمع بواقي الاقمشة، وتصنع منها بدلات عجيبة واقنعة غريبة واحذية ضخمة يرتديها الصديقان في عروض شهد لها الجميع ب "العبقرية". يتقاضى مدحت وهيثم في الحفلة الواحدة بين 450 او500 جنيه مصري، ويتظمان ما معدله خمس حفلات أسبوعياً في الصيف وثلاث حفلات في الشتاء، هذا إضافة الى الحفلات المدرسية و في دور الايتام وغيرها. أما زهير 28 عاما فيعيش حياتين متناقضتين. والده مسؤول حكومي كبير، نجح في تأمين وظيفة حكومية في المصلحة الحكومية التي يعمل فيها، وذلك اتباعاً للمبدأ العتيق الذي يقدس "الميري" وعلى رغم اعتراضات زهير العاتية ومحاولاته للهروب من الوظيفة التي تضمن له 400 جنيه شهرياً إضافة الى قدر لايستهان به من الكآبة والانخراط مع نوعيات من البشر انتهى عمرها الافتراضي، لكنه اضطر الى الاستمرار. وتفتق ذهن زهير عن فكرة عبقرية، ألا وهي التوجه الى المصلحة في النهار، والتفرغ لعمل ليلي يدر عليه دخلاً "آدمياً"، لكن زهير لم يجد الا وظيفة مسؤول حسابات في مطعم عائم، لكنه سعيد بها، يقول: "الخوف كل الخوف ان يكتشف والدي عملي هذا الذي سيعتبره من دون ادنى شك عاراً وكارثة". وعلى رغم أن البطالة بين الفتيات تبلغ ثلاثة اضعاف نسبتها بين الشباب، الا انهن اقل جرأة في الاقبال على اعمال تتسم بالخطورة او تعرضهن للقيل والقال الاجتماعي. هناء 27 عاماً تحمل شهادة من معهد سياحة وفنادق، إضافة الى "صينية" تقدم عليها المشروبات والمأكولات الخفيفة على "السوبر جيت" الباص خط القاهرة - الغردقة. تقول هناء انها تعمل مضيفة في الباص لسببين الأول انها كانت تحلم دائماً بأن تكون مضيفة جوية، لكن وزنها الزائد قليلاً وانعدام معرفتها بأي لغة اجنبية، كانا عائقاً امام تحقيق حلمها الجوي، فاكتفت بتحقيقه براً، والسبب الثاني هو انها مخطوبة منذ خمس سنوات وتود أن تلحق بقطاع الزواج قبل ان يلحق بها قطار الشيخوخة، ولم تجد سوى هذه المهنة التي يعتبرها جيرانها "دونية"، لتوفير نفقات الزواج. أما الصديقتان منى ونهلة 22 عاماً فقد اختارتا وسيلة مواصلات اخرى هي مترو الانفاق حيث تبدآن العمل في الساعة الثامنة صباحاً وهما محملتان بحقائب بلاستيكية عامرة باكسسوارات الشعر، واغطية الرأس والجوارب للمحجبات. وتجوب الصديقتان خطوط المترو جيئة وذهاباً في العربات المخصصة للنساء الى الساعة الرابعة بعد الظهر، وهو ما يحقق لهما دخلاً معقولاً، وان كانتا تتعرضان دائماً للمساءلة من جانب شرطة مترو الأنفاق لكن "ربنا يستر بعد تدخل اولاد الحلال".