لن يغفل التاريخ العسكري معركة الفلوجة حتى لو تدخل المؤرخون العسكريون في تفاصيلها فأداروها في سجلاتهم بأسلوب مختلف عن الأسلوب الذي تبناه رامسفيلد ومايرز وجنرالاتهما في العراق. فبفضل معركة الفلوجة وقع اكتشاف أبعاد جديدة للحرب الأميركية في العراق. يقول توماس فريدمان في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز، إن بعض هذه الأبعاد لم يدخل في حسابات رامسفيلد وغيره من الذين خططوا لهذه الحرب. المؤكد، ويذكره فريدمان ساخراً، أنه لم يرد في خطة الحرب أيّة إشارة إلى أنه بعد عشرين شهراً من إسقاط نظام صدام حسين ستدور في الفلوجة معركة بهذا الحجم والخطورة. المؤكد أيضاً أن المؤرخين العسكريين الأميركيين لن يتمكنوا من إغفال حقيقة أن القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية، أي الرئيس بوش، أعلن، بعد أيام قليلة من بداية الغزو، من على سطح إحدى حاملات طائراته اكتمال مهمة القوات المسلحة الأميركية في العراق، ويعود نيغروبونتي السفير الأميركي في بغداد ليكرر الخطأ نفسه بالنسبة لمعركة الفلوجة. أكدت الفلوجة أن غرور المخططين وجهل المفكرين والأكاديميين بشؤون العراق تسببا في عذابات وأضرار جسيمة لكلا الطرفين، وأن أحداً لم يستفد من دروس فيتنام بحجة اختلاف الظروف وتوزيع القوى في المنطقة، ولا من درس الحملة البريطانية في العراق خلال وبعد الحرب العالمية الأولى. للفلوجة مغزى عسكري آخر. نعرف أن النشاط عاد منذ فترة يدب في مشروع منظومة الدفاع من الفضاء ضد الصواريخ الباليستية، وهو من توابع المشروع الأعظم الذي تبناه الرئيس ريغان في عقد الثمانينات وعرف باسم حرب النجوم. وكانت تطورات دولية وداخلية وقعت فساهمت في أن صار المشروع عقيدة يعتنقها كثيرون في المؤسسة الحاكمة الأميركية، وكان رامسفيلد أحد هؤلاء الذين تصدوا لانتقادات المعارضين لهذا المشروع من العسكريين والمدنيين. كان رامسفيلد عضواً في لجنة أوصت عشية وصول الرئيس بوش إلى الحكم بضرورة التنفيذ العاجل لمشروع إقامة درع من الصواريخ على قواعد فضائية لحماية أميريكا من أي هجوم صاروخي تشنه دول معادية. وعادت الحماسة إلى رامسفيلد ورفاقه أخيرًا للضغط لتخصيص الاعتمادات الهائلة التي يعتمد عليها تنفيذ هذا المشروع في وقت بلغت فيه موازنة الدفاع الأميركية مستوى قياسياً وبلغ فيه العجز في الموازنة الفيدرالية مستوى قياسياً آخر. ورغم وجاهة وجهات نظر المعارضين، يزداد اقتناعي بأن الرئيس بوش لن يخرج من الحكم إلا وقد تحقق جانب مهم من جوانب هذه المنظومة الدفاعية الجديدة، وعندي سببان، أولهما أن لهذا المشروع أكثر من ضرورة، وتزداد أهميته مع كل زيادة في اعتناق المؤسسة الاستراتيجية لأيديولوجية التوسع الإمبراطوري الأميركي، ومع كل زيادة في اقتناعها بجدوى الدخول في حروب صغيرة في أماكن شتى من العالم لمحاربة الإرهاب أو أعداء آخرين تفرزهم باستمرار وبمعدلات متسارعة السياستان الخارجية والدفاعية الأميركيتان. في هذه الحالة يصبح هدف الدرع ليس فقط حماية القارة الأميركية من هجوم صاروخي بعيد الاحتمال ولكن أيضاً حماية الانتشار العسكري الأميركي في أرجاء العالم كافة. أما السبب الثاني الذي يدفعني إلى الظن بأن الدرع سيقام عاجلاً وليس آجلاً، فهو التقدم المتواصل في ثورة الاتصالات، وبخاصة في جانبها العسكري . لقد كان للمؤسسة العسكرية الأميركية الفضل في اختراع الشبكة الإلكترونية الإنترنت واستخدامها لعقدين أو أكثر قبل أن تتبناها القطاعات المدنية للتجارة والخدمات والأعمال والإعلام وتحقق بفضلها تقدم كبير. من ناحية ثانية، لا تخفى أهمية الدور الذي تقوم به الأقمار الاصطناعية لخدمات الاتصالات التي هي الآن أحد أهم أسس حضارة العصر. ومن ناحية ثالثة لم يعد ممكناً تصور إدارة حرب في الخارج، أو إصدار أوامر قتالية إلى منظومة دفاع صاروخي أو غيره، من دون الاعتماد على هذه الأقمار، وبالتالي تصبح الحاجة ماسة إلى تأمين هذه الأقمار ضد أي هجوم صاروخي محتمل موجه إليها من قواعد صاروخية أرضية أو بحرية أو من أقمار اصطناعية معادية. منذ أربع أو خمس سنوات، كان هذا الاحتمال يبدو بعيداً. ولم يعد كذلك، خصوصاً بعد أن قرر البنتاغون إنشاء شبكة إلكترونية جديدة خاصة به تسمح لكل ضابط وجندي في أي مكان في العالم بأن تصله في لحظة وأينما وجد سواء في شارع أو في حقل أو في منزل، أيّة معلومة يطلبها وتتعلق بالعدو الذي يحاربه أو الأعداء الآخرين الذين تحاربهم قوات أميركية أخرى في ساحات أخرى، وتسمح له بأن يتخذ قراره المناسب طبقاً للبيانات الواردة على الشاشة التي ستصبح من ضمن عتاده الدائم في حِله وترحاله. ويقول رامسفيلد عن هذه الشبكة الإلكترونية أنها"ستكون الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يحقق أعظم تحول في قوتنا العسكرية". الفكرة ليست جديدة، ولكن التفكير في الإسراع بتنفيذها دفعت إليه حروب أميركا ضد المقاومة في العراق وأفغانستان. وهنا يتأكد المغزى العسكري الآخر للفلوجة. فقد دارت هذه الحروب في شكلها الغالب بين"عدو"فرد وجندي"أميركي"فرد. فرد في مواجهة فرد. وعلى امتداد السنوات الأخيرة كان"الفرد"الغاضب أو المتمرد أو المتعصب أو المتطرف أساس الصدام مع أميركا. وقد واجهته أميركا بالأساطيل والجيوش الجرارة والطائرات الثقيلة والمروحيات والصواريخ وكل ما كان مخزوناً في ترسانة الحرب الباردة. ثم اكتشفت أنها لم تنتصر، أو لم تحقق النصر الحاسم. واكتشفت السبب في الوقت نفسه، وهو أنها تحارب ضد فرد بمنظومات دفاعية مخصصة للقتال ضد هجوم بالصواريخ والطائرات وأسلحة دمار شامل. وعندئذ ربما تكون فكرت في ضرورة إنشاء منظومة حرب للمقاتل الأميركي كفرد مقابل منظومة حرب شوارع تعتمد على الفرد مقاوماً أو إرهابياً. لقد انتصر الفريق المتطرف في إدارة الرئيس بوش مرتين خلال أسبوعين. إنتصر عندما فاز الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية ضد الليبراليين والديموقراطيين. وإنتصر ثانية على تيار التردد والشك الذي شاركه الحكم خلال سنوات أربع. وبفضل هذا الانتصار المزدوج أو بالرغم منه، ستنشط الجهود كافة للبحث عن تعريف جديد للهوية العسكرية الأميركية. ويبدو أنه لا يوجد خلاف على أسس التوجه الإمبراطوري سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ولا على مواصلة التوسع الخارجي عن طريق تحريك القوات المنتشرة في الخارج وإشعال حروب صغيرة لفرض"الاستقرار"هنا وهناك، وإنشاء أو دعم شبكة"رجال ونساء الإمبراطورية"من أبناء الأمم كافة وبناتها. لا خلاف على كل هذا. ولكن الخلاف سيكون في ما أتصور على أسلوب أو عقيدة الدفاع العسكري عن هذه الإمبراطورية. إذ سيتعين التخلص من عقيدة أو عقائد الدفاع التي نشأت خلال الحرب الباردة، إذ انتفت غالبية شروط هذه العقيدة، فلا دول عظمى أو أيديولوجيات سياسية معادية ولا تكنولوجيا صاروخية متطورة في الخارج. وسيتركز الاهتمام أكثر فأكثر على إمكانات الفرد الأجنبي الغاضب والساخط على السياسة الأميركية وقدرته على توجيه الأذى لجنود أميركا ومواطنيها في الخارج. ثم يأتي الاهتمام بإقامة منظومة دفاع تعظم من إمكانات الفرد المقاتل في القوات الإمبراطورية في الخارج. ومع ذلك لا أظن أن أيّة قيادة أميركية ستتخذ ذات يوم إجراءً يؤدي إلى إضعاف أسلحتها الجوية والبحرية والصاروخية، ولكنها ستفعل كل ما تستطيع فعله لوضع هذه الترسانة الهائلة في خدمة الجندي الأميركي المؤهل لحرب شوارع وكهوف ومنازل، حرب طويلة طويلة كما تنبأ الرئيس بوش. يسجل للفلوجة أنها كشفت قبل التعديل الحكومي في واشنطن عن النفوذ الفائق لليمين المتطرف في إدارة بوش، وأنها من حيث لا يدري المقاتلون فيها فتحت الباب أمام جدل واسع حول هوية الإمبراطورية وعقيدة الدفاع عنها وحدود قوتها لذلك قد لا تكفي فلوجة واحدة. وقد لا يكفي عراق واحد. فالمطلوب إثباته يتعلق بتحولات ثورية في المسيرة الأميركية وفي النظام العالمي. والتحولات الثورية تتطلب مواقف حدية ومواقع توتر. ومن هنا قد تتضاعف قوة ونفوذ أشخاص في الإدارة الأميركية لا يمانعون في استمرار الكراهية لأميركا في الخارج، أو على الأقل لن يشجعوا على بذل جهود للتخفيف منها أو إزالة أسبابها، فالإمبراطورية حسب فهم هؤلاء لا تتوسع بالحب. * كاتب مصري.