ماذا نعرف عن الأدب الكوري الحديث؟ ماذا نعرف مثلاً عن القصة القصيرة في تلك البلاد النائية؟ "أمي والحب الراحل" مجموعة قصص من الأدب الكوري تصدر قريباً عن دار الآداب بيروت في ترجمة جو هي سون وعماد الدين جوهر، وتشكل نافذة على أدب آسيوي نشيط. هنا مقدمة المجموعة. تنبع أهمية هذه المجموعة القصصية المترجمة من اللغة الكورية الى اللغة العربية من كونها إضافة ثرة الى المكتبات العربية التي تفتقد توافر الأدب الآسيوي في شكل عام وأدب منطقة شمال شرقي آسيا على وجه الخصوص. ففي الوقت الذي ظهر الأدب العربي في هذه المنطقة بفضل بعض المحاولات التي قام بها نفر من المتخصصين الكوريين وغيرهم، إلا أننا لاحظنا ندرة المتخصصين من العالم العربي والمهتمين بأدب منطقة شمال شرقي آسيا ولم يقع في أيدينا أي محاولات لنقل ثقافة منطقة شمال شرقي آسيا في شكل قصص أو أشعار. وفي سبيل محاولتنا لتغطية جزء من هذا النقص حاولنا أولاً ترجمة مجموعة من القصص القصيرة. وقد اخترنا عشر قصص وهي من بين أشهر القصص الكورية القصيرة التي كتبت منذ العشرينات وحتى الخمسينات في الأدب الكوري الحديث. إذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ الأدب الكوري الحديث نجد أن قصة "عدم الرحمة" 1917 للكاتب "لي كوانغ سو" تعتبر أول قصة كورية حديثة. إلا أن غالبية النقاد يرون أن القصة الحديثة بمعناها الدقيق بدأت في الظهور منذ العشرينات، بعد أن سادت روح الاستقلال أنحاء البلاد كافة انطلاقاً من ثورة 1919، ومطالبة الكوريين بطرد المستعمر الياباني الذي احتل كوريا عام 1910. الشاهد في الأمر أن المستعمر الياباني انتهج سياسة مرنة أطلق عليها تسمية "السياسة الثقافية" كمحاولة منه لخفض الروح الثورية ومنع بزوغ أي حركات استقلالية حيث سمح للمثقفين بقدر محدود من الحرية يستطيعون من خلاله التنفيس عن الظلم أو الكبت الذي كان يعانيه الشعب الكوري، وعليه انعكست هذه السياسة في زيادة نشاط الحركات الثقافية في مختلف الميادين الأدبية كالصحافة والتأليف... وغيرها من الميادين الثقافية. لعل من بين أهم الكتّاب المعروفين في فترة العشرينات الكاتب "كيم دونغ اين" 1900 - 1951 كاتب قصتي "البطاطس" 1925 و"الجبال العارية" 1932 و"نا دو هيانغ" 1902 - 1926 كاتب قصة "الساقية" 1925. أما الكاتب "كيم دونغ اين" فيعتبر مؤسس الأدب الحديث بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى في تاريخ القصة الحديثة الكورية. فاستعمل للمرة الأولى اللغة العامية ورفض التيار التعليمي الذي كان سائداً في الأدب الكوري القديم، كما قدّم روحاً أدبية تجريدية وتياراً واقعياً في أعماله الأدبية. وكان من الكتّاب الذين يكتبون قصصهم بتيارات أدبية متنوعة منها الواقعية والطبيعية والرومانسية والجمالية وغيرها. ولكن يمكن القول إن التيار الطبيعي هو من أبرز خصائصه الأدبية والذي ظهر في أعماله الأولية مثل قصة "البطاطس". وإذا تأملنا هذه القصة فسنجد خصائص الطبيعية التي تتميز بالنظرة المادية وغير الانسانية المتأثِّرة بالظروف. الكاتب "نا دو هيانغ" الذي انتهت حياته بطريقة مأسوية، حيث توفي في الخامسة والعشرين من عمره، ترك بصماته في تاريخ الأدب الكوري على رغم تأليفه القليل من القصص لمدة ستة أو سبعة أعوام. وبدأ حياته الأدبية بالتيار الرومانسي مؤمناً بأن الفن هو الشعور البدائي مثل العفّة والاغتراب والحنين. لكنه حوّل اهتماماته من العالم الباطني الى العالم الخارجي، أي العالم الواقعي الفقير والعلاقات الانسانية بين الغني والفقير، وعالم الرغبة الانسانية. لهذا نجد في أعماله مثل "الساقية" التيار الواقعي والطبيعي الذي يتناول فيه قضايا الفقر وتفاوت الطبقات وغيرها من القضايا الواقعية وفي الوقت نفسه قضايا الرغبة الانسانية الغريزية. وفي مرحلة الثلاثينات من الاستعمار الياباني، مارست السلطة الحاكمة سياسة ما يسمى بتذويب الشعب الكوري في الثقافة اليابانية بعد إنهائها سياسة الثقافة المرنة التي طبقت في العشرينات. وبدأت في انتهاج سياسة القمع والتضييق في جميع الميادين السياسية والاقتصادية وكذلك الثقافية. ونتيجة لهذا لم يظهر أي ابداع أدبي منذ نهاية الثلاثينات حتى الأربعينات. وتمّ حل "جمعية فناني البروليتارية الكوريين" التي تأسست سنة 1926، بسبب النزاعات الفكرية بينهم والاضطهاد المستمر من السلطة الاستعمارية اليابانية. وكانت هذه الجمعية تمثل الأدب الطبقي على أساس مبادئ الاشتراكية. وقد شارك فيها معظم الكتّاب في هذه الفترة وكانوا يحلمون بتغيير العالم من خلال أدبهم على أساس مواقفهم الاشتراكية والتعليمية. ولكن اضطهاد السلطة الاستعمارية لهذا التيار الاشتراكي جعل الكتّاب يحولون أنظارهم الى تيارات جيدة مختلفة. وفي نهاية الأمر أدى ذلك الى تطوير الأدب الكوري الى مستوى أعلى. وركز الكتّاب اهتمامهم على أعمال ذات كمال فنّي يتناولون فيها الواقع المحيط بهم بأسلوب رفيع المستوى واصفين بدقة الأحوال النفسية لمختلف الشخصيات. من بين هؤلاء الكتّاب: كي يونغ موك 1904 - 1961 كاتب قصة "أدادا البلهاء" 1935 و"كيم يو جونغ" 1908 - 1937 كاتب قصتي "الربيع الربيع" 1935 و"وابل المطر" 1933 و"لي سانغ" 1922 - 1937 الذي كتب قصة "الأجنحة" و"جو يو سوب" 1902 - 1935 كاتب قصة "أمي والحب الراحل" 1935 و"تشاي مان سيك" 1902 - 1950 كاتب قصة "عمي الغبي" 1938. أما الكاتب "كي يونغ موك" فكان يكتب قصصاً ذات تيار واقعي مهتماً بالاستغلال الفاحش والظلم الاجتماعي من طريق وصف العلاقات بين مالكي الأراضي والمزارعين المستأجرين. إلا أنه ومنذ تأليف قصة "أدادا البلهاء" ركّز "كي" اهتمامه على النواحي الفنية الأدبية مسلِّطاً الضوء على صفاء قلب الإنسان الداخلي وكتب عن الضعفاء الأبرياء ناقداً الظلم والاستبداد الاجتماعي. "كيم يو جونغ" الذي مات وعمره 29 عاماً بعد معاناته الفقر ومرضاً مزمناً وعدم استقرار حياته، كتب معظم قصصه كردة فعل لواقع الاستعمار في فترة الثلاثينات وهي الفترة التي عانت خلالها كوريا فقراً مدقعاً. وتمثلت الشخصيات الرئيسة في أعماله القصصية في طبقة الفلاحين الفقراء أو طبقة الشعب الدنيا المعروفة. ووصف الكاتب بدقة حياة عامة الناس تحت الاستعمار سواء أكانوا في المدن أو في القرى والأرياف. وصوّر لنا هذه الشخصيات بطريقة تثير روح الفكاهة والسذاجة. ولكنها لم تكن فكاهة من أجل الضحك فقط، بل من أجل التنفيس عن شقاء شعبه أيضاً. أما الكاتب "لي سانغ" فتميز أدبه بما يمكن تسميته ب"الوعي الذاتي" ويمكن اعتباره أنه يمثّل الفوواقعية super-realism في الأدب الكوري. فهو يهمل تماماً الوقائع الخارجية والشعور الاعتيادي والقواعد الأدبية التقليدية ويتفق النقاد على أن ليس هناك من كاتب كوري وصف نفسية الانسان المنعزل القلق وصفاً عميقاً ودقيقاً مثلما فعل "لي سانغ". أما "جو يو سوب" فبدأ حياته الأدبية ككاتب عن مظاهر الحياة لطبقة الفقراء المظلومين ووعيهم المتمرد لتحقيق مجتمع أفضل ورفع مستوى معيشتهم ووضعهم الاجتماعي. وفي الثلاثينات، انتقل الى الأدب الواقعي والعاطفي ابتداء من قصة "أمي والحب الراحل"، تناول فيها قضية السعي وراء الحب الخالص والاسقاطات العاطفية بسبب التقاليد والأنظمة غير الانسانية. من ناحية أخرى، اهتم الكاتب "تشاي مان سيك" بمعاناة المثقفين وحياتهم التعيسة تحت نير الاستعمار. وجاء هذا الاهتمام الذي تمثِّله قصة "عمي الغبي" من انتقاده لوضع طبقة المثقفين العاطلين من العمل وتناقض النظام التعليمي الاستعماري. تجدر الاشارة الى أن المستعمر الياباني درج على تخريج الكثير من المثقفين ولكنه لم يقدِّم لهم أي طريقة لتأمين رزقهم. وكذلك اهتم الكاتب بنمط حياة الفلاحين في تلك الفترة كما فعل ذلك الكتاب المعاصرون له. أما فترة الأربعينات فهي ما يمكن تسميته بالعهد المظلم في تاريخ الأدب الكوري. إذ بلغ ظلم الاستعمار الياباني قمته. ومنع تماماً استخدام اللغة الكورية كتابة وتحدثاً مع تشديد منقطع النظير في مراقبة الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام في تلك الفترة. وبالتالي تجمّدت معظم نشاطات الكتّاب الأدبية الابداعية. ولم نعثر على أي عمل أدبي متميز في تلك الحقبة. أما حرب الخامس والعشرين من العام 1950 التي اندلعت بين الكوريتين، فهي لم تعمل على تعميق الانقسام بين الشعب الكوري فحسب، بل عملت على تحطيم كل البنى التحتية والصناعية والاقتصادية في كوريا. وفي نهاية المطاف ساد قلق اجتماعي شامل. وقد انعكس هذا الوضع في الانتاج الأدبي للكتّاب الكوريين فصوروا لنا أحوال سكان المدن اليائسة بدلاً من تسليطهم الضوء على أحوال الفلاحين في القرى والأرياف. ويعتبر "سون أوه هوي" الذي كتب قصة "اللهب" من أفضل الكتّاب الذين وصفوا الوضع الكئيب الذي خلفته تلك الحرب وانعكاساتها النفسية على الفرد الكوري. وقد ظهر هذا التيار الجديد الذي عرف بأدب ما بعد الحرب، بعد حرب الخامس والعشرين من حزيران يونيو. ويتميز هذا التيار بتركيزه على وصفه الدقيق لحال الدمار واليأس والعاهات الجسدية والنفسية التي خلفتها فضلاً عن تعميقها حال الانقسام بين شعبي الكوريتين. يعتبر كل هؤلاء الكتّاب ممثلي الأدب الكوري الحديث من فترة العشرينات الى الخمسينات. وقد كتبوا قصصاً انطباعية متأثرين بجو السياسة الثقافية الموقتة بعد ثورة عام 1919 وقصصاً ذات تيارات متنوعة منذ ممارسة الاستعمار الياباني سياسة تذويب الشعب الكوري في الثلاثينات وقصصاً تصف الجراح واليأس بعد الحرب الكورية في الخمسينات. ويمكن القول إن البيئة المحيطة بهذه الأعمال القصصية لا تختلف كثيراً عن الجو الأدبي العام في العالم العربي الذي مرّ بمراحل تاريخية قريبة الشبه مع كوريا، كما انها تتطابق مع وجدان القارئ العربي الذي مرّ بمراحل الصراع ومعاناته نفسها من ويل الاستعمار والصراعات الداخلية. وتبقى هنا حقيقة ثابتة: ان الأدب أياً كان يتأثر بالوسط السياسي والأوضاع الاجتماعية، فهو ليس فقط بمثابة مرآة تعكس الواقع المعاش إنما هو أيضاً بمثابة الزئبق الشديد الحساسية والتأثر بالتغيرات التي تطرأ على البيئة المحيطة. وبعد هذا التقديم الموجز، يجدر بنا التطرق وبايجاز شديد الى الجوانب الفنية ومدلولات القصص العشر المترجمة: تتناول قصص "البطاطس" و"الساقية" و"وابل المطر" موضوع المادة وغريزة الانسان والفساد الخلقي كانعكاس للبيئة الفقيرة التي أوجدها الاستعمار الياباني وغريزة الانسان الطبيعية. أما قصة "أدادا البلهاء" فهي تصف نهاية امرأة ضحية للأطماع المادية. ينتقد الكاتب فيها مادية الانسان من خلال شخصية "أدادا" البكماء البريئة. يحوِّل المال في هذه القصة البؤس الى السعادة حيناً والسعادة الى البؤس حيناً آخر. فزوجها الأول تزوج بها بسبب المهر الذي قدمه ابوها، ثم يطردها عندما تتحسن أحواله المادية. وزوجها الثاني أيضاً اختارها لأنه لم يتعين عليه تقديم المهر، ثم يقتلها بسبب النقود. من ناحية أخرى، تعتبر "أدادا" شخصية انسانية صافية نقية لا تكترث بالمادة وتنتهي حياتها بصورة مأسوية احتجاجاً على الواقع المعاش الذي يعبد المال. تصف كل من قصتي "الجبال العارية" و"عمي الغبي" مآسي الشعب الكوري المستعمر وشخصيات المجتمع السلبية التي أوجدها النظام الاستعماري. ونشعر في قصة "الجبال العارية" مدى الظلم الذي يعانيه المزارعون المستأجرون لملاك الأراضي الصينية. فالمزارع الذي لا يأتي بمحصول كاف مثل سونغ يكون مصيره الضرب حتى الموت ولا يتجرأ أي أحد في القرية على الاحتجاج على هذا العمل الشنيع إلا ايكهو الملقب بالقط المتوحش بسبب إثارته للمشكلات في القرية. وتدور معظم الأحداث والمفاجآت حول البطل الرئيس لهذه القصة ايكهو، ويشير من خلال معاناة المزارعين وتغربهم عن بلادهم الى الشعب الكوري وما واجهه من صعاب جراء الاستعمار الياباني. أما "عمي الغبي" فيتناول فيها الكاتب عمي المثقف العاطل وأنا المتعاون مع الاستعمار الياباني. فعمي كان منضماً الى الحركة الاشتراكية للنضال ضد المستعمر ويتم اعتقاله لكن ليس له أية مسؤولية تجاه أسرته ويستغل زوجته الطيبة. أما أنا فيعمل في متجر يديره ياباني كانت امنيته أن يتزوج بيابانية وتغيير اسمه الى اسم ياباني، بمعنى استلابه ثقافياً والرغبة في اعادة تعريف هويته على أنه ياباني. تصف قصة "الربيع الربيع" لا معقولية المجتمع الزراعي الكوري من خلال العلاقات بين مالك الأرض والمزارع المستأجر. بطل أنا يعمل عند حميه منذ ثلاثة أعوام بلا مقابل لأنه وعده بأن يزوِّجه ابنته. ولكن حماه يؤجل الزواج بحجة ان ابنته لم تكبر بعد. في نهاية القصة يختلف البطل مع حميه وتدافع محبوبته عن أبيها. ترمز هذه القصة الى استغلال مالكي الأرض للمزارعين من شباب وطبيعة وأدوات خلاف. تعد قصة "أمي والحب الراحل" قصة حب محافظ بين الضيف والأم. تترك الأم حبها من أجل ابنتها. يمكن القول إن هذه الأم تمثِّل المرأة الشرقية التي تضحي بنفسها في ظل التقاليد والعادات السائدة. أجمل ما في هذه القصة أن الكاتب يصف هذا الحب من طريق عيني ابنة الأم ذات الستة أعوام التي لا تفهم معنى الحب. تعتبر قصة "الأجنحة" التي فتحت آفاق "الفوواقعية" في الأدب الكوري، عملاً متفوّقاً كسر كل قواعد وقيود القصة التقليدية وقيودها. حيث اعتمد كاتبها على طريقة "تيار الوعي" على أساس الحوار الداخلي واصفاً بدقة نفسية الشخص المنعزل عن المجتمع والعلاقات الانسانية. أخيراً، قصة "اللهب" تعتبر من أجود قصص أدب ما بعد الحرب في الأدب الكوري. تتناول هذه القصة المتوسطة الحجم التاريخ الكوري الحديث لمدة ثلاثين عاماً منذ ثورة 1919 وحتى الحرب الكورية عام 1950. تعتبر الشخصيات الثلاث التي ظهرت في القصة شخصيات نموذجية عاشت هذه الفترة. فشخصية كو هيون تمثل المثقف الكوري الذي عاش هذه الفترة غير المستقرة، والشيخ كو الشخصية التقليدية ما قبل التمدن، وأخيراً أم كو هيون المرأة الكورية النمطية التي عانت ما عانت من ويلات الحرب، أماً وزوجة بعد فقدها للزوج في فترة الاستعمار الياباني. وتصف هذه القصة مراحل حياة الشاب كو هيون الذي ولد من جديد في نهاية الأمر كشخص كله عزيمة وإصرار بعدما كان فتى ضالاً. ولا شك في أن هذه القصة تعتبر صورة مصغرة للتاريخ الكوري الحديث وصراعاته الداخلية التي دارت فيه. 2 آذار/ مارس 2004 سيول، كوريا الجنوبية