كما أشرنا في المرة الماضية إلى أن المشهد السردي يمثّل الحقل الأكثر خصوبة وتنوعًا وحيوية في المشهد الأدبي السوداني، لذا كان من الطبيعي أن نخصه بأكثر من حلقة. وتوقفت الحلقة الماضية عند البذور الخصبة للقصة السودانية في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي هذه الحلقة نعرض بإيجاز مكثف لمراحل القصة القصيرة بعد ذلك قبل أن ندلف لحاضرها الراهن. كانت الأربعينيات والخمسينيات مسرحًا للعديد من الأحداث الهامة التي تركت آثارها على وجه الحياة في السودان وخارجه، فمن ذلك: قيام الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، واستقلال السودان 1956، وتصاعد حركة النضال ضد الاستعمار في أفريقيا ومختلف أنحاء العالم، وهبوب رياح التيارات الفكرية والأدبية المختلفة لاسيما الواقعية بتجلياتها المختلفة، وتصاعد درجة الوعي الثقافي والاجتماعي بانتشار التعليم وتدفق ثمار المطابع العربية والغربية على السودان، كان لكل ذلك أثره على تطور القصة القصيرة التي غادرت سذاجة الثلاثينيات ورومانسيتها المتمسحة بالواقع إلى آفاق أرحب. شهدت الخمسينيات كتابة الطيب صالح (1928 2009) لأولى قصصه القصيرة وهي “نخلة علي الجدول” سنة 1954، والتي مثّلت اختراقًا للسياق القصصي الخمسيني، مثلما مثّل سلفه معاوية نور اختراقًا لسياق الثلاثينيات، وإن كانت القصة لم تنشر إلا في أوائل الستينيات في مجلة القصة. شهدت فترة الخمسينيات أيضًا ظهور أول مجموعة قصصية سودانية، وهي مجموعة “غادة القرية” لعثمان علي نور وذلك في سنة 1954، وفي السنة التالية لها ظهرت مجموعة “موت حجر” لمحمد سعيد معروف، تلتها المجموعة الثانية لعثمان علي نور في نفس العام وهي “البيت المسكون”، كما شهدت أواخر الخمسينيات ظهور مجموعات قصصية مثل “أبراج الحمام” لفؤاد عبدالعظيم عام 1958، ومجموعة “الحب الكبير” لعثمان علي نور في نفس العام، وكذلك “البرجوازية الصغيرة“ المجموعة القصصية المشتركة بين علي المك، وصلاح أحمد إبراهيم سنة 1958، والتي قدم لها الناقد العربي الكبير إحسان عباس. وكان من الطبيعي أن تكون قصص هذه الفترة أكثر نضجًا من قصص المرحلة السابقة، إذ تراجعت الرومانسية شيئًا ما عن صدارة المشهد، وشرعت الواقعية تصبغ قصص المرحلة بميسمها الخشن. وربما كان عثمان علي نور الذي رحل عنا في أوائل الألفية من أهم قصاصي هذه الفترة، فبينما هجر عدد من رفاقه حقل السرد والتهمتهم دروب الحياة المختلفة فإن عثمان نور ظل قابضًا على جمر القصة القصيرة حتى وفاته رحمه الله، وقد أصدر في حياته خمس مجموعات قصصية هي: “غادة القرية”، “البيت المسكون”، “الحب الكبير”، “الوجه الآخر للمدينة”، و“معالي الوزير”. ويعكس مجمل المشروع القصصي لعثمان علي نور الهموم الاقتصادية والاجتماعية الثقيلة لمجتمعه، حينما كان الهم الأدبي والهم الاجتماعي يسيران جنبًا إلى جنب، وكانت المسافة بين القاص والمصلح الاجتماعي ملتبسة، وقد أثر كل ذلك على لغة القصة وبنائها، فقد اتجهت لغتها إلى المباشرة والوضوح، بينما اتجه بناؤها إلى البساطة التي تقترب في بعض الأحيان من السذاجة الفنية، والتزمت بشكل كبير بالبناء التقليدي للقصة وإن لم تعدم روح الصدق الفني، وحرارة الفن. ومن أبرز أعلام هذه الفترة بالإضافة للأسماء السالفة: خليل عبد الله الحاج ، أبوبكر خالد،، حسن نجيلة. مرحلة الستينيات تعتبر مرحلة الستينيات مرحلة قفزة نوعية على صعيد الكتابة في السودان وخارجه، إذ تضافرت عوامل كثيرة لنقل القصة من تسجيلها الفقير للواقع، أو تهويماتها الرومانسية إلى أفق جديد مختلف على يد جيل جديد من القصاص: الطيب صالح، ابن خلدون، عثمان أحمدون، محمود محمد مدني، بشير الطيب، علي المك، محمد عبدالله عجيمي، إبراهيم إسحق، عثمان الحوري، عيسى الحلو، إبراهيم إسحق، مصطفى مبارك، مختار عجوبة، بشير الطيب، الزبير علي.. ووجدت أعمال هؤلاء القصاصين طريقها للنشر عبر الملاحق الثقافية للصحف، وعبر مجلات مثل “الثقافة السودانية” و”الخرطوم” وغيرهما، وظهرت أكثر من عشرين مجموعة قصصية من بينها “الأرض الصفراء” للطيب زروق 1961، و”في قرية” لعلي المك 1962، و”ريش الببغاء” لعيسى الحلو 1967، و”أحلام عذراء” لكاتبة سودانية باسم مستعار هو “سماء بنت الشمالية” وهي أول مجموعة لقاصة سودانية وصدرت سنة 1960. وانفتحت قصة الستينيات على عوالم واسعة: تيارات الفكر الأوربي والعربي القادم عبر بيروت والقاهرة، وتفاقم الوعي بحدة إشكالات الواقع ومساربه المعقدة، وازدادت حساسية القاص المرهفة تجاه متغيرات الواقع وتحولاته في تلك الفترة الحاسمة، كما انفتحت على تيارات الوجودية والاشتراكية وغيرها، وخفت وطأة حضور التراث الرومانسي الغارق في آلام الذات وأشجانها. ولذا كان من الطبيعي أن تتفكك البنية التقليدية للقص وذلك عبر استثمار القاص لتقنيات تيار الوعي، والتقطيع، والاسترجاع ،والمونولوج، والزمن النفسي الداخلي، والاحتفال بالمسكوت عنه، وتداخل الأزمنة عبر هتك الزمن التعاقبي السببي، وبكلمة واحدة: تصاعد الوعي بتقنيات القصة القصيرة كجنس أدبي حساس قائم بذاته. كان الحدث الأبرز في الستينيات صدور أول مجلة قصصية وهي مجلة القصة التي أصدرها القاص عثمان علي نور في يناير 1960 كأول وآخر مجلة متخصصة في القصة القصيرة تصدر في السودان. استمرت مجلة القصة حتى منتصف 1961 حيث توقفت نهائيًّا، وقد لعبت هذه المجلة دورًا كبيرًا في نهضة القصة القصيرة، إذ عرفت بأسسها وتقنياتها، ونشرت لعدد واسع من القصاصين، وتابعت إنتاجهم باهتمام ودأب، واحتضنت عددًا واسعًا من النقاد والمهتمين بالقصة القصيرة. مرحلة السبعينيات كانت مرحلة السبعينيات مرحلة انتقالية على أصعدة عديدة، ويلخص الناقد النابه مصطفى الصاوي في دراسته القيمة “مقدمة في القصة القصيرة السودانية” أهم متغيرات هذه المرحلة في: الانقلاب العسكري في 25 مايو 1969 الذي قاده العقيد جعفر نميري، وما تبعه من إلغاء التعددية، وخنق الحريات العامة، ومصادرة الصحف وتأميمها، وتفاقم هجرة السودانيين إلى الخارج، وارتفاع تكاليف المعيشة، وشيوع نمط من الحياة الاستهلاكية بعد عودة المغتربين من الخليج لاسيما السعودية، أيضًا انهيار المشروع القومي العربي، والتوسع الإسرائيلي، وتداعيات هزيمة 67 ، وغيرها. وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك، أو بعضه على القصة القصيرة التي تمرد كتابها على الواقع، وعلى قصة الخمسينيات معًا، وقد وجد هؤلاء القصاصون مسرحًا لنشر أعمالهم في الملاحق الثقافية لصحيفتي «الأيام« و»الصحافة«، وفي مجلتي «الخرطوم« و»الثقافة السودانية». كما ظهرت الروابط الأدبية مثل رابطة سنار الأدبية، ورابطة الجزيرة للآداب والفنون، ورابطة أدباء الجامعة، والغابة والصحراء، وأسهمت كلها في الحركة الثقافية بقوة وفاعلية. في أوائل السبعينيات ظهر كتاب «القصة الحديثة في السودان« للدكتور مختار عجوبة الذي يعد علامة في النقد القصصي في السودان بمساهمته النقدية والتاريخية في ترسيخ القصة جنسًا أدبيًّا في قلب المشهد الأدبي والنقدي في السودان في وقت كانت كتب نقد الشعر تحتل رفوف المكتبة الأدبية السودانية. ظهر في السبعينيات عدد كبير من القصاصين فيما يمكن أن نطلق عليه جيل السبعينيات من أبرزهم : محمد عبدالله عجيمي، محمد المهدي بشرى، بشرى الفاضل، مبارك الصادق، محمد الفكي عبدالرحيم، نبيل غالي، عثمان علي الفكي، أحمد الفضل، هاشم محجوب، محجوب شعراني، محمد مصطفى الحاج، حسن أبوكدوك، حسن الجزولي، محمد الفكي عبدالرحيم، عثمان عبدالنبي، سامي يوسف. ويرصد الناقد مصطفى الصاوي أهم الملامح الفنية لهذه الحقبة في: تجاوز الأشكال التقليدية في القص، والتنوع في طرائق البناء السردي كالسرد المتقطع، وتعدد ضمائر السرد، واستلهام التراث الشعبي، وتجلي ظاهرة القمع كما في قصص بشرى الفاضل، والتدفق الشعري في السرد، والترميز، وبروز الأنا المحبطة والمنكفئة على ذاتها، والاستخدام المميز للغة. مرحلة الثمانينيات انفتحت القصة الثمانينية على عوالم أوسع، واستجابت لحساسية العصر، وللتطور الكبير الذي حدث في حقل الدراسات النقدية مرسخًا لحرية الكتابة، واللعب الحر باللغة، وظهر نوع من التمرد على نمط القصة السبعينية كما نجد عن محمد خلف الله سليمان، وعادل القصاص، وزهاء طاهر. وظهر طيف جميل من القاصات أمثال: سلمى الشيخ سلامة، إنعام الحاج، فاطمة السنوسي، سعاد عبدالتام، آمال حسين، عوضية يوسف، بثينة خضر مكي،.. ويلخص لنا الناقد النابه مصطفى الصاوي أهم التيارات الفنية لهذا الجيل على النحو التالي : القصة المركزة، أو القصة القصيرة جدًّا: فاطمة السنوسي، عباس الهاشمي العوالم الفنتازية: زهاء طاهر، بشرى الفاضل . الواقعية الجديدة: عادل القصاص، سلمى الشيخ، يحيى فضل الله. التجريب وتفتيت اللغة: وذلك بتوسيع دلالاتها ومعانيها وفتحها صوب عوالم أوسع رحابة : صلاح الزين. مرحلة التسعينيات وما بعدها: يمكن دون مبالغة أن نصف فترة التسعينيات وما بعدها بأنها الفترة التي شهدت انفجار السرد القصصي والروائي في السودان، فالمجموعات القصصية، والروايات التي صدرت في هذه الحقبة تكاد تعدل كل ما صدر في الحقب السابقة، فقد انفتح باب النشر واسعًا أمام الأجيال الشابة التي تكتب القصة والرواية، وكان لذلك مضاره بالطبع، إذ لم تسد معايير صارمة للنشر، مما سمح بتسرب الكثير من الأعمال الرديئة لساحة الأدب السوداني. ويمكن القول بشكل عام أن المد الشعري انحسر نوعًا ما لصالح الشعر في هذه الحقبة، وواكب ذلك اهتمام نقدي واسع بالقصة القصيرة وظهر اهتمام خاص بالقصة القصيرة، فقد ظهرت عدد من الرسائل الجامعية والكتب التي تناقش قضايا القصة المختلفة، كما برز عدد من النقاد الذين تابعوا مسيرة القصة القصيرة والرواية بالمتابعة والتحليل والنقد بحيث يمكن القول بظهور جيل من النقاد تكاد تحتل القصة القصيرة مركز خطابهم النقدي، يمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال: معاوية البلال، مصطفى الصاوي، محمد المهدي بشرى، أحمد عبدالمكرم، نبيل غالي، هاشم ميرغني. وظهر نادي القصة السوداني في منتصف التسعينيات ليدفع بعدد من الأسماء، ويصدر عددًا من المجموعات القصصية، ويعقد ندوته الأسبوعية عن القصة القصيرة لعدة سنوات. كما برز عدد واسع من الكتاب من جنوب السودان الذين يكتبون بالإنجليزية أو العربية أبرزهم: إستيلا قاتيانو، أغنيس لوكودو، جوزيف لوكودو، جون أورليو أوكج. وتطول قائمة كتاب القصة القصيرة في التسعينيات وما بعدها، ولكن يمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال: أحمد الملك، أحمد المتوكل، إستيلا قاتيانو، عثمان شنقر ، عبد العزيز بركة ساكن، أحمد أبوحازم، جمال طه غلاب، عاصم الصويم، عبدالباسط مريود، عثمان عبدالله محمد، ناجي البدوي، والقائمة تطول.