يمر لبنان في مرحلة سياسية دقيقة أفرزتها الاهتمامات الدولية في الوضع الداخلي والوجود السوري بعد التمديد للرئيس اميل لحود وتداعيات هذا التمديد الذي أدى الى قرار من مجلس الأمن طالب بانسحاب القوات السورية من لبنان وتجريد الميليشيات المحلية والأجنبية من أسلحتها. وخلق هذا التطور وضعاً سياسياً أدى الى وقوف قوى سياسية تدعو الى أخذ القرار الدولي بجدية وأخرى ضده. واعتبر رئيس الحكومة اللبنانية الجديدة عمر كرامي ان الانتخابات النيابية المقبلة ستحدد المعالم السياسية الجديدة للبنان. يجمع الوسط السياسي في لبنان على المطالبة بقانون انتخاب جديد تجرى على أساسه الانتخابات النيابية المقبلة المتوقع اجراؤها في شهر نيسان ابريل المقبل. وتعهدت الحكومة الجديدة برئاسة الرئيس عمر كرامي في بيانها الوزاري الذي نالت ثقة المجلس النيابي على أساسه "بوضع قانون انتخاب جديد يشكل المدخل لتحقيق الوفاق الوطني والمصالحة الوطنية انطلاقاً من وضع معيار واحد يؤمن صحة التمثيل ولا يأتي على قياس أشخاص وتكون فيه السلطة محايدة بالكامل". وزير الداخلية سليمان فرنجية المعني مباشرة بوضع هذا القانون وعرضه على الحكومة للموافقة عليه وبالتالي تحويله الى المجلس النيابي لمناقشته اعتبر في تصريحات صحافية "ان دراسة مشروع قانون الانتخاب يجب أن تشمل كل الفئات والكتل والقوى السياسية". مشيراً الى انه مسؤول عن العملية الانتخابية التي ستجرى مؤكداً ان قانون الانتخابات هو من مسؤولية الدولة. وفي هذا السياق يقول احد خبراء قوانين الانتخابات، وهم أقل من عدد أصابع اليد الواحدة والذين تجرى الاتصالات معهم من معظم القوى السياسية في لبنان رسمية أو غير رسمية لوضع تصوراتهم حول القانون الجديد، أن هنك انطباعاً بوجود "اجماع من كل الأطراف على وضع قانون عادل"، مشدداً على ان طريقة وضع القانون الانتخابي يمكن ان تظهر فيه نيات التزوير ليس في لبنان فقط بل في معظم الدول حتى المتقدمة منها وليس في دول العالم الثالث فقط نافياً أن تؤثر التدخلات في العملية الانتخابية بحد ذاتها في نتائج الانتخابات نظراً الى وجود ضوابط كثيرة ابتداء من حق ان يتمثل جميع المرشحين بمندوبين عنهم في صناديق الاقتراع وانتهاء بعملية الفرز التي تجرى علناً وعلى شاشة التلفزيون ما يصعب على أي موظف تزوير الأسماء أو استبدال اسماء بأخرى الى ما هنالك من الأساليب التي كانت متبعة في الماضي لتزوير نتائج الانتخابات. ويعتبر الخبير ان كلام البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير عن وجوب وجود مراقبين دوليين يصب في خانة تدويل العملية الانتخابية وليس في منع التزوير لأن هذا الأمر يبدو صعباً جداً ان لم يكن مستحيلاً نظراً الى وجود ضوابط في القانون الانتخابي الحالي تمنع ذلك. أجريت أول انتخابات نيابية بعد اتفاق الطائف على أساس قانون جديد قدمته حكومة الرئيس رشيد الصلح الى المجلس النيابي وافق عليه في 16 تموز يوليو عام 1992 ولم يعارضه سوى نائب واحد هو الدكتور ألبير مخيبر الذي وصفه بالقانون "المستورد والمفروض". وقال المحللون ان القانون انتهك اتفاق الطائف إذ قرر رفع عدد المقاعد النيابية الى 128 مقعداً في وقت كان اتفاق الطائف قرر وبعد نقاش حاد ومفاوضات طويلة مع دمشق ان يكون عدد المقاعد 108، ولم يلحظ القانون أي حق بالاقتراع للبنانيين الموجودين في الخارج خصوصاً انهم يشكلون ثلث عدد الناخبين. واتهم المعارضون للقانون واضعيه بأنه أقر لاستخدامه بدرجة أولى كوسيلة للحفاظ على توجهات السياسة السورية وتثبيتها في لبنان، وأثار أيضاً تحفظات الأوساط المقربة من الحكم ومن المؤيدين للتعاون مع سورية مثل وزير الخارجية فارس بويز صهر الرئيس الياس الهراوي وكذلك الأحزاب المسيحية وعدد من النواب المسيحيين المستقلين بمن فيهم نواب مسلمون. وأفرز هذا القانون ظاهرة أطلق عليها اسم "المحادل" ادت الى سيطرة ثلاثة زعماء على المجلس النيابي هم وليد جنبلاط ونبيه بري ورفيق الحريري، إضافة الى "حزب الله"، ما عطل وظيفة النائب الذي أصبح ولاؤه لزعيم كتلته يحافظ على مصالح هذا الزعيم ولا يقوم بواجبات وظيفته كنائب يمثل الناس ويدافع عن مصالحهم وهمومهم ومشكلاتهم. اليوم ماذا تعني المطالبة بقانون انتخاب عادل ومتساوٍ ويستطيع الناس من خلاله ان ينتخبوا نواباً يمثلونهم تمثيلاً حقيقياً وماذا يعني تعهد الحكومة اقرار قانون جديد للانتخابات "يحقق الوفاق الوطني ويؤمن صحة التمثيل ولا يأتي على قياس أشخاص". انه اعتراف صريح بأن القانون الحالي لا يلبي جميع هذه المواصفات وان لبنان يحتاج الى قانون انتخابات جديد يؤمن الحد الأدنى من الديموقراطية والتمثيل الشعبي الصحيح. من هم الذين يضعون مثل هذا القانون؟ يبدو ان الخبراء في لبنان في هذا المجال قليلون جداً وربما انحصروا في مؤسسة واحدة أو مؤسستين يتولاهما شخصان أصبحا محجة السياسيين والمسؤولين المحليين والاقليميين. يعترف هؤلاء بأن معظم السياسيين يجهلون ماهية القوانين الانتخابية حتى ولو قدمت لهم الشروحات المفصلة وان كل ما يطلبونه من أصحاب الاختصاص قانون يؤمن لهم فوزهم وفوز لائحتهم، وفي هذا ما يعرقل ويزعج هؤلاء في عملهم. لقد وضع أحد هولاء الخبراء حتى اليوم احد عشر قانوناً بناء على طلب عدد من السياسيين والزعماء ورؤساء الأحزاب والكتل ومن بينهم رئيس حزب الكتلة الوطنية كارلوس اده الذي طالب بقانون يعتمد الدائرة الفردية والنائب نجيب ميقاتي الذي طلب قانوناً يعتمد النظام المركب وكذلك الوزير والنائب السابق جورج افرام ورياض الأسعد الذي طالب بقانون يعتمد النسبية على مستوى البلاد. أما رئيس مجلس النواب السابق السيد حسين الحسيني فلديه مشروع قانون يعتمد النسبية على اساس المحافظة ووزير الداخلية السابق الياس المر طلب قانوناً يعتمد الدوائر الصغرى. ويقول احد الخبراء المعروفين في قانون الانتخاب والذي يصعب الاتصال به او الاجتماع معه هذه الأيام بسبب اللقاءات المكثفة التي يعقدها مع السياسيين وكبار المسؤولين والوزراء ورؤساء الكتل النيابية الذين يريدون منه وضع قانون جديد يؤمن لهم فوزهم في مناطقهم في الانتخابات النيابية المقبلة. كما ان المسؤولين السوريين المعنيين بالملف اللبناني يبدون اهتماماً لا يقل عن اهتمام السياسيين اللبنانيين بالمشروع الذي يتم وضعه ويتابعون مع الخبراء الأفكار المطروحة والتفاصيل الدقيقة. ويبدو ان اعتماد دوائر متوسطة ومتوازنة يتراوح عددها في كل للبنان بين 10 و15 دائرة هي التي ستعتمد لأنها ترضي كل القوى سواء المعارضة أم الحكومية لأنها توحي بالعدالة التمثيلية للناس. ويقول الخبراء ان المناطق الصعبة والحرجة بالنسبة الى السلطة اذا ما اعتمدت الدوائر المتوسطة والمتوازنة ستكون في العاصمة بيروت. وصعوبة التنبؤ بنتائجها تكمن في كثافة الناخبين السنة وقدرة الرئيس رفيق الحريري على التحكم بكل مقاعدها، والمطلوب لتفادي مثل هذا الوضع بالنسبة الى السلطة ان تحاول تقسيم العاصمة الى دوائر تتمكن معها من تحريرها من الأكثرية السنّية وايجاد منطقة فيها كثافة شيعية وخليط من الناخبين المسيحيين والشيعة لئلا يحصد الرئيس رفيق الحريري أكثر من 9 أو 10 مقاعد على الأكثر من أصل 19. أما بالنسبة الى جبل لبنان فإن اعتماد الدوائر المتوسطة والمتوازنة تعترضه مشكلة بالنسبة الى فوز المعارضة ضد السلطة ولها وجهان الأول هو المعارضة المسيحية والثاني هو رئيس اللقاء النيابي الديموقراطي وليد جنبلاط الذي يتمتع بأرجحية ضمن الدروز لأن الاتفاق بينهما سيمكنهما من الفوز بجميع المقاعد النيابية باستثناء جبيل وكسروان اذا ما قام تحالف يميني معتدل بدعم من البطريرك الماروني ومدعوم بخدمات يقدمها المرشحون المحتملون في لائحة تواجه لائحة المعارضة. ومع قلة المعلومات المتوافرة حتى الآن عن تفاصيل مشروع القانون الجديد الذي يتم وضعه على أساس الدوائر المتوسطة والمتوازنة في كل الأراضي اللبنانية والذي يسمح بفوز نحو ثلاثين نائباً من المعارضة من أصل 128 نائباً بحسب الأوساط المشاركة في وضع مشروع القانون، فإن التركيز الحالي ينصب على تقسيم هذه الدوائر في شكل يحدد حصة المعارضين الذين يمكن ان يفوزوا على أساس القانون الجديد فلا يزيدون عن ثلاثين نائباً ويؤمن في الوقت نفسه مقاعد معينة لبقية الزعماء والقوى السياسية الموالية لسورية من دون اعطاء زعماء الكتل الحاليين فرصة جديدة للسيطرة على جميع النواب والابقاء على ما هو معروف اليوم ب"المحادل" وتكوين نواب مستقلين يستطيعون خلق توازن داخل المجلس النيابي الجديد يمكن الاعتماد عليه في اخراج اللعبة السياسية من أيدي الزعماء الثلاثة ووضعها على طريق يمكن أن يؤسس لحال سياسية جديدة مغايرة للحال التي يعيشها لبنان في الوقت الحاضر.