الزمان صباح الرابع من تشرين الثاني نوفمبر 1979، والمكان شارع طالقاني في وسط طهران. كان للشارع الذي يقع فيه مبنى السفارة تاريخ، اذ أطلق عليه قبل الثورة "تخت طاووس"، أي عرش الطاووس، وهو رمز العائلة البهلوية التي حكمت إيران قبل انتصار ثورتها. وفي وقت مبكر عن هذا التاريخ عرف الشارع أيضاً باسم "فرانكلين روزفلت"، الرئيس الأميركي الأسبق، انعكاساً لعلاقات حميمة ميزت واشنطنوطهران منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت الثورة الإيرانية قد انتصرت، فهرب الشاه من إيران وعاد الإمام الخميني من منفاه، وحيّد الجيش وشكلت الحكومة الانتقالية لإجراء الاستفتاء على الجمهورية. في هذه اللحظة التاريخية من عمر الثورة الإيرانية كانت خطوط الصراع السياسي قد تشابكت وامتدت لتطاول كل قطاعات الداخل، في حين ظلت مفتوحة مع الخارج. وجدت العملية السياسية وعملية التغيير الثوري نفسهما في أزمة مستحكمة كان عنوانها المؤسسي الصراع بين مجلس الثورة الموالي للإمام الخميني والحكومة الانتقالية بقيادة مهدي بازركان. أما العنوان الأساس للحالة السياسية وقتها فكان الصراع الدائر بين أنصار نظرية "ولاية الفقيه" بقيادة الإمام الخميني من جهة، وبقية التيارات السياسية الإيرانية المعارضة للنظرية، على اختلاف توجهاتها ومشاربها الفكرية والعقائدية، من ناحية آخرى. انتصرت الثورة ولكنها باتت في منعطف تاريخي، وكانت خيوط التوازنات السياسية متشابكة إلى درجة عدم إمكان الفصل بينها دون أن تتقطع. وفي حين كان أنصار "ولاية الفقيه" يراكمون النفوذ ويسيطرون تدريجاً على مواطن القوة في مفاصل الدولة والمؤسسات، أدارت الأطراف المعارضة معركتها على أساس ردات الفعل. كان للطرف الأول الأكثر راديكالية أنصار، كما كانت له أيضاً مرجعية الإمام الخميني، أما الطرف الثاني المتراوح بين الفعل وردة الفعل، فكان واعياً بالتدرج الجاري في عملية تركيز السلطة بيد الطرف الأول، ولكنه كان يفتقد إلى الرمز والوحدة بين صفوفه. لم يكن الطرف الثاني بحال من الأحوال موحداً على خلفية سياسية أو فكرية متقاربة، ولم يكن له حتى برنامج مرحلي موحد. ولما تحين كل طرف من الطرفين فرصته" كانت طهران تغلي وإن غطتها ثلوج الشتاء. ولكنها حالة إيران السياسية التي تبطن غالباً عكس ما تظهر. حلت في الرابع من الشهر الجاري ذكرى مرور ربع قرن على احتلال السفارة الأميركية في طهران، وهي محملة بدلالات ومعان متجددة ومتضاربة في آنٍ" بحيث تمنع الدلالات الذكرى من السقوط بالتقادم في غياهب النسيان. وتعود أهمية عملية احتلال السفارة إلى التغيير العميق الذي ميز من وقتها العلاقات الإيرانية -الأميركية ومازال يصبغها بالتوتر والصراع. ولا تتوقف دلالات هذه العملية عند ذلك فقط، إذ تختلف قسمات وملامح "إيران الثورة" قبل ربع قرن جذرياً عن "إيران الدولة" التي أعقبت هذه العملية، سواء لجهة الأيديولوجيات والتوجهات أو حتى تشكيلة نخبتها الحاكمة وميكانيزمات وشروط إعادة انتاجها، بحيث يمكن اعتبار احتلال السفارة الأميركية في طهران منعطفاً مهماً في تاريخ النظام السياسي الإيراني أيضاً. وعلى ذلك فاستحضار تاريخ الرابع من تشرين الثاني 1979 ودلالاته، يلقي حزمة ضوء على التطورات السياسية في إيران باعتبارها لاعباً أساسياً في المنطقة. بعد أن يربط هذه التطورات في سياقاتها التاريخية، وهي الشرط الضروري لإطلالة موضوعية على هذا الحدث تسمح بقراءة جديدة لأحد أكثر التطورات السياسية راديكالية ربما في تاريخ منطقتنا. ولأن عجلة التاريخ وإن كانت تدور بلا توقف وفي اتجاهات غير نمطية، إلا أنها أيضاً تحتفظ بمحطات فارقة في مسار تطور المجتمعات والنظم السياسية، وهو ما ينطبق بامتياز على عملية احتلال السفارة الأميركية في طهران. في هذا اليوم التاريخي تجمع مئات من الطلبة الإيرانيين أمام أسوار السفارة الأميركية مرددين الهتافات المميزة للثورة. وظن القاطنون في الشارع وأصحاب المحال التجارية أنها مظاهرة مألوفة من التي كانت تشهدها طهران يومياً منذ انتصار الثورة. لكن الطلبة لم يكتفوا بالهتاف أمام مبنى السفارة، بل قطعوا السلاسل الحديد التي تؤمن البوابات، واندفعوا إلى داخل السفارة ليضعوا العاملين فيها والبالغ عددهم 61 شخصاً تحت سيطرتهم. ولم يطل الأمر كثيراً حتى قطع الطلبة "السائرون في خط الإمام" الشك باليقين في مقاصد حركتهم، إذ أصدروا جرياً على عادة السياسة في بلدان الشرق الإسلامي بيانهم الرقم واحد. ذهبت عملية احتلال السفارة مثالاً على "الأعمال البربرية والوحشية" من المنظور الأميركي، وصارت ظلاً يرافق التغطيات الإعلامية عن إيران في الغرب. وساهمت هذه السياسة الإعلامية الموجهة في تنميط صورة الثورة الإيرانية في العالم، بحيث صارت كلمة إيران تستدعي صورة السفارة الأميركية "المحتلة". وتعمدت هذه السياسة الإعلامية تفكيك الحدث من المكون السياسي، فقدمت مقتحمي السفارة من الطلبة على أنهم حفنة من "الأوباش واللصوص المسلحين الذين يروعون الدبلوماسيين الآمنين". وصعدت المواجهة الإعلامية إلى درجة أعلى حيث صارت صفة الإرهابي تلصق بهم، مثلما لصقت بالمقاتلين الفلسطينيين من قبل. إذن تحصنت الحجج المناوئة للطلبة خلف الأسانيد الأخلاقية التي لا تخلو من وجاهة، لكن الحجج لم تنحصر فقط في هذا الإطار، بل تخطتها إلى الأسانيد القانونية. إذ ان سفارات الدول وممثلياتها الدبلوماسية في الخارج جزء لا يتجزأ من نطاق السيادة الوطنية لهذه الدول. أما زاوية النظر المعاكسة التي مثلها الطلبة فترى أن احتلال السفارة عملية سياسية كان لها هدف واضح تمثل في المطالبة باستعادة الشاه المخلوع ليحاكم على جرائمه في حق الشعب الإيراني، وأن منح واشنطن حق اللجوء للشاه لا يتسق مع المبادئ الديمقراطية، التي لا يجب أن تجعل المجرمين يستظلون بحمايتها. ولعبت الذكريات السيئة التي يحملها الوطنيون الإيرانيون لأميركا ودورها في دعم الشاه دوراً كبيراً في تحفيز الرأي العام الإيراني وتأييده لعملية احتلال السفارة. ألم تكن واشنطن هي التي خططت ونفذت عبر العملاء المحليين عملية الانقلاب الذي أطاح بحكومة مصدق الشعبية والمنتخبة ديمقراطياً؟. أما حجج القانون الدولي، على وجاهتها، فلم تقف عائقاً أمام الطلبة، خصوصاً وهم يرون مبادئ القانون الدولي تنتهك يومياً من واشنطن وحلفائها على اتساع الكرة الأرضية. وفي تزاحم حجج المؤيدين المعتزين بكرامتهم الوطنية وعقيدتهم الدينية تختلط الاتهامات والاتهامات المقابلة، ولا يبقى ربما سوى السياق حكماً فى الأمر. والقضايا الشائكة مثل قضايا احتلال السفارة لا يمكن حسمها بقرار على شاكلة أسود أم أبيض، أو عمل صائب أم خاطئ. ويمكن النظر إلى عملية احتلال السفارة على أنها "عمل غير قانوني" ينتهك المواثيق الدولية، كما يمكن اعتبارها "عملاً ثورياً" ضد القوة العظمى التي ساندت الشاه طوال فترة حكمه واستنزفت ثروات إيران. ومنذ الشهر الأول لاحتلال السفارة تحول مبناها مزاراً لاستعراض العضلات، إذ قام عدد من الشخصيات الإيرانية البارزة بزيارة الرهائن، على ما تذكر السيدة معصومة إبتكار نائبة الرئيس خاتمي والناطقة بإسم محتلي السفارة آنذاك، بداية من آية الله حسين علي منتظري خليفة الإمام الخمينى، وحتى حجة الإسلام علي خامنئي قائد الثورة الحالي وليس انتهاء برئيس الجمهورية السابق محمد علي رجائي. سنحت لي أخيراً فرصة لقاء أحد "الطلبة السائرين على نهج الإمام" في "ميدان فردوسي" الواقع عند منتصف الطريق بين السفارة البريطانية في شارع فردوسي والسفارة الأميركية في شارع طالقاني، وهو يعمل اليوم بالتجارة بعدما أنهى دراسته وورث متجراً عن أبيه، وابتعد عن السياسة. يلتهم المبنى الضخم جانباً كبيراً من شارع طالقاني، وعلى السور مازالت تنتصب اللافتات الثورية" والمنددة بسياسات واشنطن. ومن الرصيف المقابل المزدحم بمتاجر التحف والعاديات لا ترى من خلف السور سوى أشجار عالية، تطل من وراء السور، الذي ثبتت من فوقه أسلاك شائكة. هذه سفارة "شيطان بزرك" أو الشيطان الأكبر، جرياً على الوصف الذي صكه الإمام الخميني، وصار مرادفاً من وقتها للولايات المتحدة في أوساط المحافظين ووسائل الإعلام المحسوبة عليهم. "في صبيحة يوم احتلال السفارة كنت أهتف حتى بح صوتي: مرك بر امريكا. لكن هذه الرغبة بالهتاف ضد أمريكا لم تعد موجودة لدي. قمنا بعمل وطني بكل المقاييس ولا أعتذر عن ذلك وإن كنت لن أشارك بعمل كهذا الآن". على جانبي الطريق كانت الأكشاك الصغيرة التي تميز أرصفة طهران تعرض بضاعتها من الصحف على المارة. ابتعت عدداً من الصحف المحسوبة على التيار الإصلاحي. وصلنا إلى حيث يمكن رؤية تمثال الشاعر الإيراني فردوسي، الذي سمي الشارع النظيف والمرتب بإسمه. كانت نداءات الصيارفة تلاحقنا: "ماه دولار خريديم آقا" سيدي نشتري الدولار. عاد التاجر الإيراني ليقول: "مرغنا أنف الولاياتالمتحدة في التراب". يعتدل في جلسته ويضيف "كنا شباباً مدفوعين للثأر من الولاياتالمتحدة التي مثلت للشعب الإيراني كل معاني الاستعلاء والغطرسة. لم نأخذ أوامر من أحد، فقط كان الإمام الخميني مرجعيتنا. وحين أعلن الإمام تأييده احتلال السفارة، كنا نشعر إننا نقوم بعمل وطني وديني في آنٍ. بعد مرور كل هذه السنون اعتقد أن الأمور لم تسر وفق ما حلمنا، إذ كنا نريد إسلاماً نقياً يناصر المظلومين والمستضعفين ويواجه المستكبرين في الخارج والداخل. لكن الدول ومصالحها لا تسير دائماً وفق ما نتمناه، بل وفق شروط السياسة. ولهذا قلت لك إنني أصبحت والسياسة في خصام". لم ألح على الرجل أكثر من ذلك... أخرجت الصحف التي ابتعتها وفردت صفحاتها. هل تتذكرهم الآن؟ أشرت له إلى صور بعض الشخصيات السياسية. ابتسم الرجل وأومأ إيجابا. كانوا يمثلون قيادة الطلاب الذين احتلوا السفارة، وكان من ضمن أعضاء هذه اللجنة: رضا خاتمي ومحسن ميردامادي وعباس عبدي وإبراهيم أصغر زاده وسعيد حجاريان ومعصومة ابتكار وحبيب الله بيطرف. ومن المفارقات ربما أن اللجنة القيادية لعملية احتلال السفارة اختفت من الحياة السياسية في شكل أو آخر، حتى عادت مجدداً لتظهر في العلن في الحياة السياسية الإيرانية مع انتخاب الرئيس الإصلاحي خاتمي للمرة الأولى رئيساً لجمهورية إيران الإسلامية. وتوزعت هذه المجموعة على الأحزاب الإصلاحية والمجالس الدستورية الإيرانية في شكل وضعها في قلب عمليات الحراك السياسي بين الإصلاحيين والمحافظين. وبتقليب النظر في هذه الكوكبة من السياسيين نلاحظ أن إبراهيم أصغر زاده هو من قيادات حزب التضامن الإسلامي الإصلاحي، أما سعيد حجاريان فعمل في وزارة الاستخبارات أثناء فترة رئاسة خاتمي الأولى وتعرض لمحاولة اغتيال بعدما صار العقل الاستراتيجي في معسكر الإصلاحيين، في حين أن معصومة ابتكار هي نائبة الرئيس خاتمي، أما حبيب الله بيطرف فهو وزير الطاقة في حكومة خاتمي الإصلاحية. لكن ما تفسير أن تتصدر هذه الشخصيات الآن قيادة التيار الإصلاحي؟ هل هي الأقدار أم المصادفات أم ماذا؟ التاجر الإيراني يؤمن بدور المصادفات في هذا الموضوع. في طريق العودة إلى الفندق كانت هناك بناية قيد الإنشاء. تلاحظ أن البناء يتم وفق نسق موحد في إيران كلها. بعد تجهيز أساس البناية يتم تصميم هيكل حديد للبناية بكاملها وبعدد الأدوار، مع وجود فراغات بين الأعمدة المعدنية. وفي الفراغات الكبيرة تصب مواد البناء والأسمنت، بعدها توضع الخرسانة مكان الأعمدة، فتنهض البناية وفق التصور الموضوع لها من البداية. وهكذا كان طريق "ولاية الفقيه" في إيران، إذ وضع الإمام الخميني الراحل تصوراته الأساسية لدولة "ولاية الفقيه"، ثم شرع التيار المؤيد لها في البناء خطوة خطوة ووفق نسق محدد سلفاً. جاءت عملية احتلال السفارة لتلغي الإزدواج في السلطة الإيرانية وقتذاك، بعد استقالة حكومة بازركان ذات التوجه القومي الليبرالي واستسلامها أمام خط "ولاية الفقيه" النافذ. بغض النظر عن مشروعية احتلال السفارة أو الأبعاد الخارجية لهذه العملية، فإن جدلية الداخل والخارج واستثمار الأخير لصالح الأول ينهض دليلاً ثميناً على براعة وبراغماتية من أدار وخطط، واحتجز وحقق الأهداف السياسية قبل ربع قرن وما يزال. ويبلغ هذا التحليل ذروة كفايته التفسيرية إذا ما قارنا عملية احتلال السفارة الأميركية في طهران والتي لم تهدر فيها قطرة دم واحدة من الرهائن، بعمليات خطف الرهائن وقطع الرؤوس في العراق راهناً والتي تتم من دون هدف واضح، بل وحتى من دون أي مكاسب سياسية أو معنوية للخاطفين. عملية خطف الرهائن كانت البداية العملية لدور إيران الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط من وقتها وحتى منتصف التسعينات على الأقل، ومن ثم انفلاتها من دور القوة الإقليمية المستظلة بمظلة واشنطن والمرتهن طموحها الإقليمي بالتالي بالسقف المسموح لها، حتى قيادتها للمحور الراديكالي من وقتها في المنطقة وتثبيت موقعها الإقليمي، الأمر الذي يعزز مصالحها الوطنية في النهاية. وجاء توقيت إطلاق الرهائن الأميركيين في السفارة كدليل نهائي على براعة التخطيط والتدبير للعملية، لإن الامتناع عن إطلاق الرهائن طوال الحملة الانتخابية أسقط مباشرة المرشح الديمقراطي جيمي كارتر لصالح منافسه الجمهوري رونالد ريغان في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 1980. وهو ما ذهب في التاريخ مثالاً نادراً على قدرات صناع القرار في الدول الإقليمية في ظل معطيات النظام العالمي الثنائي القطبية، باستخدام أدوات الضغط السياسي والمعنوي، في التأثير في الأنظمة السياسية للقوى العظمى. والآن وبعد القراءة لعملية احتلال السفارة وفك طلاسمها وتغير صورة النظام الدولي الذي صار أحادي القطبية، تنفتح شهية طرح الأسئلة لتتوقف عند سؤال يحتاج إلى إجابة : هل كانت عودة زعماء الطلبة محتلي السفارة قبل ربع قرن إلى الساحة السياسية الإيرانية منذ منتصف التسعينات وحتى عامنا الحالي كإصلاحيين راديكاليين وباستخدام مفاهيم "المجتمع المدني" و"المشاركة الشعبية" و"حوار الحضارات" ما هي إلا عملية جديدة وبوسائل مغايرة وفي سياق آخر لخدمة أهداف استراتيجية؟ أي عملية مخططة وموجهة لإضفاء الطابع الديمقراطي على عمليات الحراك السياسي في إيران، بغية تسويقها في المنطقة والعالم، ريثما يكسب صانع القرار الاستراتيجي في طهران الوقت اللازم لتثبيت وضعه كقوة إقليمية نافذة في نظام أحادي القطبية عبر تطوير قدراته النووية؟ * رئيس تحرير مجلة شرق نامه، القاهرة.