ثمة قضية مهمة من قضايا السياسة الخارجية باتت الآن في مفترق طرق، وإن كانت تحجبها دراما الحملة الانتخابية الرئاسية في الولاياتالمتحدة، وهذه القضية هي الاتجاه المستقبلي للنهج الأمريكي تجاه إيران. لقد وقف الرئيس أوباما أمام زعماء العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2013 وقال: «لو تمكّنا من حل قضية برنامج إيران النووي، فمن الممكن أن تكون هذه خطوة كبيرة على طريق طويل نحو علاقة مختلفة مع إيران، علاقة تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المشترك». ومع ذلك ففي أعقاب الاتفاقية النووية التي أبرمت في يوليو 2015، لم تعط البيانات التي أدلى بها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي والأفعال الإيرانية مؤشرًا كبيرًا على أن العلاقات الأمريكيةالإيرانية ماضية في اتجاه أكثر احترامًا للمصالح الأمريكية. فرصة لزيادة الأعمال العدائية وكتب سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في الولاياتالمتحدة يوسف العتيبة في صحيفة «وول ستريت جورنال» مؤخرًا يقول: «بات الآن واضحًا أن إيران، وبعد مرور سنة على الاتفاق على إطار الصفقة النووية، تعتبره فرصة لزيادة الأعمال العدائية في المنطقة». أما على الصعيد الداخلي فنجد حالات إعدام السجناء عند أعلى مستوى لها منذ 22 سنة. ومع ذلك فإن مناسبة الانتخابات الوطنية في فبراير لشغل عضوية لعضوية مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) ومجلس خبراء القيادة الإيرانيين، شأنها شأن انتخاب الرئيس حسن روحاني في يونيو 2013، أثارت تعليقات واسعة من خبراء السياسات في الولاياتالمتحدة مفادها بأن هناك عملية تغيير ذات معنى في المتناول، إذ تفوق مرشحو «الإصلاح» على خصومهم المتشددين في صناديق الاقتراع في طهران. وأكد وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية توماس شانون في شهادته أمام الكونغرس في 5 أبريل أن «مدى الفوز الساحق.. الذي حققه الإصلاحيون» في الاقترع على المقاعد البرلمانية في طهران «يسلط الضوء على حقيقة أن الرئيس روحاني، وعزمه على فتح إيران على العالم والتصدي للعراقيل الأساسية، كانت له أصداؤه الإيجابية». وتحدث وكيل الوزارة شانون عن صعوبة تعديد أثر هذه النتائج الانتخابية على «الطريقة التي تتصرف بها إيران استراتيجيًّا» لأن إيران كما أوضح «مزيج من الكيانات والجماعات المتضاربة، مع اصطفاف المتشددين إلى جانب كل من القيادة الدينية.. والقيادة الأمنية للحيلولة دون تحرك الإصلاحيين بشكل أسرع مما ينبغي وقطع شوط أبعد مما ينبغي». وأضاف شانون بقوله: إن جزءًا من عمل المرشد الأعلى يتمثل في «إحداث توازن بين القوى داخل إيران». يحدث التحزّب والتنافس على النفوذ والمناصب بشكل طبيعي تمامًا في صفوف القيادة في الدول الديمقراطية والديكتاتورية على السواء، بما في ذلك إيران. والسؤال الأساسي الذي لم يستطع وكيل الوزارة شانون الإجابة عنه إجابة قاطعة هو ما إذا كانت سياسة النظام الحاكم ستسمح ذات يوم بحدوث تغيير حقيقي في سلوك إيران «الاستراتيجي» أم لا. غير أن تعليقاته جاءت انعكاسًا لاعتقاد طويل الأمد لدى واضعي السياسات والمستشارين، وهو أن دائرة رجال الدين الذين هم في السلطة منذ ثورة 1979 قادرة على تمكين المسؤولين السياسيين الذين يميلون إلى إصلاح إيران وتحقيق رؤية الرئيس أوباما المفعمة بالأمل، مبديًا حرص إدارته على طهران وصبرها عليها. عقود من ملاحقة وعد الإصلاح الذي لا يتحقق وفي هذا السياق، يشير السفير لنكون بي. بلومفيلد الابن، مسؤول أمريكي سابق متخصص في الدفاع والسياسة الخارجية ويشغل الآن منصب رئيس مركز ستيمسون الفكري في واشنطن، والدكتورة راميش سيبيهراد، أمريكية من أصل إيراني، مسؤولة تنفيذية رفيعة في شركة تكنولوجيا أمريكية كبرى وباحثة ممارسة في كلية تحليل الصراعات وحلها بجامعة جورج ميسون، في تحليل مشترك نشرته مجلة «ناشونال إنترست» الأمريكية، إلى ان واضعي السياسات الأمريكيين قد تعرضوا لدورات من الأمل وخيبة الأمل في طهران. فبعد الاكتواء بنار الفضيحة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وذلك عندما انكشفت تعاملات الرئيس ريجان المتعلقة ببيع الأسلحة مقابل الرهائن، توقع المسؤولون الأمريكيون تغيرًا إيجابيًّا في إيران عندما وصل أكبر هاشمي رفسنجاني إلى سدة الرئاسة في عام 1990 واعدًا بإعادة بناء اقتصاد أوهنته ثماني سنوات من الحرب مع العراق. غير أن هجمات إرهابية تلت ذلك في ألمانيا والأرجنتين، بالإضافة إلى عمليات اغتيال نُفذت ضد خصوم للنظام في المنفى، ارتبطت برفسنجاني وخامنئي ارتباطًا مباشرًا. وأودى التفجير الذي وقع في 25 يونيو 1996 في أبراج الخبر بالمملكة العربية السعودية بحياة تسعة عشر من أفراد سلاح الجو الأمريكي، فيما كانت إدارة كلينتون تؤكد على نهج قوامه «الاحتواء المزدوج» تجاه كل من إيرانوالعراق، مدعومًا بعقوبات متصاعدة. حوار الحضارات وعندما تولى محمد خاتمي منصبه كرئيس الجمهورية في عام 1997 واقترح «حوارًا مع الحضارات»، خلصت واشنطن من جديد إلى أنه محاور معتدل يلمح إلى التخلي عن نمط القهر الذي تتبعه إيران في الداخل والإرهاب الذي تمارسه في الخارج. بدت موجة القمع الداخلي التي تلت ذلك، بما فيها ما صار يُعرف باسم «عمليات القتل المتسلسلة» التي طالت المعارضين على أيدي وزارة الاستخبارات الإيرانية، للكثيرين كرد فعل من جانب المتشددين على أجندة خاتمي، ومع ذلك فبالنسبة للشعب الإيراني تبخرت الآمال في الإصلاح في ظل خاتمي، مفسحة المجال ل «مخاوف من أزمنة أشد سوادًا تنتظرهم مستقبلًا»، بحسب التحليل. كما أن واقع تحقيق برنامج إيران النووي تقدمًا دراميًّا في السر في عهد الرئيس خاتمي لن تزعزع إيمان واشنطن الدائم بأن العناصر التقدمية داخل النخبة الحاكمة في طهران قد تتسنم السلطة ذات يوم، فتحرص على ضمان التزام إيران بالأعراف الدولية وحفظها الحقوق العامة بقدر حرص الحكومات والمواطنين الغربيين على ذلك. إذا استمعنا إلى معظم محللي الشؤون الإيرانية في ملتقيات السياسات في واشنطن سيتجلى لنا موضوعان بوضوح. أولًا: أي ذكر لوضع إيران بصفتها الدولة الأولى الراعية للإرهاب أو انتهاكاتها الداخلية لحقوق الإنسان أو الأنشطة الهدامة التي يمارسها حرس الثورة الإسلامية، بما فيه فيلق القدس النخبوي التابع له، سيقابَل بتلويحة رمزية باليد فيها اعتراف ورفض في آن واحد. إن هذه أخبار قديمة، ومنذ سنوات وإيران تعاقَب عليها. وبما أنه لا توجد قصة جديدة هنا، فإن دعاة الحرب غير المستنيرين وحدهم هم الذي سيواصلون تكرار هذه الجوانب من الشؤون الإيرانية، وهي أشياء مع أنها موضع استنكار، إلا أنها لا تساعد إلا على عرقلة النظر في إمكانيات اتباع سياسة أمريكية مع إيران في قابل الأيام. ثانيًا: الموضوع الذي يبعث الحياة في خبراء السياسات، ويتناغم مع طموحات البيت الأبيض على عهد أوباما، هو المد والجزر النشط الذي تشهده الفصائل السياسية التي تتنافس داخل دوائر القيادة الإيرانية، فنرى «أصحاب المبادئ» ضد «الإصلاحيين»، و»المحافظين» ضد «المعتدلين»، وجماعة خامنئي المتشددة ضد جماعة رفسنجاني التي تسعى إلى دمج إيران بدرجة أكبر في العالم الخارجي. في وقت تضمنت فيه عملية الانتخابات الرئاسية الأمريكية ذاتها مرشحين يعبرون عن مظاهر الاستياء الشعبي من النخب السياسية والاقتصادية في البلد، ضخّمت التغطية الإعلامية لأحدث انتخابات أجريت في إيران - بتشجيع من خطاب الإدارة ذاته - فكرة تمرد القاعدة الشعبية العريضة في مراكز الاقتراع. ونظرًا لعدم إتيان التقارير على تفاصيل العملية الانتخابية التي أدارتها إيران، فالمواطن الأمريكي العادي معذور لافتراضه أن 79 مليون مواطن إيراني كانوا يمارسون السيادة الشعبية بمطلق الحرية. أقوال تخالف الأفعال تأتي التقارير على ذكر سلوك إيران الخاطئ، بخلاف الأفعال التي تُعتبر انتهاكات محتملة لخطة العمل الشاملة المشتركة، لكن دون مناقشة لهذا السلوك؛ حيث إن مجتمع السياسات يبدو فاقد الثقة في إمكانية أن يؤثر بشكل بناء على أجهزة النظام التي تشرف على الإرهاب والعمليات شبه العسكرية وتعسف القضاء والسيطرة الاحتكارية على الأصول الاقتصادية والمالية والقيود المفروضة على الصحافة والرقابة على الإعلام وبيع الأسلحة إلى الأطراف الفاعلة العنيفة من غير الدول والدعاية وعمليات الخداع الاستخباراتية. تواصل هذا القرع للطبول بشأن الأفعال الإيرانية غير المستحبة، التي هي الآن في عقدها الرابع، بلا فتور على الرغم من الصفقة النووية. لكن هناك اهتمامًا أكبر من هذا بكثير يوجَّه إلى الرئيس روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، وهما الشخصيتان الرئيستان في انفتاح طهران الدبلوماسي على الغرب، لأنهما يُعتبران فاعلين للتغيير المنشود الذي قد يضع حدًّا لهذا القرع السلبي للطبول أخيرًا وبعد طول انتظار. فهل أمل الإدارة مبرر أم في غير موضعه؟ حتى بافتراض علو نجم الفصائل وانخفاضها داخل نخبة رجال الدين في إيران، فإن مضامين هذه الديناميكية - كحال جزء كبير من تاريخ إيران فيما بعد 1979 - تقدم أسسًا منطقية للنقاش. هناك حاجة إلى النقاش؛ حيث إن الرئيس أوباما قدم مشروعه الدبلوماسي مع إيران العام الماضي كأمر واقع، متهمًا أي نقاد بأنهم يدعون إلى الحرب. أمِن المجانب للحكمة أن نقترح أن أيًّا من المرشد الأعلى علي خامنئي أو الرئيس السابق رفسنجاني لن يصر على ميوله المتعارضة داخل هيكل الحكم إلى درجة تمكين القوى السياسية الأخرى وحلحلة قبضة النظام الجماعي على السلطة في إيران؟ ومن أين جاءت الحجة القائلة بأن رجال الدين «الإصلاحيين» سيُحدثون تغييرًا له دلالته الاستراتيجية؟ يتساءل المحلللان. إن القضية المحورية على صعيد السياسات، وهي كيف يمكن أن يحدث تغيير له دلالته في إيران، لم تحظ بالبحث الجاد. وقد وُجهت طاقات الإدارة وطاقات أنصارها إلى حد كبير نحو الدفاع عن خطة العمل الشاملة المشتركة في مواجهة نقادها السياسيين الذين يعتبرون معرفتهم بالشؤون الإيرانية أقل من معرفتهم هم بها. واعترف أحد كبار مستشاري الرئيس أوباما مؤخرًا بأن سرد الإدارة الذي يتحدث عن «واقع سياسي جديد في إيران نتج عن الانتخابات التي أتت بالمعتدلين إلى السلطة في ذلك البلد.. كان إلى حد كبير مصطنعًا بغرض ترويج الصفقة». مفهوم تاريخي مغلوط وأدلى الرئيس أوباما بتعليق غير دقيق يجسد الرؤية الشائعة بين المحللين والصحفيين في أمريكا عندما أشار إلى «رجال الدين الذين أطاحوا بالشاه». والواقع أن شاه إيران في أواخر سبعينيات القرن الماضي كان قد فقد شرعيته لدى قطاعات كثيرة من الشعب الإيراني، وقد أشعل رحيله طفرة درامية في المنافسة الانتخابية حتى فيما كان الخميني يطلب من الطامحين إلى المنصب قبول صيغته الدستورية التي تعلي السلطة الدينية فوق كل الاعتبارات السياسية. ومع ازدياد وضوح عدم التوافق بين المبادئ الديمقراطية ومفهوم ولاية الفقيه، كان النظام الحاكم- على حد وصف البروفيسور أبراهاميان- قد «بدأ بشكل واضح يفقد السيطرة في الشوارع». ما يعرفه الإيرانيون اليوم حق المعرفة، وسيستفيد الأمريكيون من فهمه فهمًا أدق، هو أن «رجال الدين» لم يضمنوا السيطرة على إيران بإسقاط الشاة بل بإسقاط الثورة. ليس هذا بالمفهوم التاريخي المغلوط الوحيد الذي ظل دون تصحيح. فقد اكتنفت التكهنات دبلوماسية إدارة أوباما تجاه إيران وما قيل من أن الولاياتالمتحدة ستصدر ما يشبه اللفتة- إن لم تكن اعتذارًا صريحًا فهي إذنْ اعتراف بالأخطاء السابقة- على سبيل التفكير عن انقلاب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الذي أطاح برئيس الوزراء القومي محمد مصدق في عام 1953. والحقيقة أن إيران طالبت بهذا مرارًا وتكرارًا. ومع ذلك فحفاظًا على العدالة التاريخية نقول إنه يجب أن يكون هناك ممثل عن المرشد الأعلى بحيث يضع توقيعه على أي اعتراف بالذنب من هذا القبيل بجوار توقيع ممثل الرئيس الأمريكي، وذلك على نحو يكشف حقيقة أن كبار رجال الدين في ذلك الوقت، ومن ضمنهم معلم الخميني آية الله أبو القاسم الكاشاني، تواطأوا علانية مع السلالة البهلوية وأيدوا إطاحة مصدق من السلطة. وقد أعلن الكاشاني فيما بعد أن مصدق مذنب بخيانة الجهاد وقال إنه يستحق جزاء الموت. كما أعرب الخميني نفسه عن رضاه عن سقوط مصدق. وهنا مرة أخرى نجد رجال الدين جمّلوا مكانهم في تطور إيران السياسي المضطرب لتهذيب الغرب. لقد تعهد روحاني شأنه شأن خاتمي من قبله بالإصلاح الداخلي ومع ذلك حدثت أعمال قمع في عهده