كلمتا "هوت كوتور" الفرنسيتان تعنيان أعلى درجات الموضة والأزياء، وبالتحديد أفضل اداءات الخياطين المحترفين لأفضل أنواع الأقمشة والتصاميم الموقعة من أبرز المبتكرين العالميين. إضافة الى ذلك لا مكان لل"هوت كوتور" في الواجهات التجارية، إلا كنماذج من وقت الى آخر، عدا ذلك يقاس كل فستان على صاحبته ويُصنع لها ولمرّة واحدة. ويراوح سعر الفستان المصنوع في عالم الهوت كوتور بين 15 ألف دولار و60 ألف دولار فما فوق. "شانيل" مثلاً تتقاضى 30 ألف دولار للفستان المتوسط. من هنا، فإن الناس العاديين لا يستطيعون إدراك "المعنى" الحقيقي وراء تلك الأسعار. غير ان الحرفة اليدوية والجدّة المطلقة في التصميم والنوعية الخارقة في الأقمشة، ناهيك بطلب الكمال في المستوى الحرفي، تستغرق ما لا يقل عن مئة وخمسين ساعة ل"التايور" وألف ساعة عمل للفستان المرصع الخاص بالسهرة، ولكل ذلك سعره، ومن لديه المال اللازم لا يرى مشكلة. ولا زلنا في الحديث عن شانيل، فلدارها نحو 150 زبوناً دائمين يستهلكون وقت وجهد خياطيها المبدعين. أما "ديور" فيلبّي سنوياً طلبات ما لا يقل عن عشرين فستان عرس معظمها مرصع بالجواهر. وتلعب الأقمشة المستعملة في صناعة الهوت كوتور دوراً مهماً في خيار الزي. كذلك للتطريز اليدوي الرفيع والترصيع الحرفي الدقيق اختصاصيون اشهرهم يعملون تحت سقف مؤسسة "ألبير ليزاج" التي يعود تأسيسها الى بداية القرن الماضي. الى جانب هؤلاء يعمل حرفيون آخرون في حوانيت قديمة متخصصة بالتفاصيل كالقبعات والأزرار والزنانير والأحذية والقطع المخرّمة أو المرصعة، وبسبب قلة هؤلاء وشهرتهم وقدراتهم الحرفية العالية، يتقاضون أسعاراً تناسب موقعهم المميز. وفيما ينصرف المصممون الى ابتكار الفساتين والتايورات يقوم هؤلاء بتنفيذ أدق القطب والتعاطي مع أقمشة مرهفة كأجنحة الفراشات أحياناً. والمعروف في هذه المهنة ان الخياط أو الخياطة الذي يتسلّم مهمة تنفيذ القطعة الموصى عليها، يشبه ربّان السفينة في حيازته مطلق الصلاحيات، فبعد تسلّمه التصميم المطلوب يأخذ على عاتقه الإيعاز لمن يرتأيه بتنفيذ المهمات الجانبية، أما هو فينصرف الى تحقيق التصميم على أكمل وجه. والواقع ان كثيرين يعتقدون بقرب زوال ال"هوت كوتور" كما نعرفها وكما ورثها خياطون عمل أجدادهم في البلاط الملكي الفرنسي وفي قصور نبلاء أوروبا، ذلك ان توريث المهنة لم يعد رائجاً وقلّما يستطيع الخياطون الكبار اقناع أولادهم أو أحفادهم بترك المدرسة أو الجامعة لدراسة الحرفة على أيديهم. ويستعمل المصممون اسلوب الدمية في تحضير ابتكاراتهم واضعين الهيئة التمهيدية للفستان أو التايور في منمنمة من قماش الموسلين أو الكاليكو لسهولة تحريكه، فمتى وافقت صاحبة الطلب على التشكيل المبدئي قام الخياط المعلم بتعيين الموعد الأول للقياس. ولا ينتهي ثوب مهما كان بسيطاً بأقل من ثلاثة قياسات شاملة كاملة قد يستغرق أحدها ساعة أو أكثر. قبل زيارة باريس، إذا كانت الزبونة خارج فرنسا يستحسن الاتصال بدار الأزياء المطلوبة وتحديد موعد، فأحياناً تكون الموديلات الجديدة خارج البلاد، في معرض أو في جولة خاصة، علماً أن بعض الدور تقدّم عروضاً متلفزة على أشرطة فيديو للزائرات بغية اطلاعهن على آخر تصاميمها. أحياناً يعمل المصممون المعروفون لحسابهم الخاص، لكنهم غالباً ما ينفذون اعمالاً لدارات الأزياء الشهيرة، وهذه لا يتجاوز معدل بيعها في هذا الحقل الألف وخمسمئة طلب لكل دار. ففي العالم كله لا أكثر من ألف امرأة ترتدي ملابس مصنوعة خصيصاً لها في مجال ال"هوت كوتور" وفي شكل دائم علماً أن مجمل عدد النساء اللواتي يطلبن هذا الصنف من الملابس لا يتعدى الثلاثة آلاف. والواقع ان صناعة ال"هوت كوتور" قائمة على خسائر سنوية بملايين الدولارات. إلا أن الدارات الكبيرة تعوّض تلك الخسائر من العروض التجارية وتسويق الموديلات المستعملة. عدا ذلك فإن عبارة "مبيع الحلم" تسبق السؤال حول الفائدة من كل ذلك الجهد المبذول في ال"هوت كوتور". من جهة أخرى تعتبر ال"هوت كوتور" مدخلاً الى الابتكار والتقليد. فكثيراً ما نسمع عن مصممين مغمورين يدّعون ان اعمالهم "هوت كوتور". والواقع ان مستوى الصناعة يختلف عند هؤلاء منه لدى الحرفيين الباريسيين المتخصصين، علماً أن لهم زبائنهم، ومن المحتمل جداً أن تكون خياطتهم ممتازة، بل رفيعة. إلا أن الماركة المسجلة لل"هوت كوتور" معروفة ومرهونة لدى عدد معروف من الخياطين الباريسيين، حتى إشعار آخر. تعود أصول ال"هوت كوتور" الى أناقة سيدات الاغريق ونساء البلاط الفرعوني. إلا أن استلهام العالم القديم في الأزياء وجودة الخياطة والأقمشة لم يبدأ بصورة حرفية حتى مطلع القرن التاسع عشر، فعلى أثر الفتوحات النابوليونية وما جلبته معها الى فرنسا من غنائم حرب، حدثت يقظة ثقافية متنوعة في اتجاه مصر والشرق العربي عموماً، وأخذ المبتكرون الفرنسيون يدرسون الزيّ الفرعوني دراسة دقيقة ويقارنونه بالقواعد الجمالية الكلاسيكية المأخوذة عن الاغريق. وبين 1804 و1807 بدأت تنضج الأفكار، وتبرز تصاميم تعرض الى جانب البساطة تزييناً مستوحى من الريف الأوروبي. عام 1808 ظهرت مؤثرات اندلسية مطعمة بايحادات مملوكية عرفت باسم "آلا مملوك" كونها استخدمت الكمّ المملوكي الواسع الذي يغطي اليدين. وبقي تأثير الأقمشة الفاخرة والأزرار الذهبية المستوى من ملابس الجنود سارياً حتى نهاية الحقبة الأولى من القرن التاسع عشر. بعدئذ بدأت موضوعات الجدل تدور حول الابتكارات المتعلقة بجسم المرأة، بدلاً من الزيّ الذي يكسوها، وأخذ الخصر، عالياً، خفيضاً، ضيقاً، أو خفياً، الحيّز الأكبر من الجدل، إذ دخل الانكليز على الخط الباريسي وبدأت المؤثرات اللندنية تلعب دورها وتضيف من منجم البلاطين الفيكتوري والاليزابثي الدانتيلا المزركشة والمشدات والتنانير الفضفاضة.