Kamal Dib. Warlords and Merchants. أمراء حرب وتجار. Ithaca. 2004. 334 pages. أمراء حرب وتجار. هؤلاء، باختصار، هم من يشكّلون غالبية الطبقة الحاكمة في لبنان، ماضياً وحاضراً. هذا ليس سراً. يعرفه معظم اللبنانيين. وكمال ديب، الكاتب اللبناني المهاجر في كندا، يعرف هذه الحقيقة. كتابه "أمراء وتجار: الطبقة الحاكمة التجارية والسياسية في لبنان" لا يتوجه الى اللبنانيين. هدفه، كما يقول في مقدمة كتابه، "القارئ الغربي" الراغب في فك طلاسم ما حصل ويحصل في لبنان. ليست مهمة سهلة تلك التي انتدب ديب نفسه اليها: ان يشرح لغير اللبنانيين من هم "أمراء الحرب" و"التجار" الذين يشكّلون الطبقة الحاكمة في بلد منقسم على أكثر من 18 طائفة وملة لكل منها أكثر من "أمير حرب" و"تاجر" يتنافسون على زعامات طوائفهم وعلى جزء من "الكعكة" التي هي لبنان. يمهد ديب بعودة الى ماضي لبنان. فلبنان الذي نعرفه الآن لم يكن موجوداً قبل قرون مضت. كان هناك "المشرق" لافانت، ولبنان الحالي جزء منه، بالإضافة الى سورية الحالية وساحلها المتوسطي وفلسطين وساحلها المتوسطي ايضاً. فترة ما بعد الفتح الإسلامي هي الفترة التي يبدأ ديب فيها في تحديد من هم "أمراء" لبنان و"تجاره". يستهل بالشيعة والدروز. فهؤلاء كانوا من بين السكان الأساسيين الذين قطنوا "جبل لبنان" والمناطق المحيطة به في الفترة التي تلت مجيء الإسلام. الشيعة، تحديداً، استوطنوا مناطق مختلفة من جبل لبنان الشمالي والبقاع وجبل عامل في الجنوب، في حين أنشأ الدروز الذين - كما يقول - يُعتبرون من أتباع الفرع الاسماعيلي في الطائفة الشيعية، "إمارات صغيرة" لهم في جبل لبنان وشمال سورية، بدءاً من القرن الحادي عشر. وهكذا تقاسم الشيعة والدروز المناطق اللبنانية مع الموارنة الذين كانوا يقطنونها من دون ان تكون لهم أي قوة فعلية على الأرض. لكن بعد سقوط لبنان في يد الصليبيين، بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أقام الأوروبيون علاقات تجارية وحافظوا على مناطق النفوذ التي كان يتمتع بها السكان الشيعة والدروز، إضافة الى الموارنة. وكان الشيعة يفضّلون التعامل مع الصليبيين بدل الخضوع لحكم سنّي، لكن الشيعة - والموارنة - سيدفعون ثمن تصرفهم هذا غالياً بعد هزيمة الصليبيين وصعود الأيوبيين والمماليك الى سدة السلطة وانتهاء الحكم الفاطمي الشيعي في القاهرة. فشن المماليك حملات عسكرية متعاقبة ضد الشيعة والموارنة في لبنان انتهت بقتل الآلاف منهم وطرد الشيعة بعيداً عن السواحل لمنعهم من إقامة أي اتصال مع الصليبيين اذا حاول هؤلاء العودة بحراً. وتم استقدام قبائل كردية وتركمانية لتستوطن السواحل اللبنانية وتمنع حصول اي اتصال مع الصليبيين. مع الضربة التي تعرض لها الشيعة في تلك الفترة كاد أتباع هذه الطائفة ان ينقرضوا في لبنان، إذ تحوّل كثيرون منهم الى الطائفة السنية او اعتنقوا المسيحية تراجع دورهم في الحياة اللبنانية، في مقابل تزايد قوة السنة والدروز. وعلى رغم ان الشيعة أعادوا، بعد قرون، انتشارهم في بعض المناطق، لا سيما في كسروان وجبل عامل والبقاع بقوا بعيدين عن السواحل، ونشأت في أوساطهم طبقة من قادة "أمراء الحرب" مثل آل حمادة في البقاع الأعلى بعلبك والهرمل وعائلات الصغير وناصر وشكر في بلاد بشارة وجبل عامل، وهما كانتونان صغيران في جنوبلبنان، إلا ان دورهم في الحياة السياسية اللبنانية بقي هامشياً. قام الدروز بما لم يقم به غيرهم. إذ كان "أمراء الحرب" من قادة قبائلهم أول من بدأ مشروع قيام "كيان لبناني" بين 1306 و1770. كان الدروز متمركزين بعد قدومهم الى لبنان في منطقة وادي التيم في البقاع، وفي ظل الحكم المملوكي، ثم العثماني، بدأ حكم ما يُعرف ب"الأمراء" الدروز والموارنة والسنة في جبل لبنان، فظهرت عائلات بحتر ومعن وتنوخ وعماد وابي نكد وعبدالملك وتلحوق في الشوف. وفي كسروان ظهر "أمراء حرب" وهم سنّة تركمانيون بقيادة آل عساف الذين اعتنق جزء منهم المسيحية. أما الموارنة في أعالي جبال لبنان فكان يقودهم أمراء من آل حبيشي الذين كانوا يتمتعون بعلاقات طيبة مع آل عساف. وحكم تحالف آل معن دروز وآل شهاب سنة لبنان حتى 1842، وكان الأمير فخر الدين المعني أول من قاد محاولة الاستقلال بلبنان وبناء كيان مستقل، قبل ان يسحقه العثمانيون الذين قسموا منطقة "المشرق" لافانت الى ثلاث ولايات دول هي حلب ودمشق وعكا وكان على رأس كل واحدة منها ادارة عثمانية يتم اختيار اعضائها من بين اعيان القبائل التركمانية والكردية سنّة. وعلى رغم ان الدروز هم اصحاب فكرة استقلال لبنان، كما يلفت ديب، إلا ان ظهور هذا البلد في شكله الحالي ما كان ليتم لولا تحالف من يسميهم ديب "أمراء الحرب الموارنة" و"الزعماء السنة". ويشير الى ان الموارنة لم يلعبوا سوى دور محدود في الحياة اللبنانية حتى 1770، اذ لعبوا دور القيادة بين 1770 و1843 وبين 1941 و1975. ويقول انه في حين ان "الدروز هم من وضع جبل لبنان على الخريطة"، إلا ان الموارنة "هم من أنشأ فكرة لبنان ودفعوا لاحقاً من أجل انشائه ككيان مستقل". ويلفت الى ان الموارنة بعد المذابح التي تعرضوا لها في 1861 على يد الدروز شعروا بالحاجة الى انشاء نوع من الوطنية "فريد للبنان" يرتكز على ركنين: الكنيسة المارونية والارتباط بأوروبا، ثم دخل العنصر "الفينيقي" لاحقاً في اطار هذه "القومية اللبنانية" بعد التنقيبات التي قام بها الفرنسيون في جبيل في الثلاثينات. فترة الكفاح من أجل الاستقلال عن الفرنسيين التي لم تكن "كفاحاً" باهظاً في أي حال وسنوات الاستقلال الأولى، كانت الفترة التي ثبت فيها "أمراء الحرب" و"التجار" الموارنة أقدامهم، بالاتفاق مع "الزعامات" السنية اللبنانية، وكان على رأسهم، آنذاك، بشارة الخوري الموارنة ورياض الصلح السنة، بطلا الاستقلال عام 1943 - علماً ان جزءاً من الموارنة لم يكن يريد الانفصال عن الفرنسيين مثل إميل إده، في حين ان قسماً كبيراً من السنّة كان يريد البقاء في اطار دولة كبيرة مرتبطة بسورية بدل التحوّل "أقلية" في دولة "يحكمها الموارنة". لكن مع ترسخ فكرة الاستقلال بدأت "الزعامات" السنية تنخرط فعلياً في المشاركة في إدارة "المؤسسة الحاكمة" من خلال تولي منصب رئاسة الحكومة. ومن بين تلك "الزعامات" السنية آل كرامي في طرابلس، آل سلام والصلح واليافي في بيروت. ومن بين العائلات الشيعية التي شاركت ايضاً في هرمية الحكم رئاسة مجلس النواب نالها الشيعة آل الاسعد في الجنوب وآل حماده في البقاع الهرمل وبعلبك. أما الدروز الذين صاروا أقلية صغيرة في الدولة الجديدة فظهرت فيهم زعامتان أساسيتان متنافستان: آل جنبلاط وآل ارسلان. لكن ديب يركز فصول كتابه على الأدوار التي لعبها تحديداً "أمراء الحرب" و"التجار" الموارنة في فترة ما بعد الاستقلال: بشارة الخوري يقول ان عائلته استفادت مادياً في العقود التي منحتها الحكومة اللبنانية في عهده، وكميل شمعون الذي ظل لفترات طويلة الرجل الأكثر شعبية في الشارع المسيحي، وآل الجميّل في المتن وآل فرنجية وآل معوض في الشمال. وقبل الانتقال الى فترة الحرب الأهلية 75-1990، يتناول الكاتب بالتفصيل الوضع الاقتصادي اللبناني في فترة "العز" عندما كان الدولار الأميركي لا يساوي أكثر من ليرتين بقليل فقط - وهو يساوي الآن 1500 ليرة والعائلات التي كانت تتحكم بالتجارة فيه. وثمة فصل مشوّق يتناول تحديداً ما حصل في قضية بنك انترا في الستينات وكيف "تحالف" اللبنانيون ضد صاحبه "الفلسطيني" يوسف بيدس على رغم كل جهوده لكي "يتلبنن" - يعرف كثيرون من اللبنانيين بفضيحة "بنك انترا" لكنهم يجهلون تفاصيلها، والكاتب هنا يقدّم رواية جداً لملابسات إفلاس المصرف. كانت فترة الحرب اللبنانية محكاً لكثير من الزعماء وأمراء الحرب. في بدايتها حافظ "أمراء الحرب" الموارنة على نفوذهم بل عززوه. آل فرنجية وآل شمعون وآل الجميّل. لكن بعد اغتيال بشير الجميل في 1982 - الذي كان سيطر بالقوة على معظم المناطق المسيحية وقلّم أظافر منافسيه الموارنة وفرض نفسه رئيساً للجمهورية - بدأ جيل جديد من "أمراء الحرب" الموارنة في الظهور، بالقوة مثل سمير جعجع وايلي حبيقة، أو بالمال، مثل روجيه تمرز. وحصل الأمر نفسه داخل الطائفة الشيعية، مع انتهاء سطوة آل الاسعد وآل حمادي ليحل محلها مزيج من الإقطاع وسلطة رجال الدين نبيه بري و"حزب الله". أما بين السنة، فعلى رغم ان الزعامات التقليدية ما زالت قوية، إلا ان شخصاً من خارج الطبقة التقليدية استطاع النفاد ليفرض نفسه الرجل الأقوى بين السنة اللبنانيين: رفيق الحريري. لم يفرض نفسه بالقوة، كما فعل على كثير من "أمراء الحرب" الموارنة. فرض نفسه على السنة، وغيرهم، بقوة المال. وهذا ليس غريباً، بالطبع. فلبنان، كما يقول الكاتب، محكوم بمزيج من "أمراء الحرب" و"التجار". كتاب ديب جيد لمن يريد التعمق في الشؤون اللبنانية. لا يدخل أحياناً في تفاصيل بناء "أمراء الحرب" و"التجار" اللبنانيين ثرواتهم - وعذره، هنا، انه لا يتوجه الى القارئ اللبناني. القارئ الغربي قد "يضيع" في بحر أسماء "أمراء الحرب" و"التجار" اللبنانيين الذين يعددهم الكتاب. لكن يُسجّل لديب انه حاول قصر أسماء "الأمراء" و"التجار" قدر الإمكان. فكثير من اللبنانيين يطمح الى ان يكون من "أمراء الحرب" و"التجار" الحاكمين للبلد، إن لم يكن يعتبر نفسه أصلاً من هذه الطبقة الحاكمة. وسيحتاج ديب الى مجلدات لو أراد اعطاء كل هؤلاء "حقهم" في دخول كتابه.