أنت حزين، لم تداعب ضفائر ابنتك الصغيرة وهي تبتسم لك بفرحها الطفولي، وتطوق عنقك بيديها البضتين، وتتلمس بأصابع يديها وجهك، وتتفحص كل موضع فيه، وتمطرك بقبلها الدافئة والناعمة لتمسح عن روحك تعبها النبيل، فترى في وجهها وجه أمك الذي ما فتئت يوماً في رسمه، وهي ترضع الحليب للثغر المتضور جوعاً. تتجول في أرجاء الغرفة، تطفئ النور، تستلقي على السرير، تسامر الأوهام. فتشت في ذاكرتك عن ورقة خضراء تبوح لها، فلم تجد إلا ذاتك وقد أصبحت كثباناً تمر عليها قوافل الرياح. تحاول النوم لكن النوم يهرب. تنهض من فراشك، تغلي فنجان قهوة، تشعل سيجارة، تأخذك أدوات الاستفهام، تحدث نفسك: هل أصبحت الحياة مثل خيط الدخان هذا الذي لا أستطيع أن أتلمسه؟ تسير في الشارع، تستقبلك السيارات ويصدمك الزحام والضوضاء، ويزخك حزناً فوق جبينك وأنت تعد الخطى والثواني وتصارع بكل ما تستطيع من قوة وقدرة نفسية وعقلية، لتبقي على أنفاسك حية تحت وطأة هذا الجنون الرهيب. أنت الذي ما اخترت يوماً إلا البقاء لا تعرف من أين تأتيك الصدمات. أمن الاسفلت الحارق؟ أم من الجو الخانق والمكان الضيق؟ تدرك أنك تفقد حياتك، كما تفقد بركة ماء ماءها في صيف حارق. تجلس على ضفة نهر في الحديقة العامة، على مقعد خشبي تحت القنطرة، قرب الناعورة تواكب انينها. بين يديك مجلة تقلب صفحاتها. تنتقل من عنوان الى عنوان، ومن صورة الى صورة. كأنك تبحث عن ذاتك في متاهات ودوامات تدور بك في حلقة مفرغة لا تستطيع منها فكاكاً. حماه - علي محمود خضور