لا أزال أطفو على مياه نهر «الأرنو» كزنبقة طائشة وأشعر أني أخف من الماء وأخف من أنوار الضفاف الخجولة ومن قطع السحاب الملونة في الهواء وأخف من مساءات أغسطس الدافئة. أرتعش كما النور ومقطوعات الكمنجات المتموجة وتمتد روحي من بداية النهضة وتنجرف إلى عبق المدينة وأغاني الأوبرا. أنهض مبللا بالحب ورائحة المقاهي الفاخرة. أستطعم برجوازيتي الدفينة ولا أخفيها وأهيم؛ أهيم حيث تشاء عيناي بين السحاب المطلق وبين العطور والمعاطف الباذخة. تغازلني نوتات الكاروسيل في ساحة الجمهورية، أستحضر ذاكرتي الأزلية لأزينها بالحاضر ونجمات المجلات وبرودة الأيس كريم. حيث أنا أجدني في كل الأمكنة مشتتا، حلوا، مبنيا للمجهول تائها كسائح دوخته الإشارات وتقاطعات الأزقة والمباني العتيقة. لا أحد يحضر الآن، غيري أنا، كل مساحات التاريخ لي، وكل الأزمنة الغابرة، كل ساحات فلورنسيا الحميمة لي. وأنا أمشي كان ظلي أبطأ مني، يجذبني حيث يريد ويحيرني... ولا أخفي مجاراتي لظلي، وذاكرتي تصعقني باختلاط الأصوات والأمكنة وعناوين الكتب ذات الحروف المترعة. بين الكلمات يتيه المداد الأسود عن حرفه كما تفيض الجداول في شتاء فلورنسيا. الأميرات هنا، والشعراء، والمغنون وأكوام الرخام، وضجيج الثورات، ودخان المعارك. فوهات البنادق يعلوها الصدأ، والمحاربون يتبادلون ابتساماتهم الرتيبة. كم كانت قصتنا شيقة معركة تنتهي لنبدأ معركة لا الملاحم ولا البطولات ولا الفاشستية انتصرت على الرسم والنحت والأقمصة الملونة. صالات العرض مزدحمة بالعارضات، ولا شيء أقوى من مسيري، أنا، خلف ظلي... ظلي إعصار صيفي يعريني تحت أشعة الشمس الحارقة، وينسيني أن لي بيتا وبنتين وحبيبة وسيرة ذاتية لم أرتب فصولها. من أين أبدأ؟ فلا السنوات أحصيتها ولا الشهور تذكرتها ولا الأحداث الجسام، ولا من كسروا خاطري عرفتهم. وجهي مثل وجههم ولا تفرقنا إلا الذاكرة. فلا الصخب الطفولي أتذكره ولا الأسرار الدفينة في وسائدي الغابرة. لا شيء يحررني من قلقي المسترسل غير قهقهات بعيدة ولوحات السيارات الفارهة. غزل البنات في يد طفلتي يشبه وجهها، وقبضتها قوة عارمة. أتوق لمن يذكرني دائما أن حلو الطفولة لا يتكرر. أتذكر أني لما كنت صبيا كنت عنيدا، وكان ظلي يشقى خلف خطوي، ويلهث كما كنت ألهث خلف أبي في زحمة الأزقة والأعياد. نوتات الكاروسيل تذكرني مجددا بطعم الكراميل ينساب بين الأصابع، وفروسيتي التائهة بين ألوان الجياد وصيحات الصبيان. أفكر في بقايا الحاضر بين ثنايا الذاكرة، وأحلم أن حاضري كان هنا يداعب الكمنجات وأكمام المعاطف المخملية وأسرار الحصون القديمة. تحت أسوار «الدومو» تبدو السماء أبعد ونجمة الشرق فاترة في غنج مساء صيفي. الشرق كومة من تراب يتلاشى خلف أصوات الهاون والكلاشنكوف. الشرق حفرة ساخنة، جمرة من أنين وشاهد بلا مقبرة. متعب هذا المساء، ونوتات الكاروسيل لا زالت هادئة... نجمة الشرق هناك وهنا سفري... موجع هذا المكان في الذاكرة كيف يختنق الحب ويصبح المعبد معركة؟ قصائد العرب تناثرت في هذا الخراب المهين والناس هنا تغازل الفرح فوق القناطر الضيقة فقد الشرق نجمته الأخيرة ولا زلت هنا في هذا المكان البهيج أحتار: كيف يفقد طفل حارته وندعي أننا نحرسه؟ نكسر لعبته الأولى ونهديه جمرا يحرقه... شاعر وأكاديمي مغربي