ترجع بدايات البحث في موضوع الناسخ والمنسوخ في النصوص الدينية، بمؤلفات مفردة كواحد من الموضوعات ذات الصلة المباشرة بالعلوم الإسلامية، الى وقت مبكر، إذ عرفت المكتبة الإسلامية مؤلفات كثيرة أفردت الموضع بمعالجات مستقلة. منهجياً، غلب ورود مبحث النسخ، في مؤلفات الأصوليين، في أعقاب الكلام على مباحث الكتّاب والسنّة من أمر ونهي، لما له من صلة وثيقة بالأحكام المستنبطة منهما، ويراد التزام المكلف بها. ويسمى النسخ بيان التبديل، لقول الله تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية، والتبديل هو أحد معاني النسخ في اللغة، أي زوال شيء ليخلفه غيره. وثمة من بحث الموضوع قبل مبحث الاجتهاد، لأن من أهم شروط المجتهد معرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام، ولأنه النسخ من طرق الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين، لجعل المتأخر ناسخاً للمتقدم، ولهذا كان علماء السلف يعتنون به عناية كبيرة، وفي الخبر ان علياً بن أبي طالب مرّ بقاض، فقال له: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، وابن عباس فسّر "الحكمة" في قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحرامه وحلاله وأمثاله. وعليه، تعددت المؤلفات في علم الناسخ والمنسوخ، ولم يترك المؤلفون فيه قضية من قضاياه إلا عنوا بتسجيلها، ولكن هذه القضايا كانت تختلف قلة وكثرة عند المؤلفين، وكانت مناهجهم تختلف في طريقة تناولها له أحياناً وتتشابه أحياناً أخرى، وحفظ لنا التاريخ أسماء عدد كبير من هذه المؤلفات، فأول من حرر الكلام فيه، باعتباره يقع ضمن منظومة مباحث أصول التشريع، هو الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، واعتبره من قبيل بيان الأحكام لا من قبيل الغاء النصوص. أما من أفرد الموضوع بتآليف مستقلة فكثر، منهم، بحسب الترتيب الزمني: قتادة بن دعامة، ابن حزم، أبو داود السجستاني، أبو جعفر النحاس، ابن الأنباري، مكي بن أبي طالب، ابن العربي، ابن الجوزي، والطوفي، وغيرهم. اختار الإمام السيوطي في كتابه "الاتقان في علوم القرآن" أن النسخ وقع في عشرين آية من القرآن الكريم، كآية الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، وآية الوصية للزوجات بعد وفاة الزوج بالمكث في البيت مدة حول كامل، وآية امساك الزانية في البيوت وآية منع القتال في الشهر الحرام وغيرها، وآخرين قالوا ان عدد السور التي وقع فيها ناسخ ومنسوخ 25 سورة، والتي وقع فيها ناسخ فقط ستة، ومنسوخ فقط 40، ويبقى 43 سورة ليس فيها ناسخ ومنسوخ. معنى النسخ في اللغة، هو الإبطال في النقل والتحويل من حالة الى أخرى، ويتماهى المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي، وهو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر. وأركانه أربعة: أداة النسخ وهي القول الدال على رفع الحكم الثابت، الناسخ وهو الله تعالى لأنه هو من يرفع الحكم وفق مشيئته، المنسوخ وهو الحكم المرفوع والمنسوخ عنه وهو الشخص المكلف بالحكم الشرعي. وقد تنسخ آية واحدة عدة نصوص سابقة لها، كآية فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، نقل انها نسخت 113 موضعاً في القرآن الكريم. حكمة النسخ يقرر علماء الإسلام ان الثابت في الشرع أنه جاء لرعاية المصالح العامة للناس، وأن للمشرع حكمة في ايجاد الخلق، وهي اختبارهم لمعرفة مدى امتثالهم مطالب الشرع. ورعاية المصالح العامة والخاصة أدت الى النسخ بين الشرائع، وفي الشريعة الإسلامية ذاتها، إذ الشريعة هي قانون المكلفين، وهناك تلازم بين الشريعة والمشروع لهم، فقد تكون مصلحتهم في زمن على نحو معين ثم يتغير وجه المصلحة، بسبب التطور، ولأن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات، كتناول الدواء، وبما ان الشرع للأديان كالطب للأبدان، فيكون من الأصلح للناس المكلفين انهاء الحكم السابق وايجاد حكم آخر، وهو مدلول الآية الكريمة: ما ننسخ من آية أو نسها نأت بخير منها أو مثلها، والخيرية هنا، بالنسبة للمكلفين. وبالمجمل فللنسخ فائدتان، كما قالوا: رعاية الأصلح للمكلفين تفضلاً من الله تعالى لا وجوباً عليه، وامتحان المكلفين بامتثالهم الأوامر والنواهي، لأن الانقياد في حالة التغيير أدل على الإيمان والطاعة، كما قال الشافعي. * كاتب لبناني.