} عرفت شبه جزيرة العرب قبل مجيء الاسلام اليهودية والمسيحية، كما انتحلت النحلة المجوسية من قبل الفرس، وانتشرت عبادة الأصنام في معظم أنحاء شبه جزيرة العرب، وعرف بعض العرب توحيد الله عزَّ وجل، وعُرفوا بالأحناف. وساد العُرْفُ، والعاداتُ والتقاليد. واتَّبع العرب أهواءهم في الجاهلية، وصارت القوة هي الحاكم الذي يفصل في ما بينهم، فأحاق الظلم بالضعفاء. وتمتع الأقوياء بكل الحقوق الى جانب الإعفاء من الواجبات، وجرّاء تلك الأحوال المتخلفة سميت تلك الفترة باسم الجاهلية. وقبل البعثة النبوية شهدت شبه جزيرة العرب تطورات سياسية في داخلها وجوارها ساهمت في تكوين بيئة قانونية غير مستقرة. ففي القرن السادس الميلادي جاورت الجزيرة امبراطوريتان قويتان هما الفارسية والرومانية، وحاولت الامبراطوريتان السيطرة على شبه جزيرة العرب بإقامة علاقات مميزة مع بعض القبائل العربية، فأفلحتا في اقامة كيانين على أطراف شبه جزيرة العرب فتعاون الروم مع قبيلة الغساسنة، وتعاون الفرس مع قبيلة المناذرة. غير ان منطقة الحجاز ظلت بعيدة عنهما وسادت في الحجاز قبيلة قريش التي اتخذت من مكةالمكرمة عاصمة لها. الى جوار الفرس والروم عاشت جالية يهودية هربت من البلاد الخاضعة للامبراطورية البيزنطية التي قررت تصيفتهم جراء عدائهم للرومان، وتعاونهم مع الفرس. فوصلت جماعات يهودية مهاجرة الى المدينةالمنورة، وخيبر، وغيرهما، كما وصلت جماعات يهودية مهاجرة الى اليمن أيضاً، وتهوَّد بعض العرب. وعلى الجبهة الجنوبية اليمن والحبشة اتسمت العلاقات بالعداء للحجاز، وتجلّى ذلك بفشل غزو مكةالمكرمة في عام الفيل بقيادة أبرهة الاشرم بينما وجد المسلمون المهاجرون ملاذاً آمناً عند ملك الحبشة النجاشي. انتشر العرب قبل البعثة في شبه جزيرتهم، وساد بينهم النظام القبلي وآلت السلطة القبلية - مع مجيء الاسلام - الى ثلاث قبائل هي: المناذرة والغساسنة، وقريش، وكانت لكل قبيلة حكومتها فأسس المناذرة اللخميون قحطانيون إمارة الحيرة قرب بابل على نهر الفرات بمساندة الامبراطورية الفارسية، وأسس الغساسنة قحطانيون امارةً في الشام شملت حوران والبلقاء، وتعاونوا مع الروم واعتنقوا المسيحية، وكان أشهر ملوكهم الحارث بن جبلة الذي عَيَّنه الأمبراطور الروماني جوستنيان سنة 529م أميراً على قبائل العرب. وتكونت قريش قبيلة عربية عدنانية من عددٍ من البطون وأصبحت عزيزة الجانب بفضل قُصي بن كِلاب بن مُرَّةَ الفهري العدناني الذي انتصر على قبيلة خُزاعة، واستولى على مكةالمكرمة وآلت اليه زعامتها، وسدانة الكعبة، ثم صارت السدانة بيد بني عبدالدار بن قصي، وصارت سِقاية الحجيج بيد بني هاشم، وعبدت قريش، الأصنام في الجاهلية، ثم بعث الله تعالى نبياً من قريش هو النبي الهاشمي القرشي محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس الى الاسلام. ودان أبناء شبه جزيرة العرب بالإسلام منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم. ولد النبي صلى الله عليه وسلم في مكةالمكرمة "في عام الفيل، وان ميلاده كان في يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول انظر الشمائل المحمدية للترمذي 1/4 المصادف سنة 570م ، وعاش يتيماً، إذ مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، وماتت أُمُّهُ قبل أنْ يكمل سبع سنين، فكفله جَدُّهُ عبد المطلب، ولما بلغ ثماني سنين مات جدُّه، فكفله عَمُّه أبو طالب. "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من عمره، فأُوحي اليه- وفي التعبير في الحديث بلفظ: على رأسِ: لئلاّ يُحْتَجُّ عليه بأنها أربعون سنة تزيد شهوراً أو تنقص، إذ أن الثابت أنه صلى الله عليه وسلم وُلد في ربيع الأول، وابتداء الوحي اليه كان في رمضان. وقيل: انه بعث على رأس ثلاثٍ وأربعين، بأنَّ بَعْثَ النبوة كان في أول الأربعين، وبَعْثَ الرسالة كان في رأس ثلاث وأربعين. فيكون قد أقام في مكةالمكرمة عشر سنين رسولاً، وثلاث عشرة سنة نبياً ... والراجح أنه صلى الله عليه وسلم قد انتقل الى الرفيق الأعلى وهو ابن ثلاث وستين سنة" وأقام "في المدينةالمنورة عشر سنين" وكانت وفاته "يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء، وقيل يوم الأربعاء". الشمائل المحمدية. أما القرآن الكريم فنزل في مكةالمكرمة، والمدينةالمنورة، والمشهور "أن ما نزل قبل الهجرة مكي، وما بعدها مدني، سواء أنزل بمكة أو المدينة، أو غيرهما من الأسفار، وقيل: المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة". وأول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربُّكَ الأكرم الذي علّم بالقلم سورة العلق: 1-4. وآخرُ ما نزل فيه اختلاف. والراجح أن آخر ما نزل هو قوله تعالى: اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الاسلام ديناً سورة المائدة : 3. وقد حفظ الصحابة القرآن الكريم نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونُقِلَ إلينا بالتواتر عنهم. - بداية أصول الفقه: لا شك في أن أصول الفقه لازم الدين الاسلامي منذ فَجْرِ الرسالة، ووجود علم أصول الفقه الاسلامي سابق على تدوينه، شأنُهُ في ذلك شأنُ بقية أنواع العلوم، التي دونها العرب كعلم العروض الخاصِّ بأوزان الشعر، وعلم النحو الخاص بقواعد اللغة العربية، وعلوم الحديث، وغير ذلك من العلوم لأن مراحل التصنيف حصلت في أوقات لاحقة جاءت متأخرة عن تاريخ وجود تلك العلوم. ولهذا نرى: أنَّ التأريخ لعلم "أصول الفقه" يجب أن يبدأ مع ابتداء نُبُوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم سنة 610م. نحن نعلم أن موضوع "علم الفقه هو أفعال العباد، وحقيقته تهذيبات دينية، وسياسات شرعية شُرعتْ لمصالح العباد" إما في معادهم كأبواب العبادات، أو في معاشهم كأبواب البياعات والمُناكحات وأحكام الجنايات. وهو المقصد الأقصى في ابتعاث المرسلين صلى الله عليهم أجمعين، فإنهم لم يُبعثوا إلا لتعريف العباد أحكام هذه الأفعال" من الحلال، والحرام، والواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، ليتوصلوا بتهذيبها الى العلم بالله، وملائكته وكُتبه ورُسله. والأدلة التي يُستفادُ بها هذه الأحكام هي التي تسمى أصول الفقه". انظر تخريج الفروع على الأصول للأسنوي ص: 33-34 ولذلك فإننا نرى أن الفقه الاسلامي بدأ مع نزول الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة 610 م، وما زال مستمراً حتى الآن، والحوادث الجديدة تتطلب إصدار أحكام شرعية لا تُناقض الشريعة الاسلامية، وأصدار تلك الإحكام لا يتمُّ إلا بمعرفة أصول الفقه" لأنَّ الفروع إنما تُبنى على الأصول. وأصول الفقه المتفق عليه هي القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والاجماع، والقياس. والتاريخ لأصول الفقه يتطلب تاريخاً لهذه الأدلة، وطرق استنباط الأحكام الفقهيه من الأدلة. وبناء على ما تقدم نرى ان اسنباط الأحكام الفقهيه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتمد على الوحي المنزل وعلى السُّنَّة النَّبوية المطهرة. وهذان الأصلان هما مصدر الاستنباط في أيام البعثة ويُرَدُّ الأصلان الى أصلٍ واحد هو الوحي، ودليل ذلك أن تصرفات المسلمين كانت مرتبطةً بمقتضى الشريعة إذ كان المسلمون يستفتون النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يُفتيهم، فإذا كانت الفتوى صادرة عن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم فهي أحكام نبوية قابلة للإقرار أو النقض، فإن كانت هنالك حاجة لتصحيح حكم النبي بحكم رباني قوله تعالى: ما كان لنبي أنْ يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تُريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم سورة الانفال: 67-68 وسبب نزول الآية هو حادثة افتداء أسرى معركة بدر، حيث قبل النبي صلى الله عليه وسلم الفدية من الأسرى المشركين بعدما استشار أصحابه وذلك قبل تشريع أحكام الأسرى. بناء على ما سبق نستطيع القول: إن التشريع الذي أقر في أيام البعثة هو تشريع إلهي، لأن الله تعالى كان ينزل أحكاماً قرآنية تردُ الاجتهاد غير المصيب، كما كان ينزل أحكاماً تشريعية ليس لها سوابق، ولم يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود النص القرآني، وكان يتريث بإصدار الأحكام انتظاراً لنزول القرآن، فإن لم ينزل القرآن اجتهد فإن أصاب أقره الله تعالى على ما حكم به، وإن لم يصب نزل القرآن مصححاً للحكم. هكذا نجد أنَّ أصول الفقه التي عرفت أيام البعثة النبوية هي القرآن الكريم والسُّنة النبوية التي تتضمن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وإقراره، ويتجلى إقراره بموافقته على أقوال أو أفعال الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ويُعتبر النص القرآني، ونصوصُ السنة أساس الشريعة الاسلامية، فإذا ما حدثت حادثة، ووجدنا نصاً قاطعاً يدلُّ على حكمها توقفنا عن الاجتهاد. وإن لم نجد نصاً قاطعاً يدلُّ على حكمها اجتهدنا من أجل استنباط الحكم الشرعي، وسرنا في ضوء النصوص، وذلك بقياس الفرع على الأصل من أجل استنباط حكم شرعي للحادثة. وإن لم يمكننا القياس لعدم وجود علَّة جامعة بين الأصل والفرع لجأنا الى غير القياس بغية الوصول الى الحكم الشرعي الذي لا يعارض أحكام الشريعة الاسلامية التي تشمل الأحكام الاعتقادية المتعلقة بالإيمان، والأحكام الخلقية الآمرة باتباع الفضائل واجتناب الرذائل، والأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين المسلمين كالعبادات والمعاملات، والمكافآت والعقوبات. ويذكر أن أحكام العقيدة قطعية لا يجوز الاجتهاد فيها لأن الايمان مشروط بالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، فمن شك بشيء من هذا ولم يعتقده خرج من الدين الاسلامي، ومكارم الأخلاق ضرورية لكل مسلم "لأن تكوين العقيدة وتقويم الخُلُقِ هما الأساس الذي يُبنى عليه كل تشريع وتقنين" علم اصول الفقه لعبدالوهاب خلاف ص:5 والمجال الرحب للاجتهاد الفقهي هو أعمال المكلفين، ويطلق على الأحكام الخاصة بها مصطلح: الأحكام العملية "فهذا هو الفقه، وهو المراد من الأحكام عند الاطلاق. ومن تتبع فقه القرآن والسنة النبوية وجد أن كل فرع من فروع القوانين له في القرآن مواد تخصه وتبين أحكامه أصول الفقه، خلاف، ص: 195. وتبين أحكامه". - علم أصول الفقه والأصوليون: إن علم أصول الفقه هو "ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية" احكام الفصول فلي علم الأصول، ص:47. وهذا يتطلب من الاصولي الاحاطة "بالقواعد التي يتوصل بها الى الفقه". التعريفات: للجرجاني: 28 كي يستطيع استنباط الأحكام الشرعية بحسب الطرق المرعية، ومن هنا وجب على من يؤرخ لتطور علم أصول الفقه أن يؤرخ للأدلة من قرآن كريم، وسنة نبوية، واجماع وقياس وغير ذلك، كما يجب أن يؤرخ لكيفية تطور استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة. أما معرفة الأدلة، ومعرفة قواعد استنباط الأحكام من الأدلة فهي مهمة الأصولي. وحفظ الأحكام الفقهية مهمة الفقيه. بناء على ما سبق نقول: إن الأدلة الشرعية التي كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، هي القرآن الكريم، والسنة النبوية. أما طرق استنباط الأحكام الفقهية، فاعتمدت على استنطاق الكتاب فالسنة، فإذا انعدم الحكم لجأ المجتهد الى القياس، فإن لم يمكن القياس، قال بالرأي. - القرآن الكريم: هو كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو "المكتوب بين دفتيِّ المصحف، وهو مُتواتر بين الأمة". مقدمة ابن خلدون، ص: 437. وعلوم القرآن كثيرة ألف فيها العلماء العديد من الكتب العامة لمعظم علومه، والخاصة بعلم ما من علومه. ويجب على الأصولي أن يفهم اللغة العربية فهماً دقيقاً يمكنه من "التمييز بين الألفاظ الوضعية والمستعارة، والنص والظاهر، والعام والخاصّ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، وفحوى الخطاب، ومفهوم الكلام، وما يدل على مفهومه بالمطابقة، وما يدلُّ بالتضمين، وما يدلُّ بالاستتباع. فإنَّ هذه كالآلة التي بها يحصلُ الشيء. ومن لم يحكم الآلة والأداة لم يصل الى تمام الصنعة" الشهرستاني الملل والنحل: 2/28. ومعرفة هذا المقدار من اللغة العربية ضروري للأصولي حتى يستطيع فهم النصوص من كتاب وسُنة وإجماع. الى ذلك يجب ان يعرف "تفسير القرآن" خصوصاً ما يتعلق بالأحكام" وما ورد من الأخبار في معاني الآيات، وما رُئي من الصحابة المعتبرين. كيف سلكوا مناهجها، وأي معنىً فهموا من مدارجها. ولو جهلوا تفسير سائر الآيات التي تتعلق بالمواعظ والقصص قيل: لم يضرُّه ذلك في الاجتهاد، فإن من الصحابة من كان لا يدري تلك المواعظ، ولا يتعلم بعد جميع القرآن، وكان من أهل الاجتهاد..." الملل والنحل: 2/28. وهذا يعني: أن الأصولي مُطالب بمعرفة معاني القرآن الكريم، وأحكامه، وناسخة ومنسوخة، ومتقدمة ومتأخرة، حتى يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية. وهذا المقدار من علوم القرآن كان متوافراً منذ البعثة، والنبي هو القارئ الأول، والمُفسر الأول، والأصولي الأول، والمشرع الأول، والمجتهد الأول، علّم اصحابه أصول الاجتهاد. رُوي "أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذ بن جبل الى اليمن، قال له: كيف تقضي اذا غلبك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسُنَّة رسول الله. قال: فإنْ لم تجدْ؟. قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب صدره" وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضاه رسول الله". رواه أحمد في المسند... وكتب الأصول والتحصيل: 395. يتضح لنا من هذا الحديث أن المسلمين عرفوا طرق استنباط الأحكام منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم غير أن كُتُبَ أصول الفقه دُوِّنَتْ في العصور اللاحقة "فعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقى بما يوحى اليه من القرآن، ويبينه بقوله وفعله" بخطابٍ شفاهي لا يحتاج الى نقل، ولا الى نظرٍ وقياس" مقدمة ابن خلدون، ص: 452. عُزِيَ سبب عدم تدوين أصول الفقه منذ الصدر الأول لاستغناء السلف الصالح عن المصنفات به "بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها الى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج اليها في استفادة الأحكام خصوصاً فمنهم اخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون الى النظر فيها لقرب العصر، وممارسة النقلة، وخبرتهم بهم. فلما انقرض السلفُ، وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة ... احتاج الفُقهاءُ والمجتهدون الى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام مِنَ الأدلة فكتبوها فناً قائماً برأسه سموهُ: أصولُ الفقه مقدمة ابن خلدون: 454. وهكذا نجد أنَّ أدلة أصول الفقه، وطرق استنباط الأحكام الفقهية من الأدلة، كانت موجودة منذ البعثة. وان القرآن الكريم والسنة النبوية دليلان لاستنباط الأحكام الفقهية يليهما الرأي الناتج عن الاجتهاد. فأما اجتهاد النبي فداخل في السنة النبوية، و آراء الصحابة ملزمة لمن بعدهم اذا كانت موضع اجماع الصحابة. ينقسم اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم الى مرحلتين: الأولى في مكةالمكرمة، والثانية في المدينةالمنورة. في مكةالمكرمة اتسم الدور المكي بالتركيز على اصلاح العقيدة الاسلامية التي تبدأ بشهادة أن لا إله الاّ الله، وأن محمداً رسول الله. وتشمل الإيمان بالملائكة والرسل والكتب السماوية، واليوم الآخر، والقضاء والقدر. كما أمر المسلمون في مكة باتباع الفضائل واجتناب الرذائل. وأقرت الأصول الكلية التي تبين الحلال والحرام، فحرم وأدُ البنات، وقتل النفس إلا بالحق، وحرم الزنا وابيح الزواج، كما حرم أكل الأموال بالباطل، فحفظ الدين والأنفس والأعراض والأموال. وهذا هو أقصى ما يطمح اليه من يسن القوانين. وفي مكة شرعت الصلاة، والأمر بالصدقات، وصوم النوافل، والنهي عن أكل لحوم ما لم تزكَّي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُفتي من يستفتيه من المسلمين، وامتدت الفترة المكية مدة 13 سنة تقريباً حتى كانت الهجرة النبوية مع بداية العهد المدني. الاجتهاد في المدينةالمنورة، مدته تسع سنوات وتسعة أشهر تقريباً، واتسم بالتركيز على تشريع الأحكام العملية التي تربي المجتمع الاسلامي الجديد، وتصنع أسس الدولة الاسلامية، وتوضح ما يتصل بحياة الأفراد من عبادات، ومعاملات تنظم شؤون الحياة الاجتماعية، كما تنظم علاقات المجتمع الاسلامي مع المجتمعات الأخرى غير الاسلامية. وقد استمرت هذه المرحلة حتى سنة 11 للهجرة، فاختتمت بوفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت الفترة المدنية امتداداً للفترة المكية. - الرأي والاجتهاد في زمن البعثة: استعمل الرأي بمعنى القياس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام الصحابة رضي الله عنهم، حيث أن استخدامهم لمصطلح الرأي يعني القياس، والأخذ بالمصالح المرسلة والاستحسان. وبناء على ذلك نرى أن الرأي هو الحكم المستند على القواعد العامة، والأصول العامة. الناظر في تاريخ أصول الفقه يجد أن الاجتهاد لم يقتصر على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل يجد أن النبي أذِنَ لأصحابه بالاجتهاد، وذلك واضح في قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه حين سمح له أن يقول برأيه، أي أنّ يجتهد فيقيس ويُفتي. والغاية من ذلك مسايرة الزمان والمكان، ومواكبة الفقه الاسلامي لما تقتضيه الحوادث من أحكام شرعية تنظم حياة البشر. - الناسخ والمنسوخ: تقرر في زمن النبي صلى الله عليه وسلمتحديد الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، والنسخ توقيفي من الله تعالى تبيَّنُهُ السنة النبوية. وهو ثلاثة أنواع: ما نسخ تلاوةً وحُكماً، ما نُسخَ تلاوةً وبقي حُكمُهُ، وما نُسخ حُكمُهُ وبقي تلاوةً. ان معرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية لعلماء أصول الفقه، وأعلم الناس بالناسخ والمنسوخ هو النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة. ولم يقتصر النسخ على القرآن الكريم بل يعم السنة النبوية أيضاً، فالحديث ينسخ الحديث أيضاً، والسنة تبين المنسوخ من القرآن الكريم. كما يمتد النسخ الى الاجماع، فالقياس، وكل أنواع النسخ تتم بشروط دقيقة حددها علماء أصول الفقه، والمسلمون يقرون النسخ بينما اليهود يقرون البداء، أي: إن الله تعالى لا ينسخ، وانما يتبادى له أمر أصوب من الأول، وهذا من بدعهم وهو مناقض للشريعة الاسلامية، ومرفوض من قِبَلِ المسلمين الصالحين. يتضح لنا مما سبق أن علم أصول الفقه كان موجوداً في أيام البعثة من الناحية العملية غير أنه دُوِّنَ في وقت لاحق، ودليل وجود أصول الفقه في زمن النبي هو العديد من الأحكام التي استنبطها صلى الله عليه وسلم باجتهاده ولم يجد حكمها في القرآن الكريم، ودليل صحة اجتهاد أصحابه هو اقرار النبي وموافقته على تصرفاتهم الشرعية والأمثلة على ذلك كثيرة في كتب أصول الفقه الإسلامي، وكُتُبِ السنة النبوية. ونستطيع القول إن المدرسة النبوية في أصول الفقه الاسلامي هي نواة هذا العلم، وفي مسألة معاذ بن جبل نموذج تعليمي للصحابة وللمسلمين من بعدهم يوضح كيفية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الاسلامية بحسب الأولوية والقياس عليها، ثم الاجتهاد بالرأي من دون معارضة النصوص، ولكن تلك المدرسة الأولى كانت مدرسة مشافهة سابقة على عصر التدوين العام. * زميل باحث في مركز الدراسات الاسلامية، كلية الدراسات الشرقية والافريقية، جامعة لندن.