النسخ في اللغة: الإزالة والنقل، وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي متراخٍ عنه، ولا يكون النسخ إلا في الأوامر والنواهي، سواء أكانت صريحة في الطلب، أم كانت بلفظ الخبر الذي بمعنى الأمر أو النهي، ولا يقع في الاعتقادات. وقد توهم عابد الجابري وغيره أن مفهوم النسخ في القرآن الكريم هو أن بعض الآيات قد نسيت من الذاكرة الإنسانية، وأن القرآن الكريم ناقص. وللعلماء في الناسخ والمنسوخ في القرآن مذاهب، منها: أن النسخ ممتنع عقلاً وشرعاً، ومنهم من قال: إن النسخ جائز عقلاً، وممتنع شرعاً، ومنهم من ذهب إلى أن النسخ جائز عقلاً وشرعاً، وهذا عليه إجماع، وقال بعضهم: يجوز نسخ الكتاب بالسنة، والسنة بالسنة؛ فعلى سبيل المثال قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)، فقد نسخها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث»، وكما جاء في الحديث قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها». من أدلة ثبوت النسخ في القرآن الكريم: قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا). وقوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ). أما أقسام النسخ في القرآن فهي ثلاثة: نسخ الحكم والتلاوة معاً، ومثاله: عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرّمن، فنسخن بخمس معلومات. فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن». والثاني نسخ الحكم وبقاء التلاوة، ومثاله آيتا المصابرة، وهما قوله تعالى: (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ)، نسخ حكمها بقوله تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). والثالث نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، مثاله آية الرجم. فقد أخرج الشيخان في «صحيحيهما»، في كتاب الحدود، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان فيما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، وقامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف». وقد أوردت الكثير من كتب السير قول عمر: «وأيم الله لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها». من الأعلام الذين ألّفوا في علم الناسخ والمنسوخ: قتادة «ت 117ه»، ومحمد بن مسلم الزهري «ت 124ه»، وأبو عبيد القاسم بن سلام «ت 224ه»، والحافظ البغدادي «ت 261ه»، والجعد الشيباني «301ه»، وأبو داود السجستاني «ت316ه»، وأحمد بن محمد النحاس «ت 338 ه»، وابن أصبع القرطبي «340ه»، وابن شاهين الواعظ «385ه»، وأبو محمد القيسي «437ه»، وأبو بكر الحازمي «ت 584 ه». أما معنى «أَوْ نُنْسِهَا» من النسيان الذي بمعنى الترك، أي نتركها، فلا نبدلها، ولا ننسخها. فقد قرأ ابن كثير وغيره «أَوْ نَنسأْهَا» بفتح النون الأولى، والسين، وهمزة ساكنة بين السين والهاء، من النسئ، وهو التأخير، ويقال: نسأت هذا الأمر، إذا أخرته، و«أَوْ نَنسَأُهَا»، أي نُؤَخر نسخ لفظها، أي نتركه في أم الكتاب فلا يكون. وقراءة «نُنسِهَا» له تأويل ثانٍ وهو الرفع، أي نرفعها، وهو مروي عن الربيع. «وننسأْها» يحتمل معنيين، هما: معنى تأخير النسخ، واختاره أبو زرعة؛ ومعنى تأخير التنزيل، واختاره الرازي الجصاص. إن التوفيق والتنسيق حاصلان بين القراءتين، لأن القرآن الكريم يطرأ عليه نسئ ونسيان، فقد يؤخِّر الله نسخ حكم، فيبقى متلواً معمولاً به، وهو النسيء؛ أَي التأجيل أو التأخير، حتى يأتي ما ينسخه، وقد ينساه الرسول صلى الله عليه وسلم بإذن الله وأمره، كما في قوله تعالى:(سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللهَ)، فيرفع من القرآن، ثم يأتي الله بخير منه أو مثله. رجع السيوطي إلى أبي داود في «ناسخه» عن ابن عباس قوله: «كانت الآية تنسخ الآية، وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة، وما شاء الله من السورة، ثم ترفع فينسها الله نبيه، فقال الله يقصّ على نبيه: (وَمَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا)، يقول: فيها تخفيف، فيها رَخصةٌ، فيها أمرٌ، فيها نهيٌ». إن علم الناسخ والمنسوخ من العلوم المهمة للمفسر، قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ. وقد أعطى الواحدي هذا الفن عناية خاصة في تفسيره «البسيط»، إذ تكلم عنه بإفاضة، فذكر تعريفه وأنواعه والخلاف في بعضها، وكأنه يتكلم في كتاب خاص بعلوم القرآن، وذلك عند تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها). وكان لا يمر بتفسير آية أو منسوخة إلا يقف عندها ويذكر ما قيل فيها. يجب على كل مسلم الإيمان بأن ما في أيدينا من كتاب الله هو ما أراده تعالى أن يصل إلينا فقط؛ وأن أول آية مدونة فيه (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين) تؤكد هذا المعنى، فكلمة لا ريب، أي لاشك فيه، وإن ما سقط من القرآن كان بأمر الله. والجابري وغيره يبتغون الشهرة في أنهم اكتشفوا ما لم يكتشفه الأوائل. فموضوع الناسخ والمنسوخ مدون في الحديث، والسير، وبطون الكتب؛ ولكن هناك فرقاً بين ما كُتب وبين تأويل ما كُتب. قال عمر لعبدالرحمن بن عوف: «ألم نجد، فيما أنزل علينا، أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة؟ فإنا لم نجدها، قال: فرفع فيما رفع». وهذا يؤكده قوله تعالى: (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). فمن الجائز أن ينسخ الله جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده، ويرفع حكمه بغير عوض، بدليل قوله تعالى: (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً). أخرج أحمد والحاكم والبيهقي عن حذيفة قوله: قال لي عمر بن الخطاب: «كم تعدُّون سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين أو ثلاثاً وسبعين، قال: إنْ كانت لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها لآية الرجم». إن الحكمة في النسخ كونها تراعي مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم، والتطور في التشريع حتى يبلغ الكمال. فقد كانت تلك الأحكام الشرعية المنسوخة مناسبة لأزمانها، حتى إذا زال ما يقتضي وجودها جاءت الأحكام المحكمة؛ فنسخت تلك الأحكام المؤقتة. والسبب في تدرج نزول هذه الأحكام هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى أقوام لم يكونوا ذوي دين، ولم يتقيدوا بشريعة ومنهج؛ فلو نزلت عليهم تلك الأحكام دفعة واحدة لنفروا منها. ولنضرب مثلاً على ذلك، فقد كان من العسير إقناع هؤلاء القوم بترك الخمر دفعة واحدة، لما كان له من تأثير في حياتهم الاجتماعية. فأول ما نزل بالخمر كان يعدّ حلالاً في قوله تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). ثم حرّم فيما بعد، على دفعات، بالتدرج. إن القول بنقص القرآن، أو الشك في بعض آياته، يعد من الإشراك بالله، وينبغي على كل مسلم أن لا يدع مجالاً للشك يدخل قلبه، في أنه كلام الله، موحى به إلى رسوله. وقد وعد الله تعالى بحفظه إلى قيام الساعة.