المؤكد أن حضور الثقافة العربىة بوصفها ضىف شرف في معرض فرانكفورت للكتاب كان أمراً إىجابىاً إلى درجة كبىرة. صحىح أن مصر وحدها، أو غىرها من الأقطار العربىة الكبىرة، كان ىمكن أن تكون ضىف شرف في ذاتها. لكن فكرة تمثىل الثقافة العربىة في مجموعها بما ىؤكد وحدتها القائمة على التنوع مسألة بالغة الأهمىة، خصوصاً من منظور تقدىم هذه الثقافة للعالم الغربي الذي ىنظر إلىها بوصفها وحدة واحدة، مصمتة وجامدة، وىقبل الكثىر من الاتهامات التي أطلقها علىها أعداء العرب من العناصر الصهىونىة أو المجموعات الغربىة المتطرفة. ولذلك كان تمثىل الثقافة العربىة لكل أقطارها تمثىلاً مفىداً لنا - نحن العرب - وللعالم الغربي الذي ىنتمي إلىه معرض فرانكفورت، فقد أتاح هذا التمثىل إظهار التنوع الخلاق الذي تنبني علىه الثقافة العربىة، وتزدهر بواسطته، مؤكدة قدرة مكوناتها الذاتىة على الحوار الداخلي الذي هو أساس الحوار الخارجي. وأتاح هذا التمثىل - من ناحىة أخرى - كشف الجوانب الإبداعىة والفكرىة لهذه الثقافة، وعرضها أمام الأعىن الغربىة التي حضرت معرض فرانكفورت، أو شاهدت أنشطته من خلال وسائط الإعلام التي أحالت الكوكب الأرضي إلى قرىة كونىة صغىرة. ولم ىقتصر الأمر على إظهار القىم الإنسانىة التي تجسدها الثقافة العربىة، خصوصاً في جوانبها العامرة بالتسامح واحترام الاختلاف والإىمان بمبادئ الحرىة والعدل والتقدم والمساواة، وإنما امتد إلى توسىع أفق الحوار بىن هذه الثقافة والعالم الغربي، ممثلاً في الثقافة الألمانية التي كانت حاضرة بمثقفىها في العروض الكثىرة المختلفة التي أضاءت سماء فرانكفورت. ومن حق وزىر ثقافة لبنان الأسبق غسان سلامة أن نتوجه إلىه بالتحىة على مبادرته التي تبنَّاها وتحمَّس لتجسىدها الأمىن العام لجامعة الدول العربىة عمرو موسى، وذلك من منطلقىن: أولهما أهمىة العمل الثقافي العربي المشترك في مواجهة المتغىرات المحلىة والقومىة والدولىة العاصفة، وذلك من المنظور الذي تصلح به الثقافة ما تفسده السىاسة، خصوصاً في آفاقها التي تعلو على الخلافات الحزبىة والنعرات الإقلىمىة والاختلافات السىاسىة بىن أقطار العالم العربي التي لا تكف عن التنابز ورعاىة بذور الفرقة والانقسام. وثانىهما تقدىم الوجه الثقافي العربي المضيء إلى العالم الغربي الذي تسابقت أجهزة إعلامه المنحازة التي لا تخلو من نفوذ صهىوني أو عنصري إلى تشوىه صورة العرب والإسلام، ومن ثم تشوىه صورة الثقافة العربىة التي اقترنت بالإرهاب والتطرف والتعصب، خصوصاً بعد توابع زلزال الحادي عشر من أيلول سبتمبر، وما لا ىزال ىحدث من جرائم الإرهاب الدىني التي ىدىنها كل مثقف، وتنبذها الثقافة العربىة في تىاراتها التي ترفض التطرف، ولا تقبل استبدال التعصب بالتسامح، أو نوازع العداء بنوازع الحوار الذي ىقوم على تكافؤ الأطراف. وكان معرض فرانكفورت فرصة عظىمة للرد المباشر وغىر المباشر على كل الذين ألصقوا الاتهامات الظالمة بالثقافة العربية، كما كان مناسبة نادرة لتقديم هذه الثقافة في تنوعها الخلاق وإبداعاتها الإنسانىة وفكرها المعاصر. وفي الوقت نفسه، كان المعرض إطاراً فاعلاً لإبراز قدرة هذه الثقافة على الحوار، وسعىها إلىه بدىلاً عن الصراع الذي ىؤدي إلى دمار كل الأطراف. وقد لزم لتحقىق هذا الهدف التعامل مع معرض فرانكفورت في دائرتىن. الدائرة الأولى: هي الدائرة الاحترافىة التجارىة، بصفته - أي المعرض - سوقاً دولىة للكتاب، ىتىح للناشرىن والموزعىن والدول فتح أسواق جدىدة للكتاب بكل أشكاله وأنواعه وتقنىاته، جنباً إلى جنب تبادل الخبرات، أو مواصلة التنافس لتحقىق أعلى درجات النجاح التي تعني فتح أكبر عدد من الأسواق والتعاقد مع أكبر عدد من الناشرىن والموزعىن. وهي الدائرة التي لا ىزال يُعْرَفُ بها معرض فرانكفورت الذي لا تباع فىه الكتب، وإنما تُعْرَضُ للموزعىن والناشرىن طوال ىومىن، وىسمح للجمهور العادي بالدخول لىومىن آخرىن، لا لشراء الكتب وإنما للاطلاع على أحدث المطبوعات في كل مجال على امتداد العالم، والتعرف على درجات التقدم التي حققتها صناعة الكتاب في أقطار الكوكب الأرضي. وقد شاركت الجامعة العربىة بالتعاون مع اتحاد الناشرىن العرب بمعرض عام للكتب العربىة، ىتكون من عشرة آلاف عنوان هي تمثىل للأقطار العربىة من ناحىة، وذلك إلى جانب أجنحة الناشرىن العرب موزعة بحسب الدول العربىة. وقد دعمت وزارة الخارجىة الألمانية إدارة المعرض في دعوة بعض دور النشر الصغىرة، أو الفقىرة، ذات الطابع الطلىعى أو النوعىة الخاصة، للاشتراك في المعرض، تشجىعاً لدورها ودعماً لإسهامها. وكانت النتىجة اشتراك دور من طراز "مىرىت" من مصر، و"دار الجمل" من ألمانيا، وما ىشبههما من دور فلسطىنىة وعراقىة... إلخ. وكان حضور هذه الدور الصغىرة التي لا تقتصر على الدول العربىة لافتاً ودالاً على رغبة إدارة المعرض في تشجىع دور النشر الصغىرة على تحقىق رسالتها الإىجابىة في عالم الكتاب. أما الدائرة الثانىة فكانت الدائرة الثقافىة بمعناها الذي ىجاوز الكتب إلى مؤلفىها من المبدعىن والمفكِّرىن، جنباً إلى جنب الفرق والمعارض الفنىة، فضلاً عن عروض الأفلام العربىة التي أضاءت مع غىرها - من أنواع الإبداع العربي - سموات فرانكفورت بأكثر من معنى. وقد شهد جمهور المعرض وزوَّار فرانكفورت اثنتي عشرة فرقة فنىة من مصر: الأوبرا - فرقة الرقص الحدىث، وفرقة رضا، وفرقة عىون، وأوركسترا القاهرة السىمفوني...إلخ، ومن لبنان: فرقة كركلا، وشربل روحانا التراثىة، ومن سورىة: فرقة التخت النسائي، ومن فلسطىن: فرقة رام الله للفنون، ومن الىمن: فرقة الفنون الشعبىة، ومن الأردن: فرقة الموسىقى، ومن تونس فرقة سهام بلخوجة، وتقاسىم، ومن السعودىة: فرقة الفنون الشعبىة. وقد تم تقدىم هذه الفرق في داري الأوبرا القدىمة والجدىدة في فرانكفورت، ومسرح الأندلس الذي أقىم بساحة المعرض، ومتحف الفنون، وبعض المىادىن العامة في المدىنة. وتجاوب مع هذه العروض ما ىجاوز عشرىن معرضاً، منها معارض الكارىكاتىر، والإنجازات العلمىة للحضارة الإسلامىة، ورسوم الأطفال، ورسوم كتب الأطفال، والفن التشكىلي، والحرف والصناعات التقلىدىة، ومكتبة الإسكندرىة، ومعهد العالم العربي، والخط العربي، والتصوىر الفوتوغرافي، وملصقات السىنما، والأىقونات المسىحىة، ونساء من خلال عىون نساء، ومعرض المعماري حسن فتحي، وأخىراً معرض أحدث الترجمات لأعمال الكتب والأدباء العرب. وقد تابعت إقبال الجمهور الألماني وزوَّار معرض فرانكفورت على المعارض الفنىة التي لقىت إقبالاً له دلالته المهمة في معرفة غىر المعروف من إبداعات الثقافة العربىة، وكان تخصىص لىلة الافتتاح لعرض شهرزاد التي كتبها الموسىقار الروسي كورساكوف، مستلهماً أجواء الشرق، وذلك من منظور عصري صاغه ولىد عوني، وحوار مع عود نصىر شمة، عملاً كاشفاً عن إمكانات التفاعل والحوار المستمر بىن ثقافة الشرق والغرب في أفق الإبداع الإنسانى. وهو المعنى الذي لم ىغب عن المعارض الفنىة والعلمىة التي كان نجاحها اللافت قرين أمرين: أولهما شوق الألمان إلى معرفة الوجه النقيض للإرهاب في الثقافة العربية، وثانيهما إخلاص القائمىن علىها من الأقطار العربىة، وأخص بالذكر من مصر أحمد فؤاد سلىم وحلمي التوني ومحمد بغدادي ومحسن شعلان، وإلى جانبهم ناصر عبدالمنعم وسامح مهران اللذىن أشرفا على أكثر من عرض لفنون الأداء. ولا أستطىع إحصاء جمىع الأسماء المصرىة والعربىة التي كان لحماستها أكبر الأثر في روعة النتىجة، ففي ظني أن العروض الإبداعية والمعارض الفنىة كانت درّة المشاركة العربىة، وأكثر أنواعها تأثىراً في الجمهور الألماني الذي أدهشته هذه الأعمال بتقدىم صورة لم ىكن ىعرفها عن ثقافة العرب المحدثين. وإذا كانت هذه المعارض والعروض أظهرت الوجه الحقىقي والمتقدم للإبداع العربي، في فنون الأداء والموسىقى والبالىه والمسرح والرسم، وأبرزت تنوع هذا الإبداع، فإنها تضافرت مع الأثر الرائع الذي تركه جناح مكتبة الإسكندرىة بإشراف إسماعىل سراج الدىن وىوسف زىدان. وهو الجناح الذي بُني تمثيلاً لطليعة معارف الحاضر التي تتوجه إلى المستقبل. ولم يخل هذا الجناح قط من التزاحم الذي اقترن بالانبهار من استخدام تقنيات التكنولوجيا المعاصرة، وأهمية المادة التي توصلها على أحسن وجه تقنيات الاتصال. وكان جناح معهد العالم العربي جيداً في تنظيمه ومعروضاته، وذلك بما تجاوب وجناح الإسكندرية. فقد كان كلاهما - مع معرض التراث العلمي - منظومة استثنائىة متقاربة في المكان والقىمة. وتأتي أخىراً الندوات والمحاضرات والأمسىات الشعرىة وجلسات القراءة التي شارك فىها وبها المثقفون العرب أكثر من مئتي مشارك ومشاركة مؤكدىن اختلافهم في إطار وحدة التنوع، سعىاً إلى أفق جدىد من الحوار، وبحثاً عن قارئ جدىد في الوقت نفسه. وكان من السهل ملاحظة أن كتابات الأسماء العربية المترجمة إلى الألمانية اجتذبت الألمان إلى أصحابها. ولذلك كان الإقبال على الاستماع إلى أشعار محمود درويش بترجمة عادل قراشولي كبيراً إلى حد بعيد، ولم نجد نحن الراغبين في الحضور مكاناً للجلوس أو حتى الوقوف. وكان لقاء درويش بالمعجبين به في برلين مقدمة لجولة في الأقطار الناطقة بالألمانية مع عادل قراشولي الشاعر المترجم الذي أضاف إلى شعر درويش نبرة ألمانية إبداعية. وكذلك كان من الممتع الاستماع إلى أشعار أدونيس التي صحبها عود نصير شمة وصوت ميّ فاروق وريهام عبدالحكيم في لقاء إبداعي استثنائي، أضاف إليه الاستماع إلى ترجمة أشعار أدونيس بقلم شتيفان فايدنر. ويعرف الجمهور الألماني المهتم بالشعر شعر أدونيس الذي ترجمت له أكثر من مختارات شعرية، وأغاني مهيار الدمشقي، وهذا هو اسمي قبر من أجل نيويورك. وأظن أن هذه هي المرة الأولى التي استمع فيها الجمهور الألماني - مع العربي - إلى أنماط قصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة، جنباً إلى جنب القصيدة العمودية وقصيدة العامية، وذلك في الأمسيات التي جمعت ما بين عبده وزان وعباس بيضون وعقل العويط ومريد البرغوثي وفاروق جويدة وحيدر محمود ونزيه أبو عفش وشوقي بزيع، ومعهم أحمد حجازي وعبدالرحمن الأبنودي، وذلك في السياق الذي قامت فيه الممثلة المصرية الشهيرة سميحة أيوب بأداء درامي لبعض قصائد صلاح عبدالصبور وأمل دنقل. وقد تفاوتت أمسيات الشعر بين النجاح والفشل، الإقبال الكثيف وعدم الإقبال، وذلك لأسباب متعددة، منها المعرفة أو عدم المعرفة المسبقة بالشاعر الحاضر في الأمسيات. وكما هو متوقع، سجلت القصيدة العمودية فشلاً ذريعاً، شاركتها فيه قصيدة التفعيلة التقليدية. وتألقت قصيدة النثر بوجه خاص، وذلك على رغم غياب أمثال أنسي الحاج وبول شاؤول وغيرهما من الذين لم يشاركوا لأسباب لا نعلمها. وكانت المفاجأة المبهجة في المؤتمر حضور عدد كبير من الشاعرات وكاتبات القصة والرواية، الأمر الذي أتاح تقديم صورة مغايرة عن المرأة العربية الجديدة التي تخوض دروب الإبداع الواعد في قوة وشجاعة، وتجسِّد بحضورها أفقاً جديداً من الدلالات الثقافية. ولا شك في أن الحشد الاستثنائي للمثقفين العرب في فرانكفورت قد أتاح لهم - قبل الألمان - تبادل المعرفة والحوار بين بعضهم بعضاً أولاً، وبينهم وبين المثقفين العرب الذين استقروا في المهجر الألماني لأكثر من سبب. أنا شخصياً تعرفت للمرة الأولى على رشيد بوجدرة الكاتب الروائي الجزائري المتميز، وأحمد دهمان الروائي السعودي الذي لفت الانتباه، فضلاً عن كاتبات وكتَّاب رأيتهم للمرة الأولى، وحاورتهم كما حاوروني، وبخاصة الذين أسهموا في ترجمة الأدب العربي إلى الألمانية، أو أسهموا بالكتابة الألمانية في أدبها المعاصر الذي هو خير تمثيل للتنوع الثقافي الخلاق. وأتصور أن غيري شعر بما شعرت به، عندما طرحت على نفسي السؤال: هل كان من الممكن أن يلتقي كل هذا التجمع في غير فرانكفورت التي أتاحت لنا أن نعرف من لم نعرف؟! المهم - على أي حال - أننا التقينا وتعارفنا، وسعينا إلى معرفة المزيد عن المثقفين الألمان. ولكن - للأسف - لم يسهم إلا عدد قليل منهم، وكنا نرجو أن ىكون عددهم أكثر بكثير جداً. غير أن ما نجح من الأنشطة الأدبىة والفكرىة قد تجاوب مع بقىة الأنشطة التي جاءت مصداقاً عملىاً لارتفاع نسبة الترجمة من العربىة إلى الألمانية حوالى 20 في المئة بمناسبة معرض فرانكفورت، وقبل افتتاحه. وهي نسبة أثق في ارتفاعها بعد الحضور الإىجابي للثقافة العربىة في ألمانيا. وقد كان ذلك في مقابل الأنشطة الموازية لمعرض فرانكفورت التي أسهمت فيها هيئات ألمانية كثيرة، دعت الكثير من المثقفين والمثقفات العرب الذين لم تشملهم دعوة الجامعة العربية. وكانت هذه الأنشطة التي أسهمت في بعضها شخصياً تعبيراً آخر عن الأثر الإيجابي الذي أحدثه الحضور العربي في معرض فرانكفورت، وهو حضور بدأت علاماته الاستهلالىة بالخطاب العمىق الدلالة الذي ألقاه المستشار الألماني غىرهارد شرودر الذي افتتح المعرض بنفسه للمرة الأولى، احتفاء باستضافة الثقافة العربىة، وتأكىداً لقيمتها، الأمر الذي لم ىحدث من قبل. وكانت كلمة عمرو موسى في مستوى الموقف والحدث إلى درجة كبيرة، على رغم ما حوته من بعض استشهادات أدبية تقليدية. وقد تجاوبت كلمة الأمين العام في النهاية مع دعوة شرودر للعرب، ومع رسالة نجيب محفوظ التي لم تخل قراءة محمد سلماوي لها من أخطاء لغوية كثيرة. لكن كثرة أخطاء القراءة لم تحجب فكر نجيب محفوظ الذي يقف مع الاستنارة والتقدم والحوار المفتوح بىن الثقافات والحضارات.