أثارت التفجيرات التي وقعت أخيراً في جنوبسيناء، وفي فندق طابا بالذات، عدداً كبيراً من التعليقات المتضاربة حول هوية منفذيها وأهدافهم ودوافعهم. وبينما سارعت الأوساط الرسمية الإسرائيلية، وتبعتها في ذلك على الفور الأوساط الرسمية الأميركية، بتوجيه الاتهام إلى"الإرهاب الدولي"بزعامة تنظيم"القاعدة"، فضّلت الأوساط الرسمية المصرية التّأني والحذر وعدم التعجل في توجيه الاتهامات تاركة الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات، بما فيها احتمال تورط عناصر إسرائيلية أو فلسطينية أو مصرية متطرفة في الحادث. أما"الخبراء"والمعلقون والمحللون السياسيون غير الرسميين فقد تباينت آراؤهم أيضاً تبايناً كبيراً. والغريب أن معظم المعلقين الإسرائيليين والأميركيين انحازوا إلى وجهة النظر الرسمية لحكوماتهم، بل تبنّوها بالكامل، وراحوا يتبارون في تقديم الحجج التي ترجح تورط تنظيم"القاعدة". أما المعلقون المصريون والعرب فمال معظمهم إلى توجيه الاتهام إلى"الموساد"وتأكيد تورطه مباشرة في هذه العملية الشنيعة. ومع ذلك فإن بعض المعلقين المصريين والعرب استبعد تماماً احتمال تورط"الموساد"من دون أن يستبعد تورط ايّة جهة أخرى مثل القاعدة أو بعض المنظمات الفلسطينية، ك"حماس"أو"الجهاد"، أو حتى بعض الجماعات المصرية التي ربما تكون قررت، لسبب أو لآخر، العودة إلى حمل سلاح هجرته منذ فترة. الذين وجهوا الاتهام إلى تنظيم"القاعدة"استندوا إلى وجود بعض أوجه شبه بين عملية طابا وعمليات أخرى تبناها التنظيم نفسه، أو تنظيمات موالية له ومرتبطة به، في اماكن أخرى عديدة من العالم، وإلى أن عملية من هذا النوع تتطلب إمكانات وقدرات لوجستية لا تملكها أو تستطيع المنظمات الفلسطينية توفيرها. ويلاحظ أنه على رغم أن إسرائيل كانت حريصة في ما مضى على عدم الزج باسم"القاعدة"، حتى في العمليات التي استهدفت إسرائيليين خارج الأراضي المحتلة، إلا أنه كان من الواضح أن لأنصار هذا الرأي مصلحة واضحة في إلصاق التهمة بتنظيم"القاعدة"هذه المرة بالذات، مستشهدين في ذلك بما قاله أيمن الظواهري في الشريط الذي بثته الفضائيات العربية أخيراً وتضمن مناشدة أتباعه تركيز هجماتهم في هذه المرحلة على الإسرائيليين. أما الذين أشاروا بأصابع الاتهام إلى"الموساد"فاستندوا إلى أن تنظيم القاعدة ليس له تاريخ معروف في العمل ضد الإسرائيليين، فضلاً عن أنه لا يستطيع أن يقوم بمثل هذا العمل من دون دعم محلي لا يقدر عليه سوى تنظيم"الجهاد"المصري الذي كان يقوده أيمن الظواهري نفسه ولم يعد له، بشهادة الخبراء العارفين، أي وزن مؤثر على الساحة المصرية. بل اعتبر البعض أن مجرد قيام إسرائيل بتوجيه أصابع الاتهام إلى تنظيم"القاعدة"وتحميله للمرة الأولى في تاريخها المسؤولية عن عمليات عنف ترتكب ضدها، يُعَدّ دليلاً في حد ذاته على أن أصابعها الخفية قد تكون وراء عملية يسهل إلصاقها بقالب سابق التجهيز بغية تحقيق مجموعة من الأهداف دفعة واحدة ربما كان من أهمها إظهار مصر بمظهر الدولة الضعيفة وغير القادرة على ضبط الأمن فوق أراضيها هي، ناهيك عن قدرتها منفردة على ضبط الأمن في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي المحتمل منه، ودفع مصر دفعاً للوقوف في الخندق نفسه الذي تقف فيه إسرائيل والولاياتالمتحدة في حربهما على الإرهاب، والتي تشمل في ما تشمل إعلان حرب صريحة ومفتوحة ضد المنظمات الفلسطينية التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة، وهي منظمات تعتبرها الولاياتالمتحدة وإسرائيل منظمات إرهابية بالمطلق. وبما أن البحث في هوية المتورطين في هذه العملية يبدو مسألة لا معنى لها قبل أن تتمكن أجهزة الأمن المعنية من تقديم أدلة لا تقبل الشك على الجهة أو الجهات المتورطة فيها، وهو أمر مستبعد في المرحلة الراهنة، فمن الأجدى أن نركز جهودنا في هذه المرحلة على محاولة استكشاف دلالات ما وقع فعلاً من تفجيرات وانعكاساتها المستقبلية على التفاعلات الإقليمية، خصوصاً ما يتعلق منها بالصراع العربي - الإسرائيلي. ويتطلب منا ذلك أول ما يتطلب ضرورة التمييز بين ارتكاب الحدث، أو التواطؤ في عملية ارتكابه مباشرة، وبين محاولة توظيفه واستغلاله بعد وقوعه. فليس من الضروري أن كل من يحاول استغلال أو توظيف الحدث لمصلحته بعد وقوعه متورطاً فيه بالضرورة حتى ولو كان صاحب مصلحة مباشرة فيه. لكن النتيجة تبدو واحدة. ولا جدال في أن إسرائيل عملت على، ونجحت إلى حد كبير في، توظيف واستغلال الحدث لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية مهمة. ولا يخالجني أي شك في أن إسرائيل تعمدت توظيف الحدث على نحو يذكر المصريين بحقائق قاسية كانوا يتمنون لو استطاعوا نسيانها، وراحت تبالغ في استغلال الحقائق والأوضاع القائمة على الأرض بطريقة مهينة لمشاعرهم. فمن ناحية كانت مشاهد القتل الهمجي للأطفال والنساء والشيوخ وهدم البيوت على رؤوس من فيها من الفلسطينيين تستفز مشاعر المصريين إلى درجة غير مسبوقة. وجاء الفيتو الأميركي ليمنع مجلس الأمن من مجرد توجيه نداء إلى إسرائيل بوقف عملية"ايام الندم"الهمجية في قطاع غزة بمثابة تأكيد جديد على أن أميركا هي إسرائيل، وإسرائيل هي أميركا. وفي هذا السياق كان الجو النفسي في مصر مهيأ لتقبل فكرة ان ما حدث في طابا، وبصرف النظر عن جنسية مرتكبيه، هو عمل موجه ضد الإسرائيليين في المقام الأول وليس موجهاً بالضرورة لزعزعة الأمن أو الاستقرار في مصر أو استهداف السياحة، وبالتالي استبعد المصريون على الفور، في ما أعتقد، احتمال أن تكون الجماعات الإسلامية قررت حمل السلاح من جديد في مواجهة الحكومة. من ناحية أخرى، ذكر الحدث جموع المصريين باتفاق ثنائي كانت مصر اضطرت لإبرامه مع إسرائيل عقب صدور حكم التحكيم لمصلحتها في قضية طابا، لا يكتفي بإلزامها بدفع تعويض مالي للإسرائيليين مقابل"شراء"أو"نقل ملكية"فندق طابا، ولكن يعطي لهم في الوقت نفسه الحق في الدخول إلى منطقة طابا والبقاء فيها من دون تأشيرة لمدة تصل إلى خمسة عشر يوماً، ويسمح لهم بالتحرك بسيارات تحمل أرقاماً إسرائيلية، طوال هذه المدة، في منطقة تمتد بحذاء الساحل الجنوبيلسيناء حتى شرم الشيخ. ولما كان هذا الاتفاق قد ابرم على عجل، ومن دون أي تبصُّر، تحت تأثير نشوة الاحتفال بالانتصار في معركة طابا القضائية، فلم ينتبه كثيرون وقتها إلى حجم وخطورة التنازلات السيادية التي قدمتها مصر لإسرائيل آنذاك والتي لم يكن لها ما يبررها على الإطلاق. ويبدو أن مصر قدمت هذه التنازلات وفي ظنها أن السلام أصبح واقعا يفرض نفسه على الأرض بينما كانت إسرائيل تخطط في الواقع لاستمرار الصراع بوسائل أخرى. في أيّ حال فإن ما يعنينا هنا هو طبيعة السلوك الإسرائيلي خلال الحادث. فقد راحت إسرائيل تتصرف وكأن منطقة طابا لا تزال تحت سيادتها. ورغم أن مصر بدت، ربما لاعتبارات إنسانية و/ أو في إطار ممارستها لسياسة سد الذرائع، متسامحة ومتعاونة مع الوجود الإسرائيلي إلى أقصى حد، تعمّد شارون، بعد أن حصل كل ما يريد، أن يدلي بتصريحات مستفزة صادمة لمشاعر كل المصريين حين نقل على لسانه قوله"أنه كان بوسع مصر أن تكون أكثر تعاونا وأن تقدم أكثر مما قدمته لإنقاذ الإسرائيليين"! هذا على رغم أن عدد ضحايا الحادث من المصريين يفوق نظيره من الإسرائيليين. فإذا ربطنا هذا الذي جرى ويجري في طابا وفي جنوبسيناء بما رددته الصحافة العالمية أخيراً عن وجود تقرير على مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي يبحث في إمكان شراء أو استئجار مناطق في شمال سيناء، لوجب على كل مصري أن يحس بقلق كبير حول ما يمكن أن يحمله المستقبل من مفاجآت غير سارة. ويبدو أن شارون يفكر الآن جدياً في استخدام سيناء كمنطقة توسع تصلح لتكون امتداداً طبيعياً ومتنفساً للفلسطينيين المتكدسين في قطاع غزة، وربما مكاناً لتوطين أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، وذلك في إطار تسوية دائمة تعتمد الجدار الفاصل الذي يبنيه في الضفة الغربية. ومن المعروف أن هذا الجدار يقتطع حوالي نصف الأراضي الفلسطينية ويضمها داخل الخط الأخضر ويخطط شارون لكي يحوله إلى حدود دائمة لإسرائيل. من هنا فإننا نرى أن ما جرى في طابا قد تكون له دلالات أخطر بكثير مما قد يبدو على السطح، وهي دلالات تستدعي النظر في مجمل الترتيبات الأمنية في سيناء، سواء تلك التي انطوت عليها معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية نفسها، أو تلك التي وردت في إطار الاتفاق الثنائي المنفصل الذي أعقب صدور حكم محكمة تحكيم قضية طابا. فإذا كان صحيح أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل تريدان من مصر أن تقوم بجهد أكبر في مكافحة الإرهاب الدولي فعليهما أن تقبلا بعودة الوضع في سيناء إلى ما كان عليه قبل إبرام معاهدة السلام، أي بعودة الجيش المصري وقوات الأمن المصرية بالأعداد وفي المناطق التي تراها مصر ضرورية لإحكام سيادتها وسيطرتها على كل أرجاء سيناء وسد منافذ وطرق التهريب كافة، سواء كان تهريب السلاح أو المتفجرات أو المخدرات، أو غير ذلك من الوسائل التي لا تهدد الأمن المصري فقط وإنما أمن المنطقة والعالم والذي أصبح يشكل كلا لا يتجزأ. كشفت تفجيرات طابا، من بين ما كشفت، أن سيناء تحولت بفعل العبث الإسرائيلي إلى منطقة رخوة وأصبحت تمثل شوكة في خاصرة الأمن المصري، وأن منفذ طابا خصوصاً بات يشكل تهديدا للأمن الوطني المصري بمعناه الشامل. فالتقارير الأمنية المتاحة تشير بوضوح إلى أن هذا المنفذ، أصبح هو المنفذ الرئيسي لإغراق مصر بالمخدرات، وأن العصابات الإسرائيلية التي تقود هذا النوع من الأنشطة الإجرامية تستغل التسهيلات الممنوحة لدخول الإسرائيليين والسيارات الإسرائيلية، من دون تأشيرة وبأرقامها الإسرائيلية، لممارسة هذا النشا ط الإجرامي. ومن يستطيع تهريب هذه الكميات الكبيرة من المخدرات عبر هذا المنفذ لا بد وأن يستطيع أن يهرب كل أنواع الممنوعات، بما فيها الأسلحة والمتفجرات وربما الإرهابيين ايضا. فإذا كانت شبه جزيرة سيناء تحولت بعد معاهدة السلام مع إسرائيل إلى منطقة أمنية رخوة إلى هذا الحد، ثم عادت لتصبح مطمعا لإسرائيل التي باتت ترى فيها منطقة قابلة لتصدير"فائض بشري فلسطيني"لم يعد له مكان للعيش في دولة إسرائيل الكبرى، أليس من حق مصر شعبا وحكومة أن يقلقا؟. أظن أن القلق في هذه الحالة لم يعد مشروعا فقط ولكنه أصبح واجبا وطنيا. * كاتب وأكاديمي مصري.