أردتُ في البداية ان أتتبع الكتب الفقهية اليمنية التي انقضى على مخطوطاتها ألف عام أو هي في طريقها لذلك. وقد وجدتُ كتابين أحدُهما في الفقه الزيدي لأبي عبدالله محمد بن علي بن الحسن بن الحسن بن عبدالرحمن العلوي، المتوفى عام 454ه، والآخر في الفقه الشافعي ليحيى بن ابي سالم العَمراني، المتوفى في مطالع القرن السادس، واسم الكتاب: البيان. ونُسختا الكتابين مكتوبتان في حياة المؤلِّفين، وقد نُشر كتاب البيان في دمشق في اثني عشر مجلداً عن مخطوطات عدة، في حين ما يزال الكتاب الآخر ينتظر النشر. ابو عبدالله العلوي، أحد فقهاء الزيدية في بغداد وخراسان وطبرستان في القرنين الرابع والخامس الهجريين. وهو غير مشهور بين علماء الزيدية. وقد قام في كتابه: الجامع الكافي، بعملٍ قام به ايضاً في العصر نفسه الحاكم الحنفي المعروف بالشهيد. فالعلوي جمع كتب ورسائل فقهاء اهل البيت من الزيدية من القرنين الثالث والرابع، ووزعها على ابواب الفقه في كتابه "الجامع" الذي لدينا منه الآن مخطوطتان: إحداهما في مكتبة الجامع الكبير في صنعاء في ستة مجلدات ضخمة، والأخرى في مكتبة الأوقاف في صنعاء في خمسة مجلدات. ومخطوطة مكتبة الأوقاف منسوخة في زمن مبكر، في حين تبدو مخطوطة الجامع الكبير متأخرة النسخ. وكما سبق القول، ففي العصر نفسه قام الحاكم الشهيد، الفقيه الحنفي، في ما وراء النهر باختصار كتب "ظاهر الرواية" كما يسميها فقهاء المذهب، وهي ستة كتب لمحمد بن الحسن الشيباني - 189ه ووزعها في "الكافي" على أبواب الفقه او لنقل انه استوعبها فيه. في حين قام العمراني اليمني، الفقيه الشافعي المشهور، الذي يكاد يكون مؤسس المذهب الشافعي في اليمن، بالتعليق على المهذّب لأبي اسحق الشيرازي الشافعي - 485ه في كتاب ضخم سمّاه البيان كما سبق ذكره، اما الماوردي الفقيه المشهور والمتوفى عام 450ه فقام في "الحاوي" بشرح مختصر المُزني -264ه. وهكذا فلدينا ثلاثة مؤلفات رئيسة في الفقه، او انها صارت كذلك في ما بعد لدى مذاهب ثلاثة: المذهب الحنفي، والمذهب الزيدي، والمذهب الشافعي، وكلها من القرن الخامس ومطالع السادس وبمثابة شروح لمختصرات ورسائل من القرنين الثالث والرابع. وإذا أضفنا إليها مختصر الخرقي الحنبلي، ورسالة ابن ابي زيد المالكي، والأسدية لابن الفرات، وهما مختصران من القرن الثالث، شرحا كثيراً في القرنين الرابع والخامس، نجد ان المذاهب الفقهية الحية حتى اليوم مرت بالعملية التطورية نفسها في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، حيث تحققت انطلاقتها الثانية، في الوقت الذي كان الحديث، وعلومه قد اكتملت في القرنين الثالث والرابع / اي العاشر الميلادي، عبر ظهور الجوامع الصحاح الخمسة او الستة للبخاري ومسلم وأبي داود والترمزي والنسائي وابن ماجه بين 250 و300ه. عندنا إذن تطوران ألفيان في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي: التطور الأول اكتمال ظهور بل وتطور النقل والرواية وعلومهما. فقد ظهرت كتب السنّة ودواوينها في القرن الثالث، واكتملت تماماً مع الزيادات مثلما فعل الحاكم النيسابوري في المستدرك، والبيقهي في السنن الكبرى، في القرن الرابع. وكان ذلك نتاج تطور تم في القرنين الثاني والثالث: ظهور المصنفات، وظهور كتب السنن، وظهور المسانيد، وظهور كتب السنّة، وكلها كتب في الرواية، لكن لها اساليب ترتيب مختلفة، ثم جاءت الصحاح والجوامع في النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع. وهي تجمع بين فنون التركيب السابقة بترتيب جديد، وقول بالتزام الحديث الصحيح. وإضافة الى كتب النقل والرواية الصحيحة، ظهرت كتب رجال الحديث والحرج والتعديل وتواريخ المحدِّثين، في ما بين القرنين الثالث والرابع ايضاً من مثل كتب البخاري ومسلم وابن ابي داود، وأبي حاتم والدارقطني وابن حِبّان. كما ظهرت كتب اصول الحديث او مصطلح الحديث مثل كتب ابي عبيد وابن قتيبة والرامهرمزي والحاكم. اما ما أتى بعد ذلك فليس غير زيادات وتدقيقات وشروح، إن لجهة جمع الحديث او تمييز رواياته ورواته، او لجهة علوم الحديث وأصول تمييزه ونقده. هذا هو التطور الألفي الأول، اي اكتمال جمع الحديث، واكتمال علوم الرواية في القرن العاشر الميلادي. اما التطور الآخر على مشارف الألفية الثانية فقد تم في مجال الفقه وعلومه. ففي القرنين الثالث والرابع التاسع والعاشر للميلاد ظهرت المختصرات الفقهية. ذلك ان آليات عمل الفقهاء، غير آليات عمل المحدّثين. المحدِّثون جمعوا مجموعات خاصة، تطورت الى مجموعات عامة، ظهرت مع ظهورها او نضحت علوم الرواية ونقد المرويات. اما الفقه فقد ظهر أعلامه الكبار كما هو معروف في القرنين الثاني والثالث. بيد ان خفوتاً من نوع ما حدث في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي او اننا لا نعرف الكثير عن الفقه في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري. فالذي كان اننا لا نعرف شروحاً ولا حواشي، على مؤلفات الكبار من الفقهاء في القرنين الثالث والرابع، بل هناك إقبال على كتابة موجزات او مختصرات من مؤلفات الكبار او من كلامهم وفتاويهم. ثم تبدأ الشروح الكبرى لهذه الموجزات في القرن الخامس وما بعد، من مثل شروح الماوردي الحاوي على مختصر المزني، ومن مثل البيان للعمراني على المهذّب لأبي اسحق الشيرازي، ومن مثل المبسوط للسرخسي الحنفي وهو شرح على الجامع الموجز للحاكم الشهيد الذي كان بدوره مأخوذاً من كتب محمد بن الحسن الشيباني تلميذ ابي حنيفة، ومن مثل الجامع الكافي لأبي عبدالله العلوي، في فقه اهل البيت من الزيدية، ومن مثل شرح ابن قدامة على مختصر الخرقي في ما بعد. والشروح الحنفية الكثيرة على مختصري الطحاوي والقدوري. والمدوّنة والمنتقى على رسالة ابن ابي زيد، والترتيبات الجديدة للموطأ وكلام الإمام مالك خارجه. وهكذا فإذا كانت علوم الحديث قد اكتملت على مشارف الألف الثاني، فإن الفقه وعلومه حققت انطلاقة جديدة نحو النضج والاكتمال، النضج في وسائل الاستنباط، والاكتمال في ظهور المذاهب وكتبها الجامعة، ومدارسها، في مطلع الألف الثاني. تدوين الحديث النبوي، ترافقه علومه، اكتمل إذن على مشارف القرن العاشر الميلادي، ثم ظهرت الزيادات والشروح والدراسات والاستشكالات في القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد. وهذا التطور نستطيع مراقبته بين القرنين الثامن والعاشر، وفي القرن التاسع الميلادي/ الثالث الهجري على الخصوص. اما الفقه الإسلامي فقد ظهر اعلامه الكبار في القرن الثامن وبدايات التاسع للميلاد. وترك بعضهم مثل مالك والشافعي مؤلفات، بينما جمع تلامذة ابي حنيفة وأحمد فقههما في حياتهما وبعد وفاتهما. لكن هذه المؤلفات لم يجر شرحها في القرنين الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، بل في ذاك القرن وحتى مشارف العاشر، جرت كتابة مختصرات وموجزات وجوامع من مؤلفات الجيلين الفقهيين الأول والثاني. ثم في القرنين العاشر والحادي عشر بدأت كتابة الشروح على هذه الموجزات والمختصرات بالذات، ومع الشروع في شرح المختصرات ظهرت المؤلفات في اصول الفقه وفي القواعد الفقهية وفي الخلاف الفقهي. ما معنى هذا كله؟ في الخلاصة نقول ان على مشارف الألف الثاني حدث أمران في مجال العلوم الإسلامية، وكتبها ومخطوطاتها: اكتمل تدوين الحديث، وظهرت مؤلفاته ومجموعاته الكبرى، كما ظهرت علومه في نقد الرجال، ونقد الرواية، وبدأت في القرن الحادي عشر الشروح على الصحاح والاستشكالات حولها. وخلال القرنين التاسع والعاشر للميلاد، ظهرت الموجزات والمختصرات الفقهية. وفي النصف الثاني من القرن العاشر للميلاد والنصف الأول من القرن الحادي عشر، بدأت الشروح على الموجزات والمختصرات، وظهرت علوم الفقه، ومنها علم الأصول، معلنة عن اكتمال المذاهب الفقهية، وظهور المؤسسات التعليمية المتخصصة لها ايضاً، مثل المدارس النظامية. بدأتُ هذا البحث بدراسة مخطوطتين في الفقه اليمني، إحداهما لمؤلف "زيدي" من خارج اليمن، والأخرى لفقيه شافعي من عمران بجانب زبيد. وقد كُتبتا اواخر القرن العاشر الميلادي، ومطالع القرن الحادي عشر. ثم تبين لي انهما شرحان على موجزات ومختصرات ظهر اكثرها في القرن التاسع الميلادي، ومطالع العاشر. فرأيت ان الأَولى تأمل هذا التطور في الفقه والحديث، بما في ذلك ربطه بالألفية. وقد ألقيتُ هذه القراءة الموجزة في مؤتمر المخطوطات الألفية في مكتبة الاسكندرية. وفي النقاش الذي دار بعد ذلك نبّه الأستاذ الكويتي المعروف في المباحث الجغرافية العربية الدكتور عبدالله يوسف الغنيم الى انه على مشارف الألفية الثانية حدث تطور مشابه في مجال الكتابة الجغرافية العربية. فحتى القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي غلب على الكتابة الجغرافية النزوع الفلكي والجغرافية النظرية كتب الأقاليم السبعة. وفي القرنين الرابع والخامس العاشر والحادي عشر للميلاد شاعت المؤلفات التي جمع اصحابها بين المعرفة بعلم الجغرافية المجسطي لبطليموس، وكتب الأقاليم الفارسية الأصل، والخبرة العملية من خلال الرحلات، والاهتمام بالتعرف الموضوعي على دار الإسلام، والآخرين خارج دار الإسلام. وقد ادى ذلك الى استقلال الفلك عن الجغرافية، وانكمشت الجغرافية النظرية الى مقدمات في مؤلفات الجغرافية العامة لدار الإسلام، قلب العالم المعمور في نظر الكتّاب والرحالة والمستكشفين في تلك العصور.